المحتوى الرئيسى

مصير تركيا بعد فشل الانقلاب.. "السلطان" يدخل الامتحان

07/21 10:05

دخل السلطان «أردوجان» الامتحان مجبراً، ولم يعد أمامه سوى الإجابة عن كل الأسئلة.. ويضمن الحد الأدنى من النجاح.. وإلا سيرسب بالثلث فى أصعب اختبار وضعه له الجيش ويدخل بالدولة العلمانية التى أسسها كمال أتاتورك قبل 93 عامًا فى دوامة الحرب الأهلية والصراعات الدموية مع الجيش.

حتمًا سيواجه أردوجان اسئلة صعبة وشائكة، ورغم أنه مهّد الطريق للاختبار بإجراءات احترازية وترتيبات حاسمة، كشفت وجهه القمعى، واستعداده السريع للانقلاب على الديمقراطية، وبيعها بأرخص الأثمان، مقابل الحفاظ على عرش السلطان والحفاظ على «حزب العدالة والتنمية» الذى يحركه كيفما يشاء.

رغم كل ذلك، يبدو السلطان مهزوزًا مضطرباً، يشعر بالخطر ويخشى المستقبل والمصير.

كل الدلائل والمؤشرات تؤكد أن تركيا قبل الانقلاب لن تعود كما قبل.. فماذا سيفعل أردوغان.. وهل ينهى الانقلاب أحلام التوسع التى كان يعيشها السلطان قبل مساء الجمعة الماضية ويكشف بدايات التصدع فى نظام يعيش أوهام عودة «العثمانلية» من جديد فى زمن آخر مختلف؟ وهل خلفت محاولة الانقلاب جرحًا فى الجسد التركى، وبعد نجاة رقبة «أردوغان» هل سيسعى إلى «لم الشمل»، أم سينتقم ويلف الحبل حول أعناق أعدائه ومعارضيه وما موقف الجيش التركى وقياداته بعد أن تم ذبح بعض الجنود والضباط علناً وفى الشارع على أيدى أنصار «السلطان»، وهل هذا الجيش الذى يعد من أقوى جيوش العالم سيبتلع الإهانة أم سينفض مجددًا للأخذ بالثأر؟ وهل سيبقى فتح الله كولن صديق الأمس، وعدد اليوم فى منفاه بأمريكا أم سيتناول حبوب الشجاعة ويأتى لينقذ بلاده من براثن السكان؟

الانقلاب ينهى أحلام التوسع ويكشف بدايات التصدع

كان أهم طموحات الرئيس التركى رجب طيب أردوغان إعادة المجد العثمانى القديم لبلاده، وأن يكون هو شخصياً سلطاناً عثمانياً جديداً لديه ما كان لدى سلاطين تلك الدولة من نفوذ يمكنه من إلحاق كل الدول المحيطة بتركيا إلى خلافة وإمبراطورية يقوم هو بتأسيسها. أحلام التوسع التى طالما شغلت مخيلة هذا الرجل وطالما ما كانت محل تندر من معارضيه فى الداخل والخارج تحطمت عدة مرات مع صدامه المستمر وتدخله المتطفل فى شئون غيره من البلدان المحيطة، لكن الانقلاب الذى وقع الجمعة الماضى، ورغم فشله، أنهى أسطورة هذا الرجل وأحلامه معاً.

لم يكن الرجل يتخيل أن أحداً يمكنه أن ينازعه سلطاته فى بلاده، ليفيق الجمعة الماضى على ضربة موجعة تؤكد أن جيشه ذاته ليس على قلب رجل واحد وأن فصيلاً غير قليل منه يسعى للإطاحة به.

لقد أظهرت ردة الفعل التى تتسم بالقمع إزاء مؤسسات الدولة وعناصرها أن الأيام القادمة حبلى بكثير من الأحداث، فحملة التطهير فى الجيش والقضاء والشرطة والعديد من مؤسسات الدولة لا تعنى أن السلطة ستدين للرئيس التركى، بقدر ما ترجح وقوع انقسامات عميقة داخل هذه المؤسسات إزاء تصرفات القيادة التركية، ستنتقل حتما إلى الشارع بما ينذر بمخاطر الحرب الأهلية.

الأهم من ذلك أن عمليات التطهير الواسعة ستجرد الدولة من أغلب الكفاءات الموجودة فى البلاد التى تواجه أزمات طاحنة فى محيطها الإقليمى تؤثر على وجودها ذاته.

التأثير الأكبر سيقع حتماً على الجيش التركى مع استمرار التنكيل بقياداته وإهانة أفراده، ولن يكون أمام مؤسسة الجيش إلا الاستمرار فى طاعة القائد الأعلى، لكن بنفسية المهزوم وهى ستضعف قدرة أفراده على التعامل مع التحديات العسكرية التى تهدد حدود تركيا ووجودها ذاته سواء فى سوريا أو فى العراق أو من حزب العمال الكردستانى الذى يستهدف الانفصال عن تركيا بهدف تكوين دولة كردستان مع أكراد العراق وسوريا. ولو حدث هذا ستكون بداية التقسيم لتركيا إلى دويلات صغيرة سنية وعلوية وتركمانية وكردية. وساعتها ستكون المفارقة، فالقائد الذى يحلم لبلاده أن تكون إمبر اطورية واسعة سيجد نفسه هو المسئول عن تقسيمها.

أما إذا اختارت مؤسسة الجيش العصيان والتمرد، فلن تقبل إلا بإطاحة الرئيس عبر انقلاب آخر سينجح حتما فى إطاحة أردوغان إذا تم الإعداد له جيداً. وسيكون الثمن استقرار تركيا، حيث ستدخل البلاد فى حروب ميليشيا سيخوضها أصحاب المصلحة فى تقسيم البلاد فى الداخل والخارج.

التناقضات والمصالح السياسية داخل هذا البلد العريق كانت دوماً فى حدود الأمان. لكن حالة الاستقطاب التى خلقها أردوغان خلال حكمه وعجزه عن إدارة أى نوع من التوافق السياسى فاقمت من حدة هذه التناقضات للدرجة التى تفتح الباب على كل السيناريوهات.

أيضا بالرغم من الدور الذى لعبه الجيش التركى فى الحرب على داعش، سارعت فرنسا عقب الانقلاب إلى التشكيك عبر وزير خارجيتها جان مارك أيرولت فى جدوى مشاركة جيش تركيا المنقسم فى هذه الحرب. لكن بمد الخط على استقامته كيف سيحمى هذا الجيش مقدرات البلاد سواء فى ردع انفصالى حزب العمال الكردستانى أو حتى فى الاضطلاع بدوره فى حلف شمال الأطلنطى.

خرجت تركيا من هذا الانقلاب الفاشل مهزومة بعدما فقدت ثقة الحلفاء فى القيام بأية أدوار تليق بقوتها وحرفية جيشها. لن تكون لأنقرة كلمة مسموعة فى الملف السورى أو حتى فى إعادة رسم خرائط المنطقة بعد اضطراب الأوضاع فى سوريا والعراق، إذ هى نفسها باتت مفتوحة على مصراعيها لمثل هذا السيناريو.

العفو عند المقدرة.. أم الدفن فى المقبرة؟

مع فشل الانقلاب الذى شهدته تركيا الجمعة الماضى، توالت التساؤلات حول ملامح المشهد السياسى الداخلى فى أنقرة. كان أبرز الأسئلة ما إذا كان انتصار الرئيس التركى رجب طيب أردوغان سيحول نظامه إلى نظام استبدادى يحكم فيه قبضته على كل السلطات، وحزبه إلى حزب شمولى يسحق كل معارضيه، أم سيدفعه الحدث إلى تغيير سياساته التى خلقت عبر سنوات حكمه لتركيا العديد من المعارضين، ليبدأ عهدًا جديدًا من التوافق والانفتاح على من يخالفونه الرأى للتخفيف من حدة الانقسامات التى تمزق بلاده.

كانت هناك عوامل عدة ساعدت أردوغان وحزبه على إحباط الانقلاب، لكن أبرزها وأكثرها رمزية، إجماع أحزاب المعارضة الكبرى، وأهمها حزب الشعب الجمهورى العلمانى والحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطى الكردى التركى، على رفض الانقلاب العسكرى. لقد كانت هذه الأحزاب التى عانت طيلة السنوات الماضية من استبداد أردوغان وهيمنة حزب العدالة والتنمية على مؤسسات الدولة، واضحة فى وقوفها إلى جانب المسار الديمقراطى متناسية كافة الخلافات.

يفترض بالرئيس التركى أن يدرك أن هذا الموقف الشجاع من أحزاب المعارضة يمثل بابًا للتوافق معها فى حل كثير من القضايا السياسية الخلافية فى بلاده لتخرج تركيا أكثر وحدة وقوة، إلا أن مراقبين يخشون أن يستغل أردوغان وحزبه ذلك لإحكام سيطرتهما على الحكم.

 تنذر التصريحات الأولى للرئيس التركى بعد فشل الانقلاب ببدء مرحلة قمعية جديدة. وفى أول مؤتمر صحفى عقده بعد بدء عملية الانقلاب، قال الرئيس التركى إن تركيا بعد هذا التمرد لم تعد مثلما كانت فى الماضى، وتوعد بمحاسبة المتورطين ولا سيما خصمه فتح الله كولن المقيم بالولايات المتحدة.

من الطبيعى أن تتم محاسبة ومحاكمة المتورطين فى هذا الانقلاب، إلا أن مراقبين يخشون أن يستغل أردوغان ذلك للانتقام من خصومه. وبالفعل بدأت سلطاته فى احتجاز وعزل نحو 3 آلاف من القضاة وممثلى الادعاء مقربين من كولن، وأمرت باحتجاز بعضهم، بينهم قضاة بالمحاكم العليا. ربما يكون ذلك تمهيداً لتحقيق حلمه بتغيير النظام من برلمانى إلى رئاسى يكون فيه الرجل الأوحد.

بينما يرى آخرون فى الإجراءات القمعية الفورية التى يتخذها أردوغان مجرد نشوة عابرة يسعى من خلالها إلى إظهار أنه الرجل القوى المنتصر، لكنه كسياسى محنك يعرف الواقع السياسى جيداً ويدرك أن المجتمع التركى منقسم بدليل نتائج الانتخابات البرلمانية التى وقف فيها نصف المجتمع مع أردوغان، والنصف الآخر ضده وأنه لن يستطيع السير فى طريق القمع إلى مداه، خاصة أنه يعرف مخاطر ذلك على بلاده ومؤسساتها. وهو كسياسى يعرف أن شركاءه فى الانتصار هم الأحزاب العلمانية والأكراد الذين لم يؤيدوا الانقلاب رغم خلافاتها العميق معه، وبالتالى ستكون هناك فواتير واجبة السداد على أردوغان فى المرحلة المقبلة.

ويدافع أصحاب وجهة النظر هذه عن منطقهم بالقول إن الرئيس التركى لديه غريزة بقاء ستجبره على التعامل مع المشهد السياسى الداخلى بعقلانية وحكمة أكثر حتى تتجاوز البلاد هذه الأزمة، ولن يتم ذلك إلا بعفو ومصالحة شاملين مع الجميع سواء فى مؤسسات الدولة أو المعارضة.

كما أن حقائق الأمور وموازين القوى على الأرض تغيرت، فتركيا اليوم ما بعد الانقلاب غير تركيا الأمس ما قبل الانقلاب، فلا المجتمع الدولى ولا الاتحاد الأوروبى ولا الولايات المتحدة ستسمح لأردوغان بمراكمة المزيد من الصلاحيات السلطانية لشخصه وتحويل النظام السياسى من برلمانى إلى رئاسى.

أيضاً الموقف المشرف لأحزاب المعارضة سيمكنها من حصد المزيد من الثقة فى الشارع التركى فيما تقول من آراء وبرامج بحيث تستطيع أن تحشد الشارع مرة أخرى معها لمنع انقلاب الرئيس نفسه على الأسس الدستورية الجوهرية للبلاد. وأى عناد من أردوغان لفرض نظام رئاسى استبدادى فى بلاده، سيفتح باب الحراك الداخلى وربما باب الحرب الأهلية فى تركيا، وهو ما لا يتمناه أى شخص فى تركيا أو خارجها.

هل انقلاب تركيا كان مسرحية؟

لم يكن سيناريو الأحداث التى شهدتها تركيا الجمعة الماضى معداً كله بمعرفة من قاموا بالانقلاب، لكن السيناريو تدخل فيه الرئيس رجب أردوغان بنفسه، فأكمل عليه ووضع له نهاية خلاف التى سعى إليها قادة الانقلاب.

كشفت مصادر مطلعة وثيقة الصلة بالملف التركى أن المُخابرات التركية تلقت معلومات عن تدبير انقلاب، سيقوم به عناصر من الجيش، قدمها أحد رجال وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، لرئيس المُخابرات التركية، وأكدها جهاز المخابرات الإسرائيلى «الموساد» من خلال أحد عناصره، يوم الأربعاء 6 يوليو.. وتم عرض المعلومات على الرئيس، فدعا لاجتماع عاجل بمقر المخابرات، حضره: رئيس الوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم بن على بلدريم، ورئيس أركان الجيش خلوصى أقار، ووزير الداخلية افكان آلا، ورئيس المخابرات حاقان فيدان، وصهر الرئيس زوج ابنته إسراء وزير الكهرباء لبرات البيراق.. وتقرر فى الاجتماع بعد مُناقشات طويلة السماح لمدبرى الانقلاب بالبدء فى تنفيذ مُخططهم، تحت أعين ومراقبة المخابرات، ومحاصرتهم جيداً حتى لا تنفلت الأمور.. ورغم تخوف الرئيس أردوغان من المغامرة بمسايرة الانقلابيين، فقد وافق رئيس الوزراء ورئيس حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، ورئيس المخابرات، وصهر الرئيس وزير الكهرباء بيرات البيراق، على مُجاراة المتمردين بِحرص شديد ويقظة، واستغلال الحدث فى تصفية المعارضين الموالين للمعارض فتح الله جولن المقيم فى أمريكا، ومعظمهم من ضباط الجيش والقضاة، وتهيئة المناخ لإجراء تعديلات دستورية وقانونية تحصن الرئيس وتوسع اختصاصاته وسلطاته، وتُغطى على تدنى شعبية الرئيس، بعد اعتذاره لروسيا، وتعويضها عن إسقاط طائرة لها قبل شهرين، وبعد التطبيع مع إسرائيل.. وتقرر فى الاجتماع توزيع الأدوار ليقوم الحزب بالدور الأكبر لحشد أعضائه والمتعاطفين معه، واستقطاب نشطاء الأحزاب.. وتم بالفعل وبسرعة كبيرة دعوتهم تنظيمياً للنزول فى الشوارع والميادين واحتلالها، رغم حظر التجوال، ومطالبة قادة الانقلاب الشعب بعدم الخروج. وتحمًّلت القوات الخاصة، وميليشيات من حزب العدالة والتنمية سبق تدريبها، وعناصر مسلحة من المخابرات، مسئولية المواجهة فى المناطق الحيوية والمقار المهمة كدار الإذاعة والتلفزة، والمطار، ومقار الحكم، وإقامة الرئيس والبرلمان.. ومالت المناقشات فى الاجتماع إلى ضرورة الإبقاء على مواقع التواصل الاجتماعى عبر الإنترنت، حتى تكون وسيلة الحزب للتواصل مع أعضائه، وتحريكهم حيث يريد وعلى وجه السرعة، وهو ما حدث بالفعل، حتى إن «أردوغان» نفسه استخدام تلك الوسائط للتواصل مع أنصاره، يحثهم على النزول إلى الشوارع، رغم مُحاولاته السابقة تعطيل هذه الوسائط، وإصدار قانون يسمح له بإغلاقها تماماً..

وكشفت المصادر أنه ومع الإعلان عن الانقلاب كان عدد من أعضاء حزب «العدالة والتنمية»، فى حماية عدد من رجال المخابرات والشرطة والقوات الخاصة فى محيط مبنى التليفزيون والإذاعة الرسمية، ليقتحموا المبنى، ويعتقلون الجنود، الذين كانوا قد سيطروا قبل دقائق على هيئة الإذاعة والتليفزيون التركية. وفى ذات الوقت كان قد تم التنسيق مع عدد من القنوات الفضائية غير الرسمية، لفتح قنواتها أمام أنصار الرئيس، واستخدامها للحشد وإذاعة التعليمات والأخبار المضادة للانقلاب.. وأذاعت هذه القنوات أخباراً مُسربة، تفيد القبض على رئيس الأركان، ثم إذاعة خبر قتله بمعرفة قادة الانقلاب، وهو الخبر الذى تبين كذبه بظهور رئيس الأركان حياً سليماً، يلقى بياناً أمام البرلمان فى اليوم التالى يدين فيه الانقلاب. وأذاعت هذه القنوات تصريحات متتابعة لرئيس الوزراء ورئيس البرلمان وقائد القوات الخاصة، يُعلِنون فيها فشل الانقلاب بعد دقائق من إعلان المتمردين الاستيلاء على السلطة، مما حمَّس أنصار الرئيس على المواجهة.

وتم توجيه أكثر من سبعة آلاف من أعضاء العدالة والتنمية، مدعومين بعناصر من القوات الخاصة إلى مطار أتاتورك الدولى لاقتحامه، والقبض على منفذى الانقلاب، وأسر عدد كبير منهم فى ترتيب كان مُعداً من قبل.

وكان أعضاء من النواب من الموالين الموثوق فيهم مُعتصمين داخل مقر البرلمان عند إذاعة بيان الانقلاب، وتم استدعاء عدد آخر لعقد جلسة خاصة لرفض الانقلاب، وهو ما تأجل لصباح اليوم التالى، بسبب القصف الشديد من الانقلابيين على مبنى البرلمان..

الرئيس فى حماية القوات الأمريكية

ولم يكن الرئيس «أردوغان» فى مقر الرئاسة عند اقتحامه، ولم يكن فى مقر إقامته فى أنقرة، أو فى إسطنبول، عند اقتحامهما، لأنه كان فى مُنتجع مرميس، يقضى إجازة مُعلنة ومُرتب لها فى اجتماع مقر المُخابرات، حتى يكون بعيداً عن أيدى المُتمردين.. ولجأ «أردوغان» بعد ظهر يوم الانقلاب «الجمعة» 15 يوليو، إلى المخابرات الأمريكية للمساعدة، التى قدمت دعماً بتسريب خبر لوكالة رويترز للأنباء، منسوب إلى ضابط أمريكى، للتمويه، يؤكد طلب «أردوغان» اللجوء السياسى لألمانيا، وهو ما نفاه مسئولون ألمان، فى الوقت الذى كان فيه «أردوغان» فى قاعدة انجرليك فى حماية قوات أمريكية، سهَّلت استخدام طائرات F16 ظهرت فى سماء العاصمة «أنقرة»، وفى سماء «اسطنبول» وهى تُسقِط طائرات هليكوبتر كان يستخدمها مُنفِذو الانقلاب، وصل عددها إلى 23 طائرة، كانت تحمل ضابطاً وجنوداً، لقوا حتفهم جميعاً.

  وقدم «أردوغان» خلال ساعات تواجده فى قاعدة انجرليك الجوية، تعهدات لأمريكا بالمساعدة فى تنفيذ توجهات أمريكا فى سورية والعراق، والسماح للقوات الأمريكية بالحركة بعيداً عن حلف «الناتو» من خلال قاعدة إنجرليك، التى كانت تركيا قد رفضت السماح للقوات الأمريكية باستخدامها ضد «داعش» فى يوليو العام الماضى..

   واستطاع «أردوغان» أن يستغل الحادث فى تصفية واعتقال أكثر من ستة آلاف من معارضيه فى الجيش، والمناصب العليا فى الدولة، وأطاح بأكثر من 2700 قاضٍ، وعيَّنَ بدلاً عنهم فى ذات اليوم الذى تم فيه عزلهم، من خلال قائمة كان قد تم إعدادها قبل خمسة أيام بالتنسيق بين جهاز المخابرات وحزب العدالة والتنمية. ونجح «أردوغان» فى استبعاد كل هذا العدد من القضاة، الذين رآهم موالين للمعارض التركى اللاجئ إلى أمريكا فتح الله جولن، وفى ذات اليوم أيضاً استبعد أردوغان -بغير سند قانونى- عشرة من أعضاء مجلس الدولة، من أصل 15 عضواً، وتعيين عشرة آخرين من الموالين له، فيما سماه المراقبون «مذبحة القضاة» الكبرى..

   السيناريو «المشترك» تم تنفيذه كما أعده الانقلابيون وأكمله «أردوغان» ونظامه، غير أنَّ نتائجه لا يمكن تقييمها الآن، لأن التداعيات سيظل معظمها مدفوناً قبل أن يطفو على السطح.. وأياً كانت النتائج فإن ما حدث فى تركيا كان سيناريو حاول المشاركون فيه «جميعاً» توظيفه لصالحهم فخسر الجميع.

بعد نجاة رقبة «أردوغان» .. «لم الشمل» أم «لف الحبل»؟!

معتقلون وقتلى وممنوعون من السفر ومفصولون هى حصيلة عقاب الرئيس التركى رجب طيب أردوغان للمتورطين فى الانقلاب ضده، وبحسب وكالة الأنباء السويسرية، فإن حوالى 20 ألف تركي، وقعوا فى شباك الأجهزة التركية المُكلفة بالقضاء على الانقلاب، وجاء العقاب باعتقال 7534 شخصاً، وطرد حوالى 9 آلاف موظف وشرطى تابعين لوزارة الداخلية التركية، بينهم 4500 شرطي، و614 دركياً ومن أصل المعتقلين السبعة آلاف يوجد 6038 عسكرياً من مختلف الرُتب، بينهم 103 بين جنرالات وأميرالات و 755 قاضياً و100 شرطى، حسب رئيس الحكومة التركية بن على يلدريم.

كما أصدرت أنقرة 3 آلاف مذكرة اعتقال، ضد قضاة ومدعين عامين، وأمر وزير الداخلية بطرد حاكم مقاطعة واحد على الأقل، و29 حاكم بلدية، ويشمل الجرد أيضاً ضحايا المحاولة الفاشلة الذين بلغ عددهم، 208 قتلى من المدنيين، و100 قتيل من العسكريين.

وهذه الأرقام لها دلالة خطيرة بشأن أن ما يفعله الرئيس التركى ليس محاولة من جانبه للم شمل المجتمع من خلال التخلص من «الخونة» بحسب أفكاره، ولكن هى عملية «لف حبال» حول رقبته لصنعه حالة من الشحن المجتمعى ضده وسيجد هؤلاء من يتعاطف معهم، وبحسب خبراء بالعلاقات الدولية إن ما يفعله أردوغان هو مقدمة يكتبها بيديه لبداية انقلاب عليه قريبا.

ومن جانبه، أكد الدكتور سعيد اللاوندى، خبير العلاقات الدولية والسياسية أن ما فعله الرئيس التركى عقب فشل الانقلاب عليه هو مجرد انتهاز الفرصة للتخلص من معارضيه جميعًا، كما عبرت عن ذلك فرنسا، إضافة إلى اعتباره للانقلاب «شيك على بياض» ليفعل ما يشاء، ولكنه غفل أن عسكريى تركيا لن ينسوا الإهانة التى قدمت لهم ولن تنسى المؤسسة القضائية لديه التنكيل والتجريح الذى تعرض له زملاؤهم ماذا وبقية الشعب التركى ممن طالهم الانتقام «الأردوغانى» ما عدا أنصاره هم فقط من سيحققون عملية لم الشمل.

وأضاف «اللاوندى»: «أعتقد أنه حاول استغلال هذه الفرصة لإقامة دولة ديكتاتورية يفعل بها ما يشاء، ولكن غدًا سيكون أصعب ما يكون عليه وبعد أشهر قد يعيد الجيش نفسه وقوته ضده لينقلب عليه انقلاباً ناجحاً يتضافر معه كل المتضررين من الخطة الانتقامية الذى ينهجها حالياً، قائلاً: «وهذا شىء خطير جداً، كما أن الروح الانتقامية لديه أعمت عينيه عن فقدان جيشه لقيمته الحقيقية وفصل 8 آلاف من رجال الشرطة سيؤثر على اقتصاد تركيا وستتحول كل هذه المشاكل إلى ديون متراكمة لوجود مفصولين كثر وفى حال تأثر الاقتصاد لن يصبر عليه شعبه، وسيتضافر مع كافة المقهورين».

وأوضح أن هناك إعادة ترتيب لمعارضيه ممن لم يظهروا له الآن وفى الفترة القادمة سيكون هناك تقلبات كثيرة، وسيشفى أردوغان بأفعاله جميع صدور الحاقدين عليه بسقوطه ولف الحبال حول رقبته ذات يوم.

وهو ما اتفق معه اللواء عبدالمنعم سعيد، رئيس هيئة القوات المسلحة الأسبق، الذى وصف بما يحدث بتركيا الآن بالزلزال الذى لم تتوقف توابعه وسيؤثر على أردوغان ولا بد من وضع ذلك فى اعتباره، لأنه سيتم ضده حركة انقلابية، فعليه أن لم يتعقل فى انتقامه، قائلاً: فهى ليست عزبة خاصة به ولها مكانة كبيرة كدولة كبرى خسارتها ستكون موجعة على كثير من الدول ممن تربطهم بها علاقات اقتصادية قوية، وما تم إنذار له يجب أن يدرس الموقف جيداً على أثره، ويحمى تركيا من أى حدث سلبى، وكان عليه تدارك الأمر بالسياسة والاتصالات مع معارضيه وليس بالعقاب الجمعى.

ويرى سعيد أن ما يتم بتركيا الآن وتحديداً لرئيسها هو تعجيل بالقضاء عليه، لأنه يتخيل أن خطواته الحالية محاولة للم الشمل لإعادة الهدوء ولكن هذه نظره خاطئة وسيدرك عواقبها لاحقاً، مضيفاً: الأسلوب القهرى يليق بالعصر الماضى إلا أن الشعوب الآن تنورت وتطورت والعالم أصبح قرية صغيرة، فالتجارب تنتقل للدول وأصبحت سهلة الثورة على الظلم خاصة مع مثل هذه الأساليب القديمة الهوجاء.

الجيش التركى بين ابتلاع «الإهانة» ومحاولة الانقضاض للأخذ بـ«الثأر»

كشفت الأحداث الجارية فى تركيا وقيام رئيسها بحملات تعذيب وإهانة ممنهجة لضباط وقواد وأفراد الجيش الذين حاولوا الانقلاب عليه عن وجه سافر للديكتاتور رجب طيب أردوغان الذى مارس الانتقام بوحشية منقطعة النظير وصلت إلى حد «جلد» وتعرية ضباط جيشه الذى يفتخر به وبتسليحه المتقدم، وذلك باستخدام أدواته القمعية من رجال الشرطة الذين أهانوا رجال الجيش وهو ما ينذر بكارثة متوقعة هى بداية الانقلاب الحقيقى على أردوغان بعد فشل حركة الجيش.

وتشير الأحداث المتواترة التى اندلعت فى تركيا مؤخراً إلى حالة الغضب المكتوم بين أفراد القوات المسلحة التركية البالغ عددها (670 ألفاً) وبين رجال أردوغان من قوات الشرطة الذين حرصوا على نشر الصور المهينة لزملائهم واستخدام عصاهم الغليظة وبث تلك المشاهد فى وسائل الإعلام التركية بعد أن التقطتها وسائل الإعلام الغربية فى محاولة من الديكتاتور أردوغان إظهار ضعف رجال الجيش الذين حاولوا الانقلاب عليه وتصويرهم «عرايا» لتخويف باقى قوات الجيش وإرهابهم وملاقاة مصائر زملائهم إذا حاول أحدهم الخروج عليه، وهو ما أدى إلى اشتعال وتيرة الغضب بين صفوف الجيش ضد الشرطة التى استخدمها أردوغان لإذلال الجيش..

لم يتصور أردوغان قيام الجيش بمحاولة خلعه من الحكم رغم أن ما قام به الجيش من انقلاب فى يوليو الجارى ورغم فشله، إلا أنه يعد الانقلاب الخامس الذى شهدته تركيا بعد أول انقلاب قام به الجيش فى عام 1960 بعدما انقلب الجيش على عدنان مندريس وأطاح بحكومته وتم إعدامه قبل أن تقوم تركيا بالتصديق على إلغاء أحكام الإعدام مؤخراً، وهو ما حذرت من عودته دول الاتحاد الأوروبى وقيام ألمانيا بتوجيه تحذيرات شديدة اللهجة لأردوغان بعدم استدعاء عقوبة الإعدام مرة أخرى حتى لا يتم معاقبة تركيا.

الإهانة التى تعرضت لها القوات المسلحة التركية التى يعد جيشها من ثانى الجيوش فى حلف الناتو والخامش عشر عالمياً بسبب معدل الإنفاق لم يعد باستطاعته قبولها، خاصة وأن الانقلاب الذى قام به الجيش فى 1997 وأطاح بحكومة نجم الدين أربكان كان بسبب تدخل أربكان فى تغيير النظام العلمانى لتركيا بأن قام بتقريب جماعة الإسلام السياسى ومحاولة فرضهم على المجتمع التركى بالقوة وتدخل فى شئون الدول المجاورة -مثلما يفعل أردوغان حالياًـ وقام بتأسيس حزب الرفاه الذى أشعل الأزمة بين فصيل الشعب فقام الجيش بحل الحزب وأطاح برئيسه وحوكم وعفا عنه عبدالله جول قبل أن توافيه المنية فى 2011 ..

الانقلابات الأربعة التى قام بها الجيش ضد حكامه كللت بالنجاح عدا محاولة الانقلاب الخامسة التى أفشلتها قوى خارجية بجانب فصائل الإسلام السياسى التى يؤويها أردوغان تؤكد أن ناراً تحت الرماد، وأن التاريخ الفعلى والحقيقى للجيش التركى يؤكد أن هناك جولة قادمة للأخذ بالثأر من رجال الشرطة الذين تم استخدامهم رغم ما قام به أردوغان باعتقال ما يقرب من 8 آلاف شرطي زعم كونهم ينتمون للمخططين للانقلاب على خلاف الحقيقة، فقد تم اعتقالهم لتمردهم ضد السياسة التى ينتهجها أردوغان فى التنكيل بأفراد الجيش وإذلالهم وتمردهم على إيواء فصيل منتمٍ للإسلام السياسى كان لهم الدور الأبرز فى تمرد الجيش ضد سياسة رئيس الجمهورية، وأن ثورة الجيش بدأت ولن يوقفها تهديدات أو اعتقالات أردوغان.

«فتح الله كولن».. الشبح التركى فى بلاد العم سام

يبقى الشيخ السبعينى عبد الله كولن واحداً من أصعب الأرقام فى معادلة التحديات التى تواجه أردوغان..

وصحيح أن «كولن»، 78 عاماً، يعيش فى منفاه الاختيارى فى بنسلفانيا الأمريكية، ويعانى قائمة طويلة من الأمراض، تجعله ضيفاً دائماً على المستشفيات والأطباء، لدرجة الاستعانة بفريق طبى يرافقه دوماً، خشية تعرضه لأزمة صحية فى أى وقت.. ولكن..

رغم أمراضه الخطيرة وعمره المتقدم، إلا أن أغلب المحللين يعتبرون «فتح الله كولن» هو «خومينى تركيا»، والخطر الأكبر على السلطان التركى أردوغان، ووصل الأمر بالبعض إلى الترويج بأن انقلاب تركيا الأخير كان مسرحية أردوغانية هدفها الأساسى إيجاد ذريعة للتخلص من أنصار «كولن» فى المؤسسات الحكومية التركية!

لهذه الدرجة بلغت قوة «كولن» وجماعته فى تركيا، وهى الجماعة التى يسعى أردوغان لتحطيمها منذ سنوات، ولكنه فشل فى ذلك حتى الآن، وكانت المعركة الدموية بين الطرفين قد بلغت ذروتها، فى 2013 عندما أعلن أردوغان أنه سيبدأ حملة موسعة لتطوير العملية التعليمية، ولم يكن الإصلاح فى أغلبه سوى إغلاق المدارس التابعة لجماعة كولن، ووقتها قال أردوغان: «ألغينا نظاماً تعليمياً غير شرعى لا يفيد إلا أولاد العائلات الثرية فى المدن الكبرى ويقحم الأولاد فى مناقشة حامية».

ويومها علق «كولن» على غلق المدارس قائلاً: «اللهمّ أحرِقْ بيوتَهم، وخرِّبْ ديارَهم». ومنذ ذلك التاريخ والمعارك لم تتوقف بين الطرفين، والغريب أن حكومة أردوغان كررت نفس ما تفعله الآن قبل نحو عامين، فوقتها ودون انقلاب ولا غيره، استبعد أردوغان آلاف الموظفين ورجال الشرطة والقضاة بدعوى أنهم ينتمون لجماعة «كولن» التى يتعامل معها أردوغان كما لو كانت جماعة محظورة، أو كياناً موازياً للدولة!

كما صادقت المحكمة الإدارية التركية على إلغاء جواز سفر «كولن» بدعوى أنه تم منحه جواز سفر لا ينسجم مع القانون التركى.

وردت جماعة «كولن» بالكشف عن عمليات فساد طالت أبناء عدد من الوزراء ورجال أعمال ومدير بنك «خلق» الحكومى، كما نشرت تسجيلات صوتية لمسئولين فى العدالة والتنمية، كلها تكشف عن حالات فساد مالى وأخلاقى فى حزب أردوغان ، الذى رد على تلك التسريبات بالقول إن تلك التسريبات «مفبركة».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل