المحتوى الرئيسى

هل حسم فشل الانقلاب صراع النموذجين بتركيا؟

07/22 14:47

مكنت وسائل التواصل الحديثة من متابعة محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا لحظة بلحظة، وهي الوسائل نفسها التي مكنت رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من الاتصال بالناس وبفريقه الحكومي رغم احتلال الانقلابيين مقر القناة التركية الرسمية وبثهم منها نبأ انقلابهم وأطواره على الهواء.

ومما أظهرته التقارير والصور والأخبار العاجلة أن في الصراع الميداني الدائر بعض تعقيد؛ وقد نجانب الدقة إن قلنا هو بين الشعب ومؤسسة الجيش رغم مواجهة الجماهير دبابات الانقلابيين. وقد نقع في الاختزال إذا اعتبرناه صراعا بين القوات الخاصة وبعض وحدات الجيش.

الصراع في حقيقته بين نموذجين؛ نموذج أول يريد أن يكون للجيش التركي دولة، وهذا النموذج سليل تقاليد كمالية تجد جذورها في فكرة "الدولة/ الأمة" كما ظهرت في أوروبا في القرن الثامن عشر. وللكمالية تأليفها الخاص بين الدين والأمة والدولة وقد كان لرافد جمعية الاتحاد والترقي أثرها على النموذج الكمالي.

كان لفكرة "الأمة/الدولة" أثرها في البلاد العربية، وتبلورت سياسيا من خلال التيار القومي الذي لم يستطع أن يكون عروبيا لعجزه عن ترجمة فكرة "الدولة/الأمة" إلى الثقافة العربية الإسلامية فانتهى المشروع الوطني عند أنظمة عسكرية شمولية مستبدة واستقر ما نسميه نموذج "للجيش دولة"، وهو لا يختلف عن نموذج " للزعيم دولة" الذي ظهر في المجال العربي مع الأنظمة مثل النظام البورقيبي. وكان المشترك بين هذه الأنظمة العسكرية والمدنية صفة الاستبداد.

وخاصية الاستبداد في النظام العربي هو أن بنيته ثلاثية (المجتمع/الدولة/الزعيم أو المجتمع/ الدولة/ الجيش)، فيكون الزعيم أو مؤسسة الجيش ( جيش التحرير مثلا) قوة فوق القانون توظف الدولة والمجتمع في الغالب، لمآربها الخاصة. وهذه البنية الثلاثية مانعة من الاختيار الحر؛ لذلك فإن أهم معنى للإطاحة بالاستبداد في بعض أقطار الربيع، من بينها تونس ومصر، هو تقويض هذه البنية الثلاثية واستبدالها ببنية ثنائية (مجتمع/دولة) أتاحت الاختيار الشعبي الحر.

ونموذج ثان يريد أن يكون "للدولة جيش"(بنية ثنائية)، وقد كان للحركة السياسية والحقوقية والدستورية والثقافية في تركيا دور في هذا السبيل. وقد قام جدل في تركيا المعاصرة بين الحركة الديمقراطية التي تسعى إلى أن يكون "للدولة جيش" والمؤسسة العسكرية التي ترى في نفسها حارس الكمالية والدولة التركية والقيم العلمانية. فكانت -على خلاف المؤسسة العسكرية في المجال العربي- تسمح بالاختيار الحر ولكنها تسمح لنفسها أيضا بأن تلغي نتائجه السياسية متى قدرت ذلك، وهذا ما جعل جدلية الانتخاب والانقلاب أحد ثوابت المشهد السياسي التركي وتجربة الدولة على مدى عقود طويلة.

وتأتي المحاولة الانقلابية الأخيرة ضمن هذه الجدلية، ولا يعرف إن كانت تتويجا لها وخروج التجربة السياسية ومشروعها الوطني إلى مرحلة جديدة قد يكون من ملامحها استقرار الديمقراطية.

ساهمت العائلات السياسية المختلفة في هذا المسار بغاية تأسيس الديمقراطية وهو ما عبرنا عنه بنموذج "للدولة جيش". وقد كان لليسار التركي دور مهم في هذا الاتجاه ولكنه عندما فاز بالانتخابات في 1980 جوبه بانقلاب قاده الجنرال "كنعان إفرين"، وتم الزج بقادة المعارضة بولند أجاويد وسليمان ديميريل ونجم الدين أربكان وأرسلان توريكش وببعض البرلمانيين والقيادات النقابية في السجن.

ومن بين مبررات الانقلاب التي وردت في بيان العسكر وجود "أزمة تهدد بقاء الدولة والشعب". كما جاء البيان دعوة إلى "التمسك بمبادئ أتاتورك"، وأن الانقلاب موجه ضد "الفوضى والإرهاب" من ناحية وضد "الشيوعيين والفاشيين والعقائد الدينية المتزمتة"، من ناحية أخرى.

تكرر الأمر نفسه في 1997، وكان الانقلاب على الأستاذ نجم الدين أربكان وحزبه الرفاه الذي حكم بالتناوب مع تانسو تشيللر. وسمي قادة العسكر إيقافهم للمسار الديمقراطي "انقلاب ما بعد الحداثة"؛ إذ تم حل الحكومة دون حل البرلمان. ونسب الانقلاب إلى جماعة سرية في الجيش ذات جذور كمالية تسمى باتي كاليسما جروبو ( جماعة دراسة الغرب)، وكان تأسيس حزب العدالة والتنمية ردا على هذا الانقلاب، وقد تمكن من الفوز بالانتخابات بعد خمس سنوات من تأسيسه.

ما حدث مساء 15 يوليو/تموز 2016 يمثل تتويجا لصراع النموذجين. ولنا أن نقول إن الكلمة الحاسمة كانت لنموذج "للدولة جيش"، وكان هذا التتويج على يد حزب العدالة والتنمية. ولئن كان انتصار نموذج "للجيش دولة" في انقلاب 1997 على يد جماعة سرية كمالية، فإن انتصار نموذج "للدولة جيش" مساء الجمعة الخامس عشر من يوليو/تموز كان مثلما أشيع، بإفشال مخطط جماعة "فتح الله غولن" ذات الجذور الصوفية الإسلامية، وهي أقرب إلى السرية. ولها نسيج جمعياتي واسع وامتداد في الجيش ومؤسسات الدولة وتسميها السلطات التركية بالكيان الموازي.

كان صراع النموذجين في بداياته، داخل المرجعية الغربية بين الشيوعيين و"جماعة دراسة الغرب" فصار في مراحله الأخيرة داخل المرجعية الإسلامية بين أعلى تعبيرات الإسلام السياسي وجماعة غولن.

العدالة والتنمية مرحلة من تطور ظاهرة الإسلام السياسي قبل أن تكون اسما لحزب، والإسلام السياسي ظاهرة تاريخية عرفت انطلاقها في نهاية عشرينيات القرن الماضي. وتمثل العدالة والتنمية أعلى مراحلها، ويرتبط بلوغ الإسلام السياسي هذه المرحلة بمهمة تأسيس الديمقراطية. ومع تحقيق هذه المهمة تحل الظاهرة في هوية انتظام وطنية ما بعد إيديولوجية.

جاءت ثورة المجال العربي لتؤكد وظيفة تأسيس الديمقراطية وارتباطها بالإسلام السياسي؛ فقد وفر السياق الثوري شروط الاختيار الحر (مصر وتونس مثالا)، فكانت أحزاب الإسلام السياسي في صدارة من تم تفويضه لمهمة التأسيس.

تعثر التأسيس، واستقر المشهد عند مسار انتقال ديمقراطي. ويعود هذا التعثر إلى عدة أسباب منها ما يتعلق بالإسلام السياسي نفسه ولا سيما عجزه عن بلوغ مرحلة "العدالة والتنمية"( النهضة نموذجا)، ومنها ما يتصل بالطبقة السياسية والنخب الثقافية (الطبيعة الاستئصالية لجانب من النخبة السياسية والثقافية الحاكمة في تونس، والطبيعة الهجينة والمتفسخة لجانب من النخبة في مصر).

في تركيا كان وضع الإسلام السياسي مخالفا للمجال العربي، فقد بلغ الإسلام السياسي مرحلة العدالة والتنمية وهو ما جعل منه أحد أهم شروط تأسيس الديمقراطية. وفشل الانقلاب الأخير وانتصار نموذج "للدولة جيش" يمثل مرحلة متطورة من تاريخ تركيا الحديث. وقد ساهمت أحزاب وطنية ويسارية واجتماعية في بلوغ هذا النموذج وانتصاره، وكان للإسلام السياسي في تركيا الذي بلغ مرحلة العدالة والتنمية شرف تتويج هذا الانتصار التاريخي. وهو انتصار محدود بالمجال السياسي التركي المجاور لمجالين آخرين هما المجال العربي والمجال الإيراني.

ولئن تمكن المجالان التركي والإيراني من بناء كيانيهما السياسيين منذ زمن بعيد فإن المجال العربي مازال مفككا بسبب عاملين رئيسيين: الاستبداد والاحتلال (الكيان الصهيوني). ولقد كانت الغاية التي تجري إليها الثورة في المجال العربي هي بناء الكيان السياسي العربي الموحد. ولكن وضع المجال العربي من ناحية، وطريقة تعامل المجالين التركي والإيراني معه والوضع الدولي من ناحية أخرى، كانت من أسباب عجزه عن الوصول إلى الغاية المذكورة.

كان من مظاهر العجز انتصار نموذج "للجيش دولة" في مصر، وتحول بعض سياقات الانتفاض "المواطني" في بعض دول الربيع إلى احتراب أهلي. ومن أخطر مظاهر هذا العجز ما آلت إليه بعض السياقات من "تطييف"(إثارة النعرات الطائفية). وقد كان لإيران دور واضح في "تطييف" أقطار ثلاثة تشهد اليوم احترابا أهليا بدون أفق، يغذيه تدخل إقليمي وصراع محاور مكن للإرهاب والتكفير، فتعقد المشهد. وهذه الأقطار هي اليمن والعراق وسوريا.

والواقع أنه لن يكون من حل خارج السياق الطائفي لوضع تم "تطييفه"، ولم يكن من حضور يذكر للبعد الطائفي في تعاطي تركيا مع المجال العربي لأن علاقة تركيا التاريخية بالمجال العربي تختلف عن علاقة إيران به. وقد يعود الأمر إلى أن تركيا تنتمي إلى دائرة "أهل السنة والجماعة" لا من زاوية مذهبية ولكن من زاوية ثقافية أنثروبولوجية، إذ أن "أهل السنة والجماعة" باعتبارهم كتلة تاريخية في عرف الدراسات المختصة ليسوا طائفة وإنما هم الأمة.

في حين أن الشيعة والدروز والعلويين وسائر النحل الدينية طوائف في الأمة. ومن شأن الطوائف في كل أمة انشغالها الدائم بتميزها ورسم حدودها وسعيها إلى تحويل جانب من الأمة إلى "عقيدتها" لاعتقادها أنها "الأصل قبل الخلاف" و"النموذج قبل الانحراف".

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل