المحتوى الرئيسى

ليلى يوسف صديق: ظلموه حيًا وميتًا.. لكن.. المسامح كريم

07/23 11:06

«- بكيتك عيون أهل الأرض حولي

- فكيف أصون بين الناس دمعى»

هذه أبيات شعر بقلم ضابط السيف والقلم، «يوسف منصور صديق»، كتبها فى رثاء رحيل جمال عبدالناصر، من قصيدة له بعنوان «دمعة على البطل».

هذا البطل هو نفسه الذى كتب فيه -أيضاً- يوسف صديق قصيدة بعنوان «فرعون» عندما كان معتقلاً فى السجن الحربى قال فيها:

- أحقق فى الله ما أبتغي

- وما كنت أحسبكم تبتغون

- غداً.. تلتقى يا «جمال» الوجوه

- وتعرف قدرك ماذا تكون؟

ومات عبد الناصر «مؤسس» حركة يوليو، ومات صديق «منقذ» حركة يوليو، فهل التقت الوجوه -كما توقع يوسف صديق- عند رب كريم.. ربما.

ليلة 23 يوليو 1952 ومصر فيها ثكنات ومعسكرات الجيش بين أمرين، الأول ثورى، هدفه التحرك للقبض على السلطة، وإنقاذ مصر -من وجهة نظر ضباط الحركة- من الفساد، والخونة، والاحتلال، والتبعية، والثانى أمر عسكرى، ينام بعده الجنود فى العاشرة مساء بالتمام والكمال بالأمر!

وفى نفس الساعة والليلة الملك ورجاله والحكومة فى الإسكندرية لقضاء إجازة صيف هى الأخيرة، فى العهد الملكى، فى القاهرة هناك سبعة ضباط مؤسسين لتنظيم أطلق عليه «الضباط الأحرار»، فى حالة توتر، وترقب، وتواصل قبل ساعات من ساعة الصفر.. وكلمة السر.. «نصر»!

فى الثامنة مساء -من نفس الليلة- يدخل مندوب قيادة تنظيم الضباط الأحرار على قائده «البكباشى» -يوسف صديق- وأبلغه بموعد التحرك فى الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل، رد يوسف صديق: إذن أعطى الأوامر بالاستعداد، كان ذلك فى معسكر ضباط قوة مدافع ماكينة فى الهايكستيب، غير أن هذا الاستعداد وتحرك القوات كان يجب أن يتأخر ساعة كاملة، فموعد  التحرك كان الواحدة صباحاً. وبهذا الخطأ أنقذ يوسف صديق ثورة يوليو من الفشل، تحرك بقواته فى طريقه لقيادة أركان الجيش بكوبرى القبة، فى الوقت الذى كانت قيادة الجيش تكتب أسماء التنظيم وتجهز أمر ضبط وإحضار هؤلاء الضباط المتمردين والمتآمرين، فى الطريق بقواته احتجز كل من كان يقابله مرتدياً الزى العسكرى وعند مصر الجديدة احتجزت قواته -دون علم أو أمر- جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر.

الدكتور رفعت السعيد سنة 1966 زار يوسف صديق وكتب ما دار بينهما فى مقال نشر بمجلة «اليسار» عدد 1991 وقال له «وإنت فى الطريق ألقت قواتك القبض على جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر أليس كذلك؟ رد قائلاً: نعم! قال له: ألم تفكر فى أن تتركهما أسرى، ثم تقود أنت الحركة؟ رد فى براءة وإخلاص نحن لسنا أوغاداً».

دفع يوسف صديق ثمن ألا يكون وغداً ثمن نبل أخلاقه، وصدقه مع نفسه، وإيمانه بقضيته فى الحياة، وقناعته بأن هذا البلد يستحق أن يعيش بحرية، وكرامة فى ظل ديمقراطية حقيقية، دفع الثمن عندما تقدم باستقالته، مفضلاً النفى، وتحديد الإقامة، والسجن، والقهر، على أن يكون أداة بطش للحرية التى عاش ومات من أجلها، تقدم باستقالته لمجلس قيادة الثورة فى فبراير 1953 وهو على يقين من أن تجربته العسكرية والسياسية علمته شيئاً جميلاً فى الحياة، وما هو هذا الشىء؟ هكذا سأله مندوب مجلة «روزاليوسف» قبل رحيله، فقال له: تريد أن تعرف ما هو الأجمل فى هذه التجربة؟ قال المندوب: نعم! قال اكتب: «كن واثقاً أن الجيش قد أصبح من الوعى بحيث لا يمكن استخدامه ضد الشعب أو لمصلحة فرد أو أفراد، وأنه سيكون دائماً وأبداً جيش الشعب، وفى خدمة الشعب فحسب».

«أبى.. الذى لا يعرفه أحد» هذه الحلقة من الحوارات تختلف عما قبلها، وما بعدها.. لماذا؟

لأن التاريخ حتى الآن -من وجهة نظر الكثيرين- لم ينصف هذا البطل الجسور، هذا البطل المناضل البريء، هذا المخلص الوفى، هذا «المنقذ» الذى أنقذ «بالصدفة والخطأ» رأس جمال عبدالناصر من الإعدام، أو على الأقل الاعتقال ليصبح بعد ذلك جمال عبدالناصر.. الزعيم حبيب الملايين، ويبقى هو ما بين النفى والسجن والابتعاد عن السلطة، ولولا تدخل الرئيس محمد أنور السادات ما شيعت جنازته فى 31 مارس 1975 فى جنازة عسكرية، ولا نشر نعى وفاته فى الصحف، ولا صوّر التلفزيون جنازته.. السياسة كده!

اتصلت بالسيدة «ليلى يوسف صديق» ابنة الراحل من زوجته الثالثة والأخيرة، وحددنا معاً محاور اللقاء.. وقلت لها فى بداية الكلام ألم تشعرى يوماً وأنت بالقرب من أبيك أنه نادم على مواقفه التى اتخذها واستقالته المبكرة من تنظيم الضباط ومجلس قيادة الثورة؟ قالت: كان عمرى 12 عاماً عندما رحل أبى، وأستطيع أن أقول، إنى فى هذا العمر الصغير كنت دائماً بجواره، وكان دائماً مبتسماً، ويضحك، وسعيداً، ثم عندما كبرت، وبحثت، وقرأت مذكراته لكنى ما زلت أحتفظ بها عندى بخط يده.. اكتشفت أن «الرجل ده بالبلدى كده كان رجلاً عجيباً»، قلت: كيف، قالت: كنت تسأل فى بداية كلامك هل شعر بالندم أنه ترك السلطة؟ وأنا أرد عليك وأقول» لا.. يوسف صديق كان قديساً، كان راهباً، عالماً، قانعاً، هادئاً، راضياً، بما قدمه للوطن، دائماً فى البيت يضحك، ويلتقى بالناس، ويزور قريته وأهله فى محافظة بنى سويف ويستقبل الأصدقاء فى بيتنا.

- ناصر.. يا ناصر.. يا حرية

- ناصر.. يا وطنية.. يا حرية

- يا روح الأمة العربية.. يا ناصر

- اسمك فى قلوبنا أغنية

هذه كلمات ضمن مئات الكلمات التى تغنت بها حناجر عشرات المطربين ومنهم عبدالحليم حافظ فى جمال عبدالناصر.. فكيف كان رد الفعل عند يوسف صديق وهو يسمعها؟

هذا السؤال طرحته على السيدة «ليلى يوسف صديق» فترد وهى تضحك -ويبدو أنها قد ورثت الضحك والصفاء النفسى عن أبيها، وتقول: لو كنت تتحدث عن السلطة ونعيمها، وعن المجد وقوته، وعن القمة والصعود لها، فتأكد أن كل هذا لم يكن يشغل عقل وقلب أبى، يوسف صديق كان رجلاً متصالحاً مع نفسه، يكفيه القليل، ويرضيه أى شىء، ولا يعنيه إلا مبادئه فقط، وقضيته فقط.

تخيل مثلاً أن احتفالات ثورة يوليو منذ أن بدأت وحتى رحيله لم توجه له دعوة للحضور، وهو الذى أنقذها، وحتى اليوم لم يُمنح وساماً ولا تكريماً من القوات المسلحة، وهو الضابط ابن الضابط وجده كان أيضاً ضابطاً واستشهد فى السودان إبان الثورة المصرية، كان أبى معجوناً فى العسكرية المصرية، ومؤمن أشد الإيمان بها، أعطاها عقله، وعمره، وشبابه، لكن كانت نقطة الخلاف الوحيدة بينه وبين عبدالناصر هو أنه كان يرى أن الجيش مكانه الثكنات، والسياسة لها الأحزاب والسياسيون.

ولد فى 3 يناير 1910 بقرية زاوية المصلوب مركز الواسطى - محافظة بنى سويف، كان والده اليوزباشى منصور يوسف صديق ضابطاً بالجيش المصرى، وجده هو يوسف صديق وكان ضابطاً بالجيش المصرى بالسودان، وكان حاكماً لإقليم كردفان عند قيام الثورة المهدية، وقتل على يد الثوار وسائر أفراد أسرته، ولم ينج منهم إلا ولده منصور وأخ أصغر له، وتمكنا من الهرب إلى مصر، التحق يوسف صديق بالكلية الحربية وتخرج عام 1933 ملازماً ثانياً بالجيش، كان فى طليعة القوات التى دخلت فلسطين عام 1948 وشارك بدور بارز فى حرب فلسطين.

نعود من فلسطين إلى بيته فى المهندسين، حيث ما زالت تعيش فيه إحدى أولاده السيدة ليلى وهو منزل إيجار قديم، قلت لها: ماذا ترك لكم فى الحياة؟ قالت: الستر، والسيرة الوطنية الحلوة، لم يترك لنا مالاً، ولا جاهاً، ولا سلطة، تخيل لا يوجد شارع فى مصر كلها يحمل اسم هذا الرجل، ووضع تمثال له مع ضباط يوليو فى القلعة، جاء بعد جهد من أولاده بحكم محكمة، حيث تداولت القضية فى المحكمة عشر سنوات.

- قالت: فى يوم من أيام شهر أكتوبر عام 1951 وكان وقتها برتبة البكباشى -أى مقدم- جاءت له رسالة عن طريق ضابط اسمه «وحيد رمضان» لينضم للضباط الأحرار.. ووافق والتقى جمال عبدالناصر وفى أول لقاء بينهما وكان فى القاهرة سأله عن الضباط المشاركين معهم، حيث يظل هو أقدم منهم باستثناء اللواء محمد نجيب. قلت لها: وما الذى دفعه للموافقة على الانضمام للحركة؟ قالت: وقتها سأل عن أهداف الحركة فقالوا له: الحصول على حياة ديمقراطية سليمة، تتوافر فيها الحرية الكاملة للشعب، والتنديد بسياسة الحكم الملكى الفاسد، وهذه أهداف كانت تطابق أهدافه وفكره ورغبته، قلت لها: وهل هذه الأهداف كانت توافق فكر عبدالناصر؟ قالت: ارجع للتاريخ وأنت تعرف، قلت لكننى سأعود الى رسالة بعث بها يوسف صديق إلى اللواء محمد نجيب بصفته -حينذاك- رئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة، قال له فيها «لقد ضللنا الطريق، فلا يكون هناك تصحيح للوضع سوى أن نعود إلى حيث اختلط علينا الأمر، فلنصحح طريقنا»، وتصحيح الطريق من وجهة نظره كان أن الموقف ينحصر فى أحد حلين لا ثالث لهما، وهو عودة البرلمان المنحل ليتولى حقوقه الشرعية أو تأليف وزارة ائتلافية تمثل القيادات السياسية المختلفة القائمة فعلاً فى البلاد، وهى «الوفد» و«الإخوان المسلمين» و«الاشتراكيون والشيوعيون»، وتشرف هذه الحكومة على غجراء انتخابات للبرلمان فى أسرع فرصة حتى تختار البلاد حكامها الشرعيين ويعود الجيش إلى ثكناته، واقترح أن يكون رئيس الوزارة هو الدكتور وحيد رأفت، كان هذا رأيه وفكره واختياره، وهو أن يختار الشعب حكامه، لكن جمال عبدالناصر ومن معه -باستثناء محمد نجيب وخالد محيى الدين- كان لهم رأي آخر وهو أن يختاروا هم الشعب الذى يحكموه، وقد حكموه وتحقق لهم ما أرادوا، وليس ما أراد يوسف صديق.

- قالت: كان دائما يضحك، وزوجاته الثلاث حتى وفاته كن على زمته، لم يطلقهن.

- قالت وهى تضحك بشدة: راجل فاضى بقى فقال لنفسه «دلع» نفسك بقى.. طالما استبعدوك، ونفوك، وحددوا إقامتك.. تعتقد ما الذى كان سيفعله غير أنه سيقوم بالاهتمام بحياته وأولاده وشئونه الخاصة.

- كانت احتياجاته فى الحياة بسيطة، ونحن طلعنا نسير على دربه، بمعنى أنه علمنا وزوجنا ووقف بجوارنا من خلال معاشه الذى كان يصرف له، لم يهتم بعمل تجارى أو زراعى أو اقتصادى لسبب بسيط وهو أنه شخص شديد التواضع، واحتياجاته بسيطة، وكما قلت لك لم يترك لنا إلا منزل إيجار قديم، ما زلت أنا أعيش فيه حتى الآن.

- قالت: الذى يكون مهموماً بالوطن، وقضاياه، فالمؤكد ستجده شخصية مثقفة، والثقافة تأتى من العمل السياسى، والعمل السياسى تحتاج أن تكون ملماً بالتيارات السياسية، وفى ظل وجود احتلال، ستجد الكل مهتماً بالشأن العام سواء كان عسكرياً أو مدنياً.

يوسف صديق اقترب من الإخوان المسلمين فى ذلك الوقت فترة، ثم ابتعد عنهم لجودهم الفكرى والعقائدى، ولم يستمر معهم إلا شهوراً قليلة، بعدها اقترب من التيار الشيوعى بسبب دور الاتحاد السوفيتى فى الحرب العالمية الثانية، وأعجبته فكرة الشيوعية، لأنها كانت تغرس حب العدل فى النفوس، وتعمل على تحقيق السلام على الأرض، وإقامة المحبة بين الناس، وهو نفسه قال فى مذكراته التى تحمل عنوان «ليلة ثورة 23 يوليو» أوراق يوسف صديق أن هذه الأفكار والمبادئ لا تتعارض مع عقيدته الدينية.

- قالت: لا.. تركهم فى سنة 1951 مثلما ترك الإخوان قبلهم، تركهم لأنهم انقسموا على أنفسهم، وفى نفس الوقت التقى بالضباط الأحرار، وهو كان لديه قناعة أن المنقذ للبلاد هو الجيش، قلت هذا صحيح.. أليس هو الذى كتب ووقف يهتف في حضرة رجال الوفد قبل 23 يوليو للجيش ويقول:

- ضعوا الأقلام وامتشقوا الجساما

- فرب السيف قد حمل الوساما

- هى الدنيا صراع لا اقتناع

- بغير الجيش لن نحيا كراما

- ومن نادى بغير الجيش يهذي

- وعن نور الحقيقة قد تعامى

- ردت وهى تقلب فى أوراق أمامها، وكأنها تسترجع شيئاً ما، الخلاف هنا كان بسبب دور الجيش بعد سقوط الملك، أبى كان -كما قلت لك معجوناً من خليط اسمه العسكرية المصرية، كان حتى رحيله يعشقها عشق المحب الصادق الأمين، لكن فى نفس الوقت كان يرى أن دورها يقتصر على حماية الوطن، أما السياسة لها ناسها.

- ردت وقالت: طبعاً.. كان يزوره باستمرار خالد محيى الدين وحسين الشافعى والرئيس السادات كان يتواصل معنا ومعه حتى رحيله وكل تلاميذه وأصدقاؤه مثل اللواء عبدالمجيد شديد أحد الضباط الأحرار وغيرهم من الأسماء التى لا تحضرنى حالياً.

قلت لها وأنا أنظر لصورة له معلقة على الجدران.. هل عاش ومات مظلوماً؟

قالت: تستطيع أن تقول إنه عاش ومات راضياً، وقانعاً، ومتواضعاً، ومسامحاً لكل من أساء إليه، ويكفى أن هناك أجيالاً شابة اليوم تسأل وتبحث وتكشف الغطاء عن بطولة ورجولة وصلابة وصدق يوسف صديق.

قلت لها فى نهاية الحوار.. لو طلبت منك أن تكتبى له رسالة فى برقية عاجلة.. فماذا تكتبين؟

- قالت: أكتب «وحشنى يا بابا.. ويا ريت تعرف إننا عايشين فى الدنيا على حسك! يا أسد ثورة يوليو الذى ظلم حياً وميتاً، ولكن تأكد أن مصر لا تظلم أولادها المخلصين.. وأن التاريخ مهما حرفوه أو زوروه أو «مشيوا» عليه بأستيكة، فتأكد أنه سيأتى يوم ليكتب صفحة جديدة فى حياة الوطن، تنسب الفضل لأهله، وتعطى كل ذى حق حقه.

Comments

عاجل