المحتوى الرئيسى

فخ السقوط الحر

07/02 14:43

قد نجد فيه بعض الراحة، قد يكون الحل الوحيد أمامنا للهروب بعيدًا ونحن لم نبرح مكاننا بعد، إذا ما تقزمت خطانا وصعب علينا الرحيل، قد تزل إليه قدمانا بعد ثبوتها في غفلة منا دون أن نشعر، إنه فخ "السقوط الحر"، بالطبع الفكرة مستوحاة من المسلسل الذى يعرض الآن على العديد من القنوات الفضائية تحت الاسم نفسه "سقوط حر"، والذى تقوم ببطولته الفنانة نيللى كريم، إلا أنني هنا لست بصدد الحديث عن المسلسل بما يدخل تحت إطار النقد الفني والأداء التمثيلي وما شابه ذلك، وإنما عن الفكرة التي يطرحها المسلسل والتي استمدها من نظرية فيزيائية بحتة.

ساهم في الفهم العلمي لنظرية "السقوط الحر" كل من العالم الإيطالي جاليليو جاليلي ونظيره البريطاني، إسحق نيوتن، في نهاية القرن الـ16 وحتى نهاية القرن الـ17، ويشير مصطلح "السقوط الحر" إلى حركة الجسم باتجاه الأرض بتأثير قوة الجاذبية الأرضية دون أن يكون لكتلة الجسم دخل في مدى سرعة سقوط هذا الجسم على الأرض، إذا ما قارنا مثلًا بين سقوط حجر وريشة خفيفة، إلا أن ما حاول إثباته كل من العالمين جب الاعتقاد العلمي الذي أتى به أرسطو وهو "أن لكل مادة مكان طبيعي ترغب في الوصول إليه"، والذي رأى أن الأجسام الثقيلة تصل بسرعة أكبر إلى الأرض إذا ما قارناها بالأجسام الخفيفة لأن - وبحسب اعتقاده - رغبة الأجسام الثقيلة في الوصول إلى مركز الكرة الأرضية أكبر من رغبة الجسم الخفيف.

وهي النظرية التي عمل كل من العالمين جاليليو ونيوتن على نفيها وإثبات أن سقوط الجسمين بغض النظر عن الكتلة ثقيلة كانت أم خفيفة يتم بالسرعة نفسها، فقط ما يحدد سرعة السقوط هو "الهواء" ومدى استجابتها للمقاومة الخارجية التي تثنيها عن السقوط أو على الأقل تقلل من سرعة هذا السقوط.

وبعيدًا عن الفن والفيزياء، هذا بالضبط ما نقع فيه أحيانًا وكما جاء بمشهد داخل المسلسل حينما شرح الطبيب النفسي حالة الشخصية التي تقوم بها نيللي كريم "البني آدم لو المشاكل اللي حواليه زادت ومبقاش قادر يحلها بيختار أحيانًا بمزاجه أنه يرمي عقله في حتة ضلمة"، وهو ما يصبح حينها سقوطًا حرًّا وبكامل اختيارنا وإرادتنا، وعندها نكون في أشد الاحتياج لمقاومة خارجية شديدة تمنع سقوط عقلنا في هوة عميقة مظلمة ليس لها من قرار، ويكون لها القدرة على انتشالنا والأخذ بيدينا في أحلك الظروف وأشد الأزمات.

أشكال السقوط وأنواعه متعددة لا تصل بالطبع في أغلبها إلى الجنون المكتمل، إلا أن هذا لا ينفي أن هناك من لم يستطع تحمل مصاعب الحياة وأوصلته ظروف قاهرة مرت به إلى فقدان عقله وإلى الجنون بما يأخذ شكلًا من أشكال الهروب من الواقع، وهم الذين من المؤكد لم يجدوا يدًا تمتد إليهم لتنقذهم من براثن وفخ هذا السقوط الكبير فيقبعون داخل قوقعة لا يستطيعون الخروج منها وهم كثيرون وتعج بهم الشوارع في كل مكان.

وربما جسد هذا الإحساس بالتحديد الكاتب الياباني هاروكي موراكامي في روايته "كافكا على الشاطئ" التي تعرضت لمعنى الوجود وحالة الاغتراب والتيه التي يعاني منها البشر أحيانًا، حينما قال "بركة ماء مظلمة تحاصرني، على الأرجح أنها موجودة طوال الوقت مختبئة في مكان ما. لكن عندما يحين الوقت تندفع مياهها في صمت، تقشعر كل خلية في جسمك. تغرق في ذلك السيل الجارف محاولًا التنفس. تحاول الوصول إلى منفذ ما عند سطح الماء، تكافح، لكن الهواء الذي تفلح في تنفسه جاف يلسع حنجرتك. ماء وعطش، برد وحرارة - أضداد تجتمع ضدك. العالم كون واسع، لكن الفضاء الذى سيحتويك - والذى ليس بالضرورة أن يكون كبيرًا جدًّا - لا وجود له. تبحث عن صوت. فماذا تجد؟ الصمت".

وهو الشعور الذى حاول الهروب منه في محاولة بائسة للإفاقة ومواجهة الأمر إذا ما تحدثنا عن الهم البشري بشكل عام، حينما قال في موضع آخر "يجب أن تنظر، وهذه قاعدة أخرى من قواعدنا. إغماض العينين لن يغير شيئًا. لا شيء سيختفى لمجرد أنك لا تريد أن تراه. بل، ستجد أن الأمر ازداد سوءًا في المرة التالية التي تنظر فيها. هذا هو العالم الذي نحيا فيه. أبق عينيك مفتوحتين على وسعهما. الجبان فقط هو من يغمض عينيه. إغماض عينيك وسد أذنيك لن يوقف الزمن".

طرق الهروب كثيرة، وحدة السقوط تختلف وتتوقف على مدى قدرة الشخص على المقاومة والمواجهة، ولعل خير شاهد على هذا حالات الاكتئاب التي تطالعنا بها الصحف وتغص بها الدراسات والتي تؤكد أن أعدادهم في زيادة مستمرة.

المشكلات تتعدد من حولنا إذا ما تناولناها بالأفق الضيق، فمن الفشل في الحب إلى الفشل في توفير تكاليف زواج للمشاكل الأسرية وضغط العمل والزحام كلها مشاكل لا يستطيع أن ننجو منها فى حياتنا اليومية، وكذلك الضغوط النفسية وابتعادنا عن الروحانيات والإحساس بالقهر وقلة الحيلة وصعوبة الحصول على حياة كريمة والأزمات المالية، وهو الأمر الذي قد يفضي بالبعض للبحث عن معنى الوجود والتفكير في الكون، ما الذي يجب علينا فعله للسيطرة على جميع هذه المشاكل والأزمات وشطط العقول وفتنة الأفكار، وبعيدًا عن النصائح التنمية البشرية التي تقولبت وأصبحت شيئًا نمطيًّا، بالتركيز على الإيجابيات والمرونة وممارسة الهوايات المفضلة ولعب الرياضة، فكلها لم تعد تجدي نفعًا ولن تنطلي على عقل شخص يشعر بكافة أشكال الإحباط.

وعلى الجانب النفسى الذي لا يخلو من تأثير وتزاحم الواقع، نجد أن السقوط يمكنه أن يأتي أيضًا على هيئة اغتراب داخلى فيكون الإنسان وسط أهله وفي وطنه إلا أنه لا يستطيع أن يوقف إحساس الغربة بداخله، عدم الاكتراث لشيء واللامبالاة والاكتئاب أليست كلها إرهاصات للسقوط، الذي تتعدد أسبابه ومنها الشعور بالاضطهاد والقهر أو العجز أو حتى اختلاف التفكير والتوجهات والاستبداد السياسي واختلاف الذوق وتبدل معايير الجمال، كلها يمكن أن تؤدي بالإنسان لتلك الحالة، إلا إذا كان سعيد الحظ ووجد من يمثل دور "الهواء" في حياته كما قالت النظرية الفيزيائية فيعطيه دافعًا لتغيير مساره بعيدًا عن الأرض لمجالات التحليق والخلق والإبداع وتحفيز اللاوعي ومن ثم الإقبال مجددًا على الحياة أو أن تكون نفسه هي دافعة ومحفزة ممثلة في القوة الداخلية الكامنة بداخل الإنسان، والتي أرى أنها طوق النجاة وخير من يقوم بوظيفة دفع الهواء فتطلقه بعيدًا عن الأرض وتقيه براثن السقوط.

Comments

عاجل