المحتوى الرئيسى

مسلسل ( الخروج ) ...جرس إنذار للسلطة !

07/08 16:11

اقرأ أيضا: منطق الرئاسة وتجديد الخطاب الديني المجلس الأعلى للثقافة : مواصلة التجهيل وحرق البخور اللادينيون المصريون يواصلون القصف مجددًا.. خانة الديانة! رمضانهم ( الكيوت ) : اللادينيون يعربدون و السلطة تناور ..! يوميات ( كازابلانكا ) .....المغرب تصنع تاريخا ً جديدا ً ...

أعترف _ بإقرار تام _ أنني كنت من أشد المنتقدين للدراما الرمضانية  التليفزيونية العام الماضي , بل أقر بأنني قدت حركة الرفض لهذه الدراما الساقطة التي صدرت للبيوت المطمئنة جرعات مسمومة من العنف و الجريمة و التعري على طريقة ( البورنو ) و العدمية و الفوضى الشاملة و التحدي الوقح للفكرة الدينية لمجرد الكيد و الاستفزاز المجاني دون أية مضامين جادة لافتة ! و قد سجلت ذلك من خلال فعاليات ( ملتقى السرد العربي ) الذي أشرف بإدارته , حيث أصدر الملتقى بيانا ً باسمه بعنوان : ( الدراما المصرية تواجه سقوطا ً تاريخيا ً ) , و فوجئت بانضمام عشرات المنابر الإعلامية و الكيانات الثقافية من كل الاتجاهات و الأطياف الإيديولوجية  إلى حملتنا في الملتقى _ بما في ذلك منابر صحفية بوزن ( الأهرام ) ! _ بما رسخ لدي اقتناعا ً وطيدا ً بأن الحملة تماهت مع الجرح الكبير للعائلة المصرية التي ضاقت ذرعا ً بخفة الدراما و دمويتها و تحرشها المشبوه بالضمير الأخلاقي و قيم العائلة ! و توالت السجالات حول الدراما المصرية في الصحف العربية فيما يشبه التساؤل : هل انتقلت خلطة ( السبكي ) السينمائية العطنة  المسمومة إلى الدراما ؟!

و برغم براءة الدراما الرمضانية هذا العام في مجملها _ باستثناءات معتبرة _ من كثير من أمراض الدراما في العام الفائت , فإن اللافت للنظر أن شريحة كبيرة من الإعلام و المنابر التربوية و الدينية في مصر , تجاهلت هذا الأمر , و نظرت بوجه عام إلى خطاب الآداب و الفنون باستخفاف و قلة اكتراث ! بل وجدنا من يقول بسذاجة مفرطة : ( دعونا نلتفت إلى ما يفيد : سد النهضة و الملفات السياسية الملغومة ( خصوصا ً ملف الحريات المدنية ) و الاقتصاد الذي ينزف حتى آخر قطرة مصحوبا ً بأرقام مخيفة غير مسبوقة للمديونية المصرية المتضخمة بصورة مرضية مرعبة تنذر بكارثة , و تدخل إسرائيل باختراقات خطيرة عند دول حوض النيل من خلال الزيارة الخطيرة الموسعة ل ( ناتنياهو ) ( و هي في تقديري إعلان حرب بلا جدال ! ) و الغلاء الذي ذبح المصريين و موت السياسة و التراجع الخطير في مكانة مصر الدولية و تسرب الامتحانات على نحو ماس بهيبة أية دولة ! و تحول بعض المثقفين و المفكرين و النقاد إلى ( مخبرين ) يكتبون بلاغات أمنية في زملائهم في أحط الوشايات ,  و تغول اللادينية المتطرفة التي تستهدف الإسلام بالخصوص بصورة شبه يومية  و الفاشية التي تصبغ وجه البلاد ..و غير ذلك من الملفات الدامية التي قصمت ظهر الوطن و أعاقت خطواته الإنمائية أو شلتها عن الحركة تماما ً , أقول برغم ذلك كله فإن تجاهل الدور الذي تلعبه الدراما و إهمال ملف الثقافة و الفكر , لدى كثير من التيارات الإسلامية و الثورية و السياسية , يصبح في تقديري قصورا ً خطيرا ً يرقى إلى درجة الإجرام , نظرا ً لما تلعبه الثقافة ( و خصوصا ً الدراما ) من أدوار جذرية في تشكيل الوعي و صناعته و إدارة وجهة المرحلة و إعادة بناء الأدمغة !

 إن ملايين من البسطاء في مصر تشكلهم الدراما التليفزيونية على عينها و ترسم لهم النموذج و تجسد في ضمائرهم القدوة _ شئنا أم أبينا ! _ و لا أنكر أن شريحة كبيرة من الحركة الفنية فضلت لنفسها _ منذ عقود ! _ أن تكون بوقا ً منقادا ً للنظام , تغتال معارضيه و تكرس لهيمنته و شموليته و توجه القصف الوحشي إلى شخصية ( المتدين ) عموما ً بإظهاره متهوسا ً أو مجذوبا ً من مجاذيب المرحلة ! قد يكون ذلك صحيحا ً في المجمل و لكن هذا لا يمنع أن نشيد ب ( القليل الجيد ) لا أقول إنقاذا ً للحركة الفنية في مصر بل إنقاذا ً للوعي المصري الشعبي من مزيد من المسخ و التشويه و لي عنقه باتجاه اللا دينية المتطرفة و التوحش و الاستباحة بل و إدارة الظهر للفطر السليمة ! فقد نجح مثلا ً المخرج الكبير الراحل ( كمال سليم ) فيما مضى في أن يخرج عن الخط و يكرس خطاب العدالة الاجتماعية برقي و قوة من خلال أفلامه الرفيعة . و نجح ( عاطف الطيب ) في أن يخترق الصمت و يعري أنظمة ( الحكم الشمولي ) التي جعلت من مجند الأمن المركزي البسيط ( أحمد سبع الليل ) ( آلة ) رديئة متعطشة للاستباحة و التعذيب و التصفية الجسدية  , كما جسد ذلك ببراعة هائلة في رائعته : ( البريء ) و هو الفيلم الجسور الذي تدخل المفكر الكبير الراحل د / ( أحمد هيكل ) _ و كان وزيرا ً للثقافة آنذاك _ لإنقاذه من يد الرقيب ليبقى معلما ً على مرحلة خطيرة , مازالت مستمرة نذوق منها الأمرين !

 تمر مصر الآن , في تقديري , بأخفض سقف عرفته الحريات المدنية , طوال تاريخها الحديث , و تتوحش قبضة النظام في الهيمنة التامة على الرسالة الإعلامية و السينمائية و التليفزيونية كما لم يفعل من قبل  , و مع ذلك اجتهدت الدراما هذا العام في أن تغاير مسارها النمطي القديم و تنفلت _ بأداء إكروباتي _ من قبضة الرقيب و تبرق برسائل مهمة للنظام و الشعب معا ً . و من الصحيح أن هنالك شريحة متبلدة داخل الحركة الفنية تصر على الرؤى النمطية المقولبة بقالب النظام و رسائله _ يتزعمها هذا العام ( عادل إمام ) الذي جعل معركته الوحيدة مع شخصية ( المتدين ) , و هو مصر على معركته الوحيدة حتى في شيخوخته الراهنة التي فقد معها كل الألق و اللياقة الذهنية ! _ أقول إنه من الصحيح أن شريحة كبيرة من الحركة الفنية بقيت أسيرة الماضي , غير أن شريحة أخرى فضلت أن تصدر بفنها الراقي أخطر الرسائل و أهمها للنظام بالخصوص , و في صدارة هذه الحصص الدرامية الواعية مسلسل : ( الخروج ) .

 قدم السيناريست ( محمد الصفتي ) خلطة درامية شديدة المتعة و الألق من خلال قالب اجتماعي / بوليسي , يدخل بقوة إلى عالم الشرطة و فضاء الجريمة و يربط ذلك بجديلة قوية بقضية ( العدالة الغائبة ) محذرا ً بوضوح من فقدان الثقة  المتنامي _ شعبيا ً _ في مؤسسات الدولة التي انحرفت عن وظيفتها , و فتحت بابا ً جهنميا ً مرعبا ً ل ( عدالة الشارع ) التي تقتص لنفسها و تنتقم بضربة مزدوجة من المجرم و النظام الذي صمت عن جريمته أو مررها أو كان ضالعا ً فيها أحيانا ً ! يحدث ذلك من خلال إراقة الضوء على شخصيتي الضابطين : الرائد ( ناصر محمود ) و المقدم ( عمر فاروق ) ( الذي لعب دوره ببراعة الفنان ( ظافر العابدين ) بأداء هاديء معبر غير نمطي ) حيث يحاول الضابطان كشف الجرائم المتتالية التي ارتكبها الطبيب د / ( أمجد ) , و تكرست المحنة  وطنيا ً و دراميا ً , على نحو صدر أزمة كبيرة للضمائر , إذ كان د / ( أمجد ) يرتكب جرائمه ضد الفاسدين و رجال الأعمال الطفيليين و يتحدى حيتان الفترة ممثلين في بعض القيادات الأمنية الفاسدة و رأس المال السياسي , فتنامى التعاطف الشعبي تدريجيا ً  مع د / ( أمجد ) الذي هزم الضابطين في عدة جولات و ذكر السلطة الفاسدة الباطشة بأن خيار ( عدالة الشارع ) قد يكون حلا ً ناجعا ً في ظل غيبة العدالة و تكرس التحالفات المشبوهة الفاجرة بين السلطة ذاتها و رجال الأعمال الفسدة !

 هذه الرسالة بذاتها قد تكون ( ملغومة ) بالنسبة للمؤلف في مرحلة ذبحت فيها الحريات بفجور , و هنا لجأ المؤلف إلى حيل الإلهاء الاستراتيجي , بإظهار السمات الإنسانية للضابطين و نجاتهما في النهاية و موت د / أمجد , قتلا ً بيد الضابط خارج القانون , فضلا ً عن بعض محاولات التضبيب على الرسالة الأصلية بإظهار قصص عشق فرعية للإلهاء لا أكثر كقصة العشق اللاهب بين الضابط ( عمر ) و المحامية ( ليلى ) التي أغرقها د أمجد داخل صوبة زجاجية صغيرة خنقا ً بالماء ! و قد شفع المؤلف ذلك كله بتصريحاته لجريدة ( المساء ) بقوله : ( ..المسلسل بعيد تماما ً عن الكلام في السياسة و إنما رصد اجتماعي لكل الطبقات ..! ) و قد تكون هذه الحيل  نجحت _ هونا ً ما _  في تضليل الرقيب و تمرير العمل في النهاية من بين قبضته العمياء , غير أنها لم تنجح في تضليلنا نحن المشاهدين عن فحوى الرسالة الخطيرة الموجهة بصورة مباشرة لعظام النظام !

 بدا الإيقاع سريعا ً و السرد متماسكا ً مضفرا ً بقوة يكاد يخلو من التجاويف , و الصراع الدرامي محكما ً بتناغم , و تكثفت بألق كبير لوحات المخرج ( محمد جمال العدل ) , بمصاحبة موسيقى شجية معبرة نافذة ل ( عمرو مصطفى ) . و في تقديري أنه لولا البطولة ( الدونكيشوتية ) المبالغ فيها من قبل الضابطين في الختام , لما سمحت الرقابة المحكمة بتمرير العمل منذ البداية حيث توهم الرقيب المتغطرس محدود الفكر أن العمل يكيل المديح للمؤسسة الأمنية  !

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل