المحتوى الرئيسى

«ريتشارد فاغنر».. جنون «نيتشة» الجميل - ساسة بوست

07/02 16:28

منذ 21 دقيقة، 2 يوليو,2016

في كتابه «مولد التراجيديا» عام 1868، وصف الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه»، الموسيقار «ريتشارد فاغنر»، باعتباره الأمل، والمخلّص، والمستقبل، فيما يخص الموسيقى. وفي عام 1888، أي بعد عشرين عامًا من كتابه الأول، ومن صداقته الوطيدة بــ«فاغنر» أيضًا؛ دشّن «نيتشة» نهاية صداقته بفاغنر، وهي نهاية لا تقل ملحمية عن صداقتهما، حين أفرد كتابًا كاملًا لانتقاد موسيقى فاغنر، وأسماه «قضية فاغنر»، واصفًا صديقه القديم باعتباره تجسيدًا حيًا للمرض، يمتص كل مظاهر الحياة من الموسيقى الألمانية، ويحمل الراية بدأب نحو الانحطاط الثقافي، الذي رآه نيتشة متفشيًا في المجتمع المعاصر. عشرون عامًا هي فترة كافية لتحويل أستاذ مادة «الفيلولوجي» بجامعة «بازل» إلى أحد أعلام الفلسفة الحديثة، وفترة كافية أيضًا لتأسيس واحدة من أكثر العلاقات الإنسانية ثنائية القطب، وتحويل مجراها من الصداقة المخلصة إلى العداء الصريح، نقصد بالطبع العلاقة الاستثنائية التي جمعت بين نيتشة وفاغنر في القرن التاسع عشر.

بنظرة مبدئية على خلفية نيتشة ونشأته الاجتماعية، يمكنك بسهولة إدراك مدى ولعه بالموسيقى، وتأثره بها، ولكّن الأمر لم يقف عند حد الولع فقط، بل، وبحسب تصريح نيتشة في سيرته الذاتية، كانت أمنية الصبي الذي تربى لأب يعمل «قسًا بروتستانتيًا» وأمًا متدينة، أن يكبر ليصبح مؤلف موسيقي يصنع الفن الذي فتنه في صباه، إلا أنَّ نيتشة كان يفتقر للموهبة الكافية التي تجعل منه موسيقيًا ناجحًا. من ثم، فلا يبدو غريبًا أن تسلب موسيقى فاغنر لُب الشاب ذي الأربعة وعشرين عامًا، لدرجة أن يُفرد لها سلسلة من المقالات التحليلية بعنوان «مولد التراجيديا»، والتي ستصبح مدخلًا لصداقة غير متكافئة، ستجمع بين الشاب المتحمس، والموسيقار الذي في عمر والده تقريبًا.

ولكن، هل هذا هو العامل الوحيد؟

بالطبع لا؛ فالعمود الفقري الذي دعّم صداقة كتلك، هو في واقع الأمر الفيلسوف الألماني «شوبنهاور».

بشكل من الأشكال، قادت فلسفة شوبنهاور نيتشة، إلى موسيقى فاغنر، التي هي التجسيد الفعلي لفلسفة الإرادة في الفن؛ فالموسيقى هي التعبير الحقيقي عن إرادة الحياة، ليس هذا غريبًا، ففاغنر نفسه قد تأثر بأفكار «شوبنهاور» وتجلّت في موسيقاه، من ثم، فيمكن القول إن أفكار شوبنهاور كانت الركيزة الأساسية التي ترقد تحت مسرحيات فاغنر «الأوبرالية»، ومؤلفات نيتشة في آن، وبالتالي، الركيزة الأساسية التي بُنيت فوقها تلك الصداقة التي استمرت عشرين عامًا قبل أن تتداعى.

موسيقى المعلم الكبير، إنما هي في نهاية الأمر سمٌّ للجمهور، ففاغنر لا يتمتع بالموهبة الحقيقية، إلا حين يعالج التفاصيل الصغيرة، إنه «فنان المنمنمات»، وهو ليس كبيرًا، إلا حين يضع آلامه الخاصة وذاته، في موسيقاه، ومع هذا، ها نحن لا نراه، إلا ساعيًا إلى فرض تأثير استعراضي على جمهوره، إنها موسيقى لا مستقبل لها على الإطلاق. *نيتشه في كتابه «قضية فاغنر»

ولكن في العام 1888، أي بعد وفاة فاغنر بخمس سنوات، خرج التلميذ من عباءة معلمه، ونشر كتاب «قضية فاغنر»، الذي يهاجم فيه كل ما امتدحه في السابق حول موسيقاه، وعلى الرغم من احتدام الخلاف بينهما لسنوات، إلا أن ذروة هذا الخلاف كانت مع إطلاق فاغنر لأوبرا «البارسيفال» عام 1882؛ الأمر الذي أثار استياء نيتشة إلى درجة القطيعة التامة لفاغنر، ووصف مؤلفاته بالمرض المتفشي؛ ذلك أن البارسيفال عمل فني مستوحى من النصوص المسيحية، قدمها فاغنر في نهاية حياته بعد تحوله للمسيحية؛ ليطلب بها الغفران. الأمر الذي فجّر ثورة نيتشة، لدرجة تحويله لفاغنر من رسول للفنون، إلى أحد أركان الفساد والانحطاط الثقافي، ولكن، هل البارسيفال هي السبب الحقيقي؟

في نهاية حياة فاغنر، وبينما كان في أوجّ شهرته، أحس نيتشة أن فاغنر قد خان كل أفكاره الأولى، حول إنشاء مسرح يعتمد تخريب وهدم كل قيم المجتمع البالية. ومع افتتاح باليه «الخاتم»، سفّه نيتشة من قيمته ووصفه بالحدث الرياضي. أما في افتتاح باليه البارسيفال، تصرف نيتشة بـقسوة؛ وقرر ألا يذهب إلى الحفل، إلا في حال أن يوجه له فاغنر دعوة خاصة كضيفٍ شرفيّ. ربما يعد هذا نوعًا من الأنانية التي اتصف بها نيتشة في علاقته بفاغنر؛ فالفيلسوف الذي لم تسعفه أية موهبة موسيقية في صباه، تعامل مع فاغنر باعتباره مرآة عاكسة له. بمعنى آخر، اعتبر نيتشة الموسيقار فاغنر، مجرد أداة لإنتاج الموسيقى التي كان هو ليكتبها، لولا افتقاره للموهبة. ولتبرير أنانيته، أقنع نيتشة نفسه أن فاغنر قد قام بسرقة جمهوره الخاص لسنوات، تحت تأثير موسيقاه، إلا أن الواقع يقول غير ذلك؛ فبعكس فاغنر الذي تمتع بشهرة وحفاوة عالمية، لم يستطع نيتشة في حياته أن يحوز أي تقدير معنوي من القراء، وبمعرفة مسبقة لموقف نيتشة من الأديان، يمكن الاستدلال على أن مهاجمته لم تكن لفاغنر نفسه، وإنما لما يمثله فاغنر من احتماليات لا نهائية، ومعاودة للتفكير، أو زاوية أخرى لم يسعفه استغراقه في نفسه للتحرك تجاهها، بل على العكس قرر مواجهتها بالمزيد من الاستغراق والتمركز حول الذات.

بالرغم من أن العلاقة بين نيتشة وفاغنر كانت علاقة فنية شاملة، تدور حول الدين والفلسفة والموسيقى؛ المحاور الثلاثة المؤثرة في المجتمع الألماني آنذاك، إلا أنها كانت غير متكافئة كليًا؛ فبينما كان لفاغنر التأثير الأعظم في نيتشة، لم يكن للأخير أي تأثير عليه مطلقًا. وبالتالي فإن عدم تجانس العلاقة، مع فارق السن، بالإضافة لاختلاف مواقعهم من الحياة. كلها عوامل قد أدت لخلق تصدعات جزئية ساعدت في تفكك صداقة كتلك.

ربما تكون قناعات فاغنر قد تغيرت قليلًا، إلا أن من تأثر حقًا بتلك التغييرات كان نيتشة نفسه، فـانفصال نيتشة عن فاغنر قد أدى بالتبعية لانفصال آخر عن شوبنهاور، الركيزة الأساسية التي جمعت بينهما. قد يفسر ذلك تحول أفكار نيتشة للإيمان بوجود عالم تجريبي، رافضًا فكرة العالم الحدسي الذي أسس لها شوبنهاور، ومن منطلق أن لا وجود لأية عوالم غير هذا الذي نختبره، إذن فالمعنى الوحيد للعالم هو الحياة نفسها، وليست الإرادة كما كان يعتقد شوبنهاور. نزعة تفاؤل كتلك ربما تصبح هي المكسب الوحيد من نهاية صداقة نيتشة بفاغنر.

إن هذين – فاغنر وشوبنهاور – إنما يفتقران ـ أول ما يفتقران ـ إلى الحيوية، نراهما معًا يحتقران الحياة؛ لأنهما غير قادرين على إدراكها في امتلائها.* من كتاب «قضية فاغنر»

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل