المحتوى الرئيسى

«فى مديح الأفلام»... حين يهيم أديب بالسينما عشقاً | المصري اليوم

07/07 22:47

لم يترك الأديب الأستاذ سعد القرش عشقه للسينما يقف عند حد الفرجة والاستمتاع، بل حرص على أن يكون تفاعله الخلاق مع «الفن السابع» مدونا على الورق فى مقالات سردية عميقة، يتعانق فيها الحوار مع الصورة، والتأمل مع التحليل، والنقد مع الرصد، والمتابعة مع الإبداع، والأمل مع الألم، متجاوزا العابر والظاهر فى الجلوس أمام الشاشة البيضاء، ليغوص فى الأعماق، فنعرف الكثير عن طرائق كتابة السيناريو، والإخراج والإنتاج والتمثيل بأبطاله المتوجين، والحكايات التى تقف خلف أدائهم المبهر، والعلاقات التى تنشأ بينهم وهم يمدون حياتنا بروائع محفورة فى ذاكرتنا، بعضها، من دون شك، شكل جانبا لا يستهان به من رؤيتنا للذات والمجتمع والعالم، وصار طرفا من حديثنا الهامس عن «فتاة الأحلام»، وعن الأمنيات المجنحة ونحن نسعى فى الأرض نحو أهدافنا القريبة والبعيدة.

كل هذا وأكثر ضمه كتاب حمل عنوانا لافتا: «فى مديح الأفلام.. مهرجانات ومدن وشعوب تحبها السينما»، ليبحر بنا عبر مشاهد ومواقف وحفلات ومهرجانات بلغة عذبة، يملكها أديب، وبنظرة ثاقبة، يحملها كاتب، طالما تآلف مع المراوحة بين الواقع والخيال، وهو ما عهدناه فى ثلاثيته اللافتة «أول النهار» و«ليل أوزير» و«وشم وحيد» وفى روايتين أخريين هما «حديث الجنود» و«باب السفينة» وكذلك فى مجموعتيه القصصيتين «مرافئ للرحيل» و«شجرة الخلد» علاوة على كتاب فى أدب الرحلات «سبع سماوات» وكتب شهادات «الثورة الآن.. يوميات من ميدان التحرير» و«أيام الفيسبوك.. مسائل واقعية فى عالم افتراضى» و«سنة أولى إخوان».

يصف الدكتور محمد كامل القليوبى الكاتب وكتابه فى عبارة دالة حملها الغلاف تقول: «مثقف وكاتب مبدع يقدم تأملاته خلال سعيه وراء الأفلام. تأملات فى التاريخ والسياسة والأدب والفن، مع تحليل لظواهر سينمائية وأفكار تثيرها الأفلام، رحلة معرفية شائقة، يتحول معها الكتاب إلى نص أدبى فى حد ذاته». أما الكاتب فيرى أن كتابه «هو رد جميل إلى هذا الفن» الذى ساهم فى تكوينه كروائى وقاص، وقبل هذا كإنسان سلك طريقه بعناية، وحافظ على سمته وموقفه فى عالم مضطرب يتقلب فيه كثيرون ذات اليمين وذات الشمال.

يمضى القرش فى رسم معالم كتابه، الصادر عن مركز الأهرام للنشر، غير متعال على القارئ، ولا مدع أنه أتى بما لم يأت به أحد فى الحديث عن السينما، إذ يقول: «هذا الكتاب لا يدعى الحكمة، ليس نقدا بالمعنى الأكاديمى، ولا الانطباعى. فلا يدعى ذلك من اتخذ مقعدا صغيرا وخفيفا، يسهل حمله، يتنقل به بين عروض الأفلام، ولا يمنعه من أن يقف على تخوم فنون وعلوم.. هذا كتاب بعيد عن الكلام الكبير الخاص بهوية السينما العربية، وريادة السينما المصرية، ومفهوم الإبادة والعنصرية فى السينما الأمريكية. فصول يعوزها المنهج والترتيب، ولا تدعى نضالا، ولا تتبنى رسالة أكثر من تأكيد محبتى لهذا السحر، عبر كلام من القلب».

إلا أن هذا التواضع لا يخفى أن الكتاب يحمل الكثير من التصورات والأفكار والرؤى، حيث ينقلنا عبر سطوره إلى بِنى متجاورة أحيانا، ومتفاعلة أحيانا، مستفيدا من عطاءات علم الاجتماع، والتاريخ، والنقد الثقافى، وفن الحكايات، وطرائق صناعة السينما، المحلية والعالمية، وكل هذا تحمله شجاعة الكاتب المعهودة فى نقد السائد والمزيف والمظهرى، ورد الاعتبار لأولئك الذين ظلمهم الجمهور، أو محكمو المهرجانات، أو المنتجون الذى يسعون، فى الغالب الأعم، إلى تحويل السينما إلى سلعة رائجة، أو أولئك الذين يلهثون وراء إرضاء المشاهد بأى ثمن، ولو على حساب القيمة والعمق، من كتاب السيناريو والمخرجين والممثلين الذين أصبح بعضهم يتدخل فى كل شىء تحت زعم أنهم هم «العمل كله»، وأنا كل شىء، النص والكاميرا والمخرج والممثلون المساعدون، مجرد مسوخ، أو حواشى على متن البطل الأوحد.

يبدأ الكتاب بسرد أول حكاية لكاتبه مع السينما، فى صيف عام 1980، حيث «كافأ نفسه بدخول السينما لأول مرة» وهنا يقول: «حتى ذلك الوقت كنت إذا مررت بدور السينما فى مدينة المحلة الكبرى، وشاهدت ملصقات الأفلام، قدرت أن العالم فى الداخل لم يخلق من أجلى. هذا ترف لا يحتمله وقتى، ولا مصروفى الذى ليس موجودا، ولا معترفا به»، لتتعاقب فى حياته الفرجة على الأفلام، ثم يسيح بنا فى الأرض حين يحضر مهرجانات عديدة فى «أبوظبى» و«أوسيان سيتى فان» و«الإسكندرية» و«الأقصر للأفلام القصيرة» و«طنجة» و«الهند» متنقلا بين أفلام روائية طويلة، وأخرى قصيرة، وتسجيلية.، ثم يعرج على نقد أفلام مثل «الناصر صلاح الدين» و«الكرنك» و«الآخر» و«حين ميسرة» و«بين السماء والأرض» والفيلم التسجيلى «التحرير 2011.. الطيب والشرس والسياسى»، ويهاجم ما سماها «أفلام تقول كل شىء.. لكن لا تقول شيئا»، وبعدها نعرف رأيه فى مخرجين من أمثال يوسف شاهين وصلاح أبوسيف وحسام الدين مصطفى وخالد يوسف.. إلخ، وتتجلى فى سطوره وجوه ممثلات عربيات رائعات على رأسهن فاتن حمامة وسعاد حسنى، وتتوالى أسماء الممثلين والممثلات العالميات من بطلات هوليوود وبوليوود، ليهاجم بعدها صفحات السينما فى الجرائد قائلا: «لا أتابع صفحات السينما، فالكثير منها يُعنى بأخبار شخصية ونميمة وجانب فضائحى»، وفى موضع آخر يبين لنا كيف تصنع السينما نجومها، وكيف تقدم أبطالا ليمشوا بين الناس فى الشوارع، ويجسدوا أحلامهم، ويعبروا عنهم، ويتماهوا فيهم.

ويكشف القرش عن تجاربه السابقة المجهضة فى الكتابة عن السينما ولها، عنها حين خطط لكتاب عن مفهوم العنصرية ومسار الإبادة فى السينما الأمريكية، فى ضوء أفلام مثل «صمت الحملان» و«أساطير الخريف» لأنطونى هوبكنز، و«اليوم الثامن» لجاكو فان دورميل، و«جانجو» لكونتين تارنتينو، لكن لم يلبث أن تخلى عن الفكرة، منشغلا بأعماله الروائية والقصصية. أما لها فحين أُختير لكتابة سيناريو فيلم عن الملكة المصرية القديمة «حتشبسوت» والذى ساقه إلى قراءة عدة كتب عن الفراعنة، لكن هذا المسعى لم يكتمل.

يبدو القرش حزينا لتجاربة الناقصة تلك، التى جعلت حبه للسينما من طرف واحد، إذ إنه كان يريد أن يأخذه ولعه بالسينما إلى علاقة أعمق بها، لهذا يقول: «لو لم أكن روائيا لأصبحت مخرجا يؤمن بأن السينما لا تشبه فنا آخر، ولا يغنى عنها فن آخر. أحلم بفيلم يختفى مخرجه، كما لو كان الفيلم يخرج نفسه».

لم ينس القرش فى زحمة لهاثه خلف الأفلام أنه أديب، فوجدناه يستغرق أحيانا فى مقارنة بين الأعمال الروائية والأفلام التى أُخذت عنها، ليجيب على السؤال المحورى فى هذا المقام: هل أضافت السينما إلى الأدب أم خصمت منه؟ وهنا تتوزع الإجابة على السبيلين، فهناك أفلام شوهت الروايات مثل كل ما أخرجه حسام الدين مصطفى عن أعمال الأديب الكبير نجيب محفوظ، وهناك ما أضافت الكثير، مثل «الكيت كات» الذى أُخذ عن رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان، و«الكرنك» لمحفوظ والتى يرى القرش أن مخرجها على بدرخان بعث فيها روحا، وجعلها قذيفة سينمائية من لحم ودم، رغم تواضع الرواية قياسا إلى أعمال محفوظ الأخرى، لكنه يعيب على كاتب السيناريو والمخرج سيادة الروح الانتقامية فى الفيلم من زمن عبدالناصر، ويطلق على مثل هذه الأفلام التى تخدم أيديولوجيات وتوجهات ومواقف سياسية للسلطة «الكرنكة».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل