المحتوى الرئيسى

ونشوف ملامح الزمن متعادة في المواليد

07/05 04:52

كنت أجلس مع أبى لمشاهدة مسرحية "سك على بناتك"عندما جاء مشهد فؤاد المهندس وهو يتندر على ابنته سناء يونس في المسرحية بالجملة الشهيرة "على يدي.. كونتا كان قاعد هنا وكينتي كان قاعد هنا"، سكت أبي لحظات ثم بدأ يخبرني عن حكاية "كونتا كينتي"، فهو بطل مسلسل أمريكي شهير -مأخوذ عن قصة حقيقية- تم عرضه في فترة السبعينيات باسم "الجذور" وحظى بشعبية كبيرة في مصر والعالم العربي، و"كونتا" كان إفريقيًا أسود اللون تم أسره وخطفه إلى أمريكا، وكان يدافع عن جذوره السمراء التي يراها جديرة بالاحترام.

عادت أمي من عند جدتي وهي تبكي تقريبًا، فقد بدأت علامات ألزهايمر تزحف على ذاكرة جدتي، لدرجة جعلتها لا تتعرف على أمي في البداية، حاولت التهوين على أمي بشتى الطرق، ولكنها رفضت كل محاولات التخفيف عنها، فقد رأت فيها محاولة للتقليل من حجم المأساة التي تعاني منها، وهي تآكل أهم جذورها في الحياة، وهي العلاقة بينها وبين أمها.

كنا نجلس في المحاضرة، بينما نستمع بملل إلى ذلك الدكتور الذي كان يشرح باستفاضة ما هي "تكنولوجيا الصحافة"، الحشو والتكرار في المضمون جعلنا لا نركز فيما يقال، وقررنا أنا وصديقتي أن نتخيل هوايتنا وقد حققناها بعد التخرج، وفجأة ارتفع صوت الدكتور إلى غير المنتبهين في المحاضرة، بأنه اختار الحياة في مصر وترك المال والمنصب الكبير في أحد الدول العربية من أجل تلك الساعات التي نجلس فيها غير منتبهين له.

فقد عرض على هذا الدكتور السفر إلى إحدى الدول العربية من أجل التدريس في أشهر جامعاتها، وبمبلغ هائل لا يُقاوم، ولكنه بعد أسبوع واحد من العمل هناك، قرر الرجوع إلى مصر، وعاد للتدريس مرة أخرى في جامعة القاهرة، كان المبرر الذي ساقه الدكتور هو أن ضغط جذوره في القاهرة كان أكبر من رغبته في تحقيق طموحه من شهرة ومال ومنصب.

تحكي لي صديقتي عن قريبتها التي قررت طلب حق اللجوء إلى إحدى الدول الأجنبية، وخرجت من مصر بعد الثورة غير آسفة على تركها، تلك القريبة الآن بعد مرور أربع سنوات، عندما تتصل بها صديقتي للاطمئنان عليها، تخبرها عن أمنيتها بانتهاء سنوات حق اللجوء بسرعة وهي خمس سنوات، حتى تعود بأبنائها إلى مصر، فقد اكتشفت تلك القريبة أن تربية الأبناء في بلد غير بلدهم الذي ولدوا فيه قد يتسبب في ضياع جذورهم، المتمثلة في طريقة التربية التي نشأت عليها ومعرفة العائلة، وهو ما تخاف منه مستقبلاً.

كنا نجلس مع جدتي أنا وأخي كما اعتدنا كل خميس في بيتها، لنختار مسلسلاً نتابعه، كان المسلسل هو "الضوء الشارد"، و جاء مشهد الممثل جمال إسماعيل وهو يتحدث مع ابنته في المسلسل، وينصحها بعدم نسيان العائلة بعد زواجها، وبدأ يبكي وهو يصف قيمة العائلة للفرد، وأنها جذوره ومصدر أمانه.

في هذا الوقت سمعنا نحيبًا وبكاءً آخر، كانت جدتي تمسح دموعها سريعًا بمنديلها الأبيض، حتى لا نراها، ولكن الوقت كان فات ورأيناها وهي تحدث نفسها عن عائلتها التي توفي كل أفرادها تقريبًا، بكلمة واحدة "راحوا"، فبعد وفاتهم شعرت أن جذورها راحت معهم.

يظل الإنسان قادرًا على المباهاة بمدى قوته على التحمل، والتكيف مع أي بيئة جديدة، والتعرف على أناس من شتى بقاع العالم، ولكن يظل ذلك الجزء الخفي من نفسه الذي لا يعرفه سواه هو ما يجعله يرتبط بالعالم، فيشعر بأنه حي، هذا الجزء هو جذوره.

قد تكون تلك الجذور عائلته، لونه، عاداته وتقاليده، بلده، أحد الوالدين، طريقة التربية التي نشأ عليها، بل قد تكون كل ذلك، قد يجيد إخفاء ذلك ولكنه سرعان ما يظهر في أول موقف يذًكره بتلك الجذور.

فعلى الرغم أني كنت حاضرة تلك المواقف السابقة لكني لم أشعر بأبطالها حقًا، إلا عندما سافرت خارج مصر، ومرة أخرى قبل الزواج مباشرة، ففي كل مرة نغادر عالمنا الذي نشأنا فيه إلى عالم جديد، ونظن أننا سنستغنى عن ملل عالمنا القديم، بجمال البدايات في حياتنا الجديدة، إلا أن هذا لا يكون في كثير من الأحيان حقيقيًا، فمهما حاولنا الهروب من جذورنا تظل معنا، جزء منها يعيش فينا، ونمارسه في حياتنا اليومية، وننقله معنا إلى حياتنا الجديدة.

ويظل "داوود" أحد أبطال رواية "حديث الصباح والمساء" لنجيب محفوظ الذي قرر الرجوع لجذوره بعد أن رأى من العالم ما رأى، أفضل تجسيد لذلك، والذي تعبر عنه أنغام بصوتها في مسلسل مأخوذ عن الرواية: "ونشوف ملامح الزمن متعادة في المواليد، وإحنا البشر كلنا أعمار ورق بيطير".

أهم أخبار مرأة

Comments

عاجل