المحتوى الرئيسى

السيد بن سالم يكتب: سيد قطب عندما كان رومانسيًا | ساسة بوست

07/14 14:00

منذ 11 دقيقة، 14 يوليو,2016

ذَهبَ ربُّ المعالمِ، وقدْ ثُبِتت أركان النهج كجدران الأكاسرةِ، وما اختمَرتْ الآراء فيه، فمن رامٍ جهلًا إلى رامٍ علمًا.

أأديب هو؛ يُدمي قلوبنا بلفظه إنْ أراد، ويُبْهِجنا بقوله إذا شاء، أمْ ضالٌّ؛ صاحب مذهبٍ رميناهُ بكل مُسيء، أمْ مُتعالٍ تحكمتْ الأنا فيه فجعل نَفْسَه الناقدَ فلا يُنْقَدُ، والأديب فما خلا أدبه ضرب من العته، وشيخَ المفسرين وإمامهم فخرج لنا بالظلال، أمّا والله فالحقُّ أبغي وهو كما قال:

غريبٌ أجل أنا في  غربة      وإن حفّ بي الصحبُ والأقربون

غريب بنفسي وما تنطوي    عليه حنايا فؤادي الحنون!

غريبُ وإن كان لمّا يزل      ببعض القلوب لقلبي حنين

فمِن هذا الأديب الذي جعل سميرة عاريةً أمامه يُقبِّل ثغرها في رقة جميل بن معمر، إلى هذا الضاري الذي دانت له أمريكا بـــ11 سبتمبر، وهذا الرب لكل مَنْ حمل المشرفيّ مُدعيًا إقامة دولة الإسلام، صدق هو أو كذب.

ولأنَّ الأدب روح البشرية، وشفاء تلك القلوب التي ملأها السفه والسخف؛ أفردْنَا القول في سيد قطب هذا الرومانسي.

فالرومانسية أو ما يُعرف بالاتجاه الوجداني هي إحدى المدارس الشعرية في العصر الحديث، وقد ارتبط قطب بها حتى ملكت عليه قلمه وغلبت قوله -إن شاء المُخالفة- ومن هنا كان أديبًا وشاعرًا رومانسيًّا وناقدًا أدبيًّا.

وإذا كان الدليل أصل العقل، وأرفع للرأي فدلالة قولِنا النظر في رواية صاحبنا «أشواك» سيلمس بوجدانه قوة الرجل الأدبية، وامتلاك سيفه. وتتفتقُ أثواب الرواية وكوامنها عن لفظٍ  فَكَّر فيه القلب، وشعر به العقل -وهذا ما يؤمن به الرومانسيون- وإنْ كانت الرواية لامسة لنفوسنا حقًّا؛ فذلك لأنها حدثت لقطب عينه، الذي غدا سامي في الرواية، وغدت صاحبته «سميرة» ومَنْ نظر فيها وجد فكرًا ليبراليًّا واضحًا، أو بلغة أهل الشعر نراه عمر بن أبي ربيعة في كثير من غزله، وقيس بن الملوح أحيانًا، وذلك لأنَّ الرواية جاءت في فترة لم يعرف جماعة الإخوان المسلمين فيها.

وإنْ عرفنا إنّ خصيصة مدرسة الديوان وضع عنوان لكل قصيدة على خلاف الإحيائيين، فنجد ذلك في القصة عنده، مما أدى إلى استباق الأحداث من خلال فهم العنوانات.

أمّا عن السمات الأساسية في موضوع الرواية  فنلحظ أنَّ الحب لا يكون إلا بالقبلات، والصلح لا يكون إلا بالقبلات، فلربما تَلبَّس قطب لباس القاهرة ونسي صعيديته في هذه الرواية، إلا أنه كان منضبطًا من ناحية الشكل؛ فجعل قفل الرواية كما تطلب الرومانسية الإنجليزية.

ولو كانت القصة دلالة على كونه قاصًّا، فلا أدلَّ على أدبه من شعره، وهو الذي عبد الجمال فقال:

لك يا جمال عبادتي … لك أنت وحدك يا جمال

وأرى الألوهة فيك تُو … حي بالعبادة في جلال

فإذا عَبدتُكَ لم أكنْ … يا حُسْنُ مِنْ أهل الضّلال

فإن امتلكته عاطفة -حزن كانت أو غيرها- ملكت عليه لبَّه حتى سكب الشعر عليها ماءً لتهدأ، فقد لاحظْنا أن جُلّ قصائد شكواه في ديوانه كانت بين عامي 1934 و1937.

وقد تنوعت موضوعاته الشعرية، فمن تمرد وثورة، إلى شكوى وألم لا يخلو مثل قطب منه، إلى حنين وأنَّى للأديب إلا يحن وهو ابن مدرسة قامت على الحنين إلى الوطن في الزمان والمكان، إلى التأمل والغزل والرثاء والوطنيات.

والمُلفت أنه لم يَتبذّل بشعره كما يتبذل الكثيرون من أهل عصره والقريبون منه مثل شوقي، والعقاد… فلم يخرج منه مدحًا لأحد إلا إذا قاد ذمام لبه حبًّا.

وإنْ وقفنا على ديوانه لخرجت المقال إلى بحْثٍ مُطول، ولكننا قد وجدناه مُأصِّلًا للشعور الإنساني أحيانًا، باغضًا الحيوانية في البشر فيقول:

فهموا العيشَ طعامًا وشرابًا .. ورواحًا حيث شاءوا وغدوا

أنفسٌ كالكهف ما زالت خرابًا .. من شعورٍ يُلهم النفس السموَّ

وها هو الأنيس بحرارة جسدها، ومداد قلمه من أريجها، فيقول:

حرارتُها لم تزلْ فائرة .. ونكهتها لم تزل عاطرة

أُحسُّ حرارتها في دمي .. كما تصرخُ الشعلة الثائرة

رحم الله مِنْ وقف على مكنون الحب فلم يُفسده بفحش اللفظ، وقبح السَوق.

أمّا عن كون صاحبنا ناقد، فالحق أقول كنت أرى قطب ليس بالأديب الذي أتتبع أعماله إلى أن وقفت على ديوانه فخذلت أمام نفسي، وما أن قرأت كتابه «النقد الأدبي مناهجه وأصوله» حتى أقررت بتعجلي في حكمي على الرجل، وإنْ أجاد قطب النقد الأدبي نظريًّا فقد أجاد تطبيقيًّا.

فما هو إلا ناقد حق لا يُجانب الصواب ابتغاء الرضا عنه، ولا يُجامِل حتى يُجامَل، فقد كان قوي الحجة، صادع القول، وربَّ منهج في نقده، وهو القائل:

« ينصحون لي بالكف عن هذه الموازنات التي تثير الغيرة والخصومات… أنا لا أؤمن بهذه النصائح التي تنشأ من تقاليد الصالونات».

فقد مارسه تطبيقيًّا حيث سلخ أحمد شوقي من كثير الفضائل عندما قارن بين شوقي، وعزيز أباظة فرأى شوقي صانع شعر لا شاعر بقوله، واستدل بمسرحيته «قيس ليلى» ورأى أن أحمد بك زكي قدَّس الأموات عندما رفع مسرحية شوقي عن مسرحية أباظة، ويرى أن مسرحية شوقي عملًا بدائيًّا متهافتًا من جميع الوجوه.

ورأى أنه شاعر الأمراء لا أمير الشعراء، وأُصدِّق على قوله هذا.

فإذا أردنا أن نُخلِّص نقد قطب مما يعيبه فعلينا أن نزيل منه كل نقد للإحيائيين عامةً وللرافعي خاصةً، وكذلك نقده في أدب العقاد، فما اختار شيئًا للأول يضعه به إلا كان أبلغ القول، ولا شيئًا لأستاذه العقاد ليرفعه به إلا كان أردأ القول، ومن مباهجي أنه عندما أخطأ في حق مولانا الرافعي فخرج من باب النقد إلى باب الهجاء الصريح، وجد الأستاذ محمود شاكر -رحمه الله- مُشمرًا عن ساعديه لا يدخرُ جهدًا في الرد عليه، والبهجة في ذلك هي إثراء الأدب العربي بمثل هذه المناظرات.

وما أدراك ما شاكر وعلي الطنطاوي فقد استلا قلمهما ضده.

وأسمى ما يدل على نظرته الناقدة الثاقبة، هو ما بدا منه تجاه نجيب محفوظ حين قال فيه بعد نقد «خان الخليلي»:

« نستطيع أن نقدمه -مع قوميته الخالصة- على المائدة العالمية… وكل رجائي ألا تكون هذه الكلمات مثيرة لغرور المؤلف الشاب لأن يكون قصاص مصر».

وقد تحققت نبؤة قطب وصار نجيب محفوظ مصدر إلهام للأدب العالمي، حتى أخذ المكسيكيين «زقاق المدق» و«البداية والنهاية» وجعلهما أفضل الأفلام المكسيكية.

تراه في تعامله مع القرآن كأن بين يديه نصًّا أدبيًّا واجب النظر فيه، فهو يستخرج حروف القافية أحيانًا من الآيات القرآنية، ويجعل للآية روي وغيره، وربما كان الروي قويًّا لأننا في موطن ترعيب الكفار، وربما كان لينًا لموطن ترغيب للمؤمنين.

وربما عرض كل أدوات الأديب فنزَّل قصص القرآن منازل القصص الأدبية، بل يرى أن تطورات المسرح في القرن العشرين اهتدت إلى مسلك في العرض استخدمه الله في القرآن.

فقد ساق الآيات القرآنية الخاصة بيوم القيامة ومشاهدها باعتبارها عرضًا عسكريًّا ترتعد منه الفرائص عندما يصف سيد قطب في كتبه «التصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة، وتفسير الزلزلة».

وأكون كاذبًا إذا قلت بسوء الكتب سالفة الذكر، فما فهمت القرآن قط كما فهمني قطب «في التصوير الفني»، ولا أجانب الصواب إن قلت أنه لم يكن ليستطيع ذلك إلا بأدبه وفكره لا بعلمه الشرعي، فهو لم يكن يومًا عالمًا شرعيًّا، وقد كتب التصوير قبل الظلال، وكتب النقد أثناء كتابة الظلال.

وقد أقرَّ بذلك في كتابه «التصوير الفني» ص258، وما جعل لقطب سقطات في كتاباته الدينية استخدام نهج الأدباء في علم الفقهاء؛ فزلَّتْ قدمه، وكثر شاهرو السيوف عليه. فثورته الأدبية والفكرية أبرزت ما كان منه في سَبِّ سيدنا عثمان -رضي الله عنه- في كتابه  «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وأدبه هو ما قال: «إن القرآن من صنع الله» فكانت مصيبته أعظم أن يجعل القرآن مخلوقًا -وما أراد ذلك- وقد اتخذها الكثير سقطة له.

فما اجتمعت الأنا وصعيديته وآدابه عليه إلا أهلكته.

فها نحن نراه عاشقًا لحافظ الشيرازي لكونه جعل الحب صوفيا، وقد فضله على الخيام في ذلك، فقد تلتبس في هذا الحب معاني الخمر، أهي الخمر التي تسكر؟!

أم الخمر التي تجعل الحب في أسمى مراتبه؟!

وتجعل المرأة معشوقة لكونها دالَّة على الجمال، والجمال منه، فعشقها ارتقاء منا إليه.

وكذلك يرى أن كل حب عذري الذي ينال من قلبه، هو القائم على التعفف الصوفي الذي يبلغ فيه العشق مداه، ولا يبلغ فيه الجسد شهواته.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل