المحتوى الرئيسى

مقال طعم الكلام

06/30 22:15

«أفراح القبة».. الشقاء بالواقع والخلاص بالفن

ربما يكون أفضل ما فعله مسلسل «أفراح القبة»، المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ التى تحمل نفس الاسم، هو أنه أثبت من جديد ثراء أدب الكاتب الكبير الراحل، والذى ترك تراثًا عابرًا للأجيال، ذلك أنه يطرح أسئلة حاضرة فى كل زمان ومكان، من خلال بناء سردى متماسك، وشخصيات حية، تعبّر عن زمنها وظروفها، ولكنها أيضًا نماذج إنسانية، مليئة بتناقضات الإنسان، فى كل عصر وأوان.

ما قدّمه صُنّاع مسلسل «أفراح القبة» أعاد أيضًا الاعتبار إلى روايةٍ أقل شهرة من أعمال محفوظ الكبرى، وإن لم تكن أقل قيمة أو أهمية، فرغم صغر حجم الرواية، إلا أن محفوظ لديه القدرة على أن يقول كل شىء فى أقل عدد من الصفحات، وقد شهدت رواية «أفراح القبة» التى صدرت طبعتها الأولى فى العام 1981.. وكانت طبعة دار الشروق الأولى لها فى العام 2006، على عصرها شهادة قوية ومؤثرة، فيها الكثير من الجرأة والمرارة، وفيها أيضًا الكثير من الأمل فى جيل جديد متمرد.

رواية «أفراح القبة» تُسرد وقائعها من خلال أربع شخصياتٍ هى: الممثل طارق رمضان، والملقّن المسرحى كرم يونس، وزوجته عاملة شباك التذاكر حليمة الكبش، والمؤلف المسرحى عباس كرم يونس. حكاية مؤلمة دارت بين منزل قديم أقرب إلى الماخور وصالة القمار، ومسرح يملكه سرحان الهلالى، وتُجسد على خشبته وقائع هذا العار، من خلال نص كتبه عباس. زمن تجسيد المسرحية فى السبعينيات، وبالتحديد بعد انتصار أكتوبر، حيث عصر الانفتاح والبيع والشراء لكل شىء تقريبًا، ولكنها تعود بنا إلى الستينيات وما قبلها، حيث نتابع جذور العار والانهيار، كيف أصبحت معظم الشخصيات على هذه الدرجة من التنازل الأخلاقى؟!

«أفراح القبة» رواية ماكرة يُكمل كل سارد فيها ما بدأه السارد السابق، مثل بناء رواية «ميرامار»، ولكنها تزيل تقريبا الحائط الوهمى بين المسرح والواقع، ويتعمد محفوظ أن يكون الحوار جزءًا غالبًا على الرواية، وكأنه يستوحى حوار المسرح، كما تُواجه الشخصيات بماضيها القذر على المسرح، فيتراوح الصدى بين التطهر والصدمة والشك فى أسباب وفاة تحية وابنها من عباس.

المسرحية تعمل فى الرواية كمرآة لمجتمع صغير انهارت فيه كل القيم، بيت/ ماخور، ومسرح يغتصب فيه سرحان الهلالى حليمة، كتب عباس شهادته المسرحية على أسرته المنهارة، بينما مكر اللعبة الحقيقى فى أن نجيب محفوظ هو الذى ارتدى قناع عباس، ليكتب فى روايته العظيمة شهادته على مجتمع بأكمله، كسرته هزيمة 67، ورغم النصر بعد ذلك، إلا أن الانفتاح أكمل الانهيار، لا يُقال ذلك بشكل مباشر، وإنما من خلال دراسة حالة لأفراد ولمكانين هما «المسرح» و«بيت باب الشعرية»: شخصيات غارقة فى الخيانة والمخدرات، وحياة ملونة من الخارج، ولكنها غارقة فى المأساة من الداخل.

هذا ما جسّدته الرواية ثم ردده المسلسل، هناك جيلان واضحان: جيل يمثله عباس وتحية، وجيل يمثله بقية أبطال الرواية والمسرحية أيضًا، عباس هو الشاب المثالى، أمل أسرته وأمه على وجه التحديد، الشاب الذى علّمه الكتاب والمسرح وعلّمته المدرسة، الثائر على الماضى المتعفن، والذى لا يمتلك شيئا لتغييره، إلا أن يعكسه فى صورة مسرحية تشهد وتفضح وتجسد الشرور العائلية، تقول أمه حليمة: «إنى أحلم بأمل يعدنى به عباس، ولكنه لا يجد ما يحلم به».

عباس سيجد فى المسرحية ما يحلم به، سيغير مما وقع لكى يثير الحيرة والشك، وسيكون الفن هو طوق النجاة من قسوة واقعه، وعباس هو أيضًا الذى سينقذ تحية بحبه لها، سيكتبها فيمنحها الخلود بعد حياة قاسية ومضطربة، الحب عند محفوظ يماثل الفن كطوق للنجاة، أما الجيل الأكبر فقد سقط نهائيا: سرحان الهلالى الذى جمع ثروة، فامتلك مسرحًا من أجل الشهرة والنساء، والذى سيغتصب حليمة، والذى سيحول منزل كرم إلى صالة للقمار، وحليمة التى يؤرقها ماض مشين، وحاضر مؤلم مع زوجها كرم يونس، الذى لا يقيم أى وزن للقيم الأخلاقية، والذى يدمن الأفيون، وطارق رمضان الممثل الثانوى الذى ترك أسرته الثرية، ليعمل ممثلا صعلوكًا، ثم يدمن الأفيون أيضًا، والمخرج سالم العجرودى الذى ينضم إلى شلّة القمار، ومن قلب الماخور يخرج جيل جديد يمثله عباس، وتمثله تحية، يؤمن محفوظ بأنه جيل متمرد، رغم أنه لا يمتلك إلا الحلم.

«أفراح القبة» بهذا المعنى هى مجاز كبير وبديع عن شقاء الواقع الذى صنعته هزيمة، ونصر لم يستغل، فانتهى إلى انفتاح جعل المجتمع مثل الماخور، إذ يستنكر كرم أن يقبضوا عليه لإدارة صالة قمار فى بيته، بينما الدولة نفسها تدير صالات القمار، ونسمع طوال الوقت عن الغلاء، وعدم وجود فرصة للحصول على شقة بسبب خلو الرجل، وتقول درية: «كان يجب أن يقودنا النصر إلى حياة أيسر»، أو أن هناك حكاية الرجل العربى، الذى تقول مسرحية عباس، إنه كان سببا فى قرار بطل المسرحية بالتخلص من زوجته، هذا هو المعنى الأعمق لرواية ماكرة تجمع بين شخصيات منحرفة أو قابلة للانحراف، وعصر يساعد على هذا الانحراف، وجيل جديد يرفض أن يكون مثلهم.

قد يكون عباس مثاليا، وغير قادر على أن يستخدم حيل الشيطان لهزيمة الشيطان، ولكنه لن ينتحر، ولن يقتل أحدًا، لديه سلاحان عظيمان: الحلم الذى يبعث الأمل، والفن الذى يعرّى الشر على المسرح، هذا جيل ظهره إلى الحائط، مفلس ومطارد وحزين، ولكن محفوظ ينهى روايته بمزيد من التمرد: «لتكن العاقبة ما تكون، ذروة النشوة تتألق على جسد عرّاه الجفاف والإفلاس، ولكن تنطلق إرادته بالبهجة المتحدية..»، ينتصر محفوظ كالعادة للأمل فى صورة جيل جديد كما فعل فى نهاية رواية «الكرنك»، رغم الظلام، سيشرق النور، وكأن القاع الذى وصلت إليه شخصيات رواية «أفراح القبة» ليس من بعده قاع، وكأنه يمهد لفجر جديد قادم.

اختار عباس لمسرحيته اسم «أفراح القبة»، مما يترجم سخرية واضحة، إذ ليس فى أحداثها سوى العار والحزن، ولكنى أرى أن عنوان رواية «أفراح القبة» يحمل ما هو أبعد من السخرية، إنه يتسق تمامًا مع ثقة محفوظ بالغد رغم رسمه البارع لمرارة وقسوة الحاضر، وهل هناك أعجوبة تستدعى الفرح من أن يولد عباس المثالى الحالم والعاشق من هوان حليمة ولا أخلاقية كرم، وأن تهرب تحية من عنف طارق رمضان ومن استغلال سرحان الهلالى؟ ماتت تحية ووليدها فى الواقع وفى المسرحية، ولكن من قال إن المسرحية انتهت؟ ومن قال إن مسرحية عباس القادمة لن تكون أقوى وأشد؟ ومن يجزم بأن إرادة عباس لن تأخذ حقه وحق زوجته وطفلته كاملًا ممن حوّلوا أفراح القبة إلى أحزان؟

الحلم فى الرواية والمسرحية أقوى من الواقع، والحلم جعل عباس فى المسرحية متحررًا من العجز، وقادرًا على الفعل والتغيير: «ولكن كل شىء يهون فى سبيل الفن، فى سبيل التطهير، فى سبيل الصراع الواجب على شخص، ولد ونشأ فى الإثم، وصمم بقوة على الثورة»، ويقول عباس فى سياق آخر: «أصبح الفن هو الأمل الباقى للرغبة الملتهبة، وللحياة الواقعية معا»، و«الفشل فى الفن موتٌ للحياة نفسها».

المفرح حقًا أن صناع مسلسل «أفراح القبة» استوعبوا معنى الرواية ومغزاها العميق رغم بساطتها الظاهرة، انتقلت إلى الشاشة الشخوص بكل تفاصيلها، واحتفظ السيناريو، الذى كتبه محمد أمين راضى ونشوى زايد، بهذا الانتقال بين الواقع والمسرح، وهو عنصر أساسى كما شرحنا لا يمكن تجاهله؛ لأن المسرحية تمثل مواجهة الفن لحقارة الواقع، وأضاف السيناريو شخصيات تكمل لوحة الماخور المجتمعى مثل شقيقتى تحية وأمها وأبيها وعازف الأوكورديون أشرف شبندى..

وتم تعميق شخصيتين يُروى عنهما فى الرواية هما تحية وبدرية، وتم تعميق العلاقات وتفسيرها مثل علاقة طارق رمضان مع عشيقته أم هانى، وعلاقة طارق رمضان مع سرحان الهلالى، وتغيرت ردود فعل الشخصيات فى مواقف معينة بما يناسب المسلسل: كرم يونس مثلا فى ليلة زفافه على حليمة، يبدو مصدوما ويمزج ابتسامته بلون الحزن، ولكنه فى الرواية يبدو غير مبالٍ على الإطلاق؛ لأن الماضى لا يعنيه، هناك نص موازٍ للرواية، يأخذ منها، ويضيف إليها، يستلهم بناءها فيبدأ من الذورة حيث المسرحية التى كتبها عباس، يستغنى عن صوت الساردين الأربعة، ولكنه يحوله إلى أجزاء، يدفع فى كل جزء ببطل، ويجعل الآخرين فى الخلفية، استفاد السيناريو كذلك من حرية الانتقال بين الماضى والحاضر، وإن كان لابد من الاعتراف بأن شكل المسلسل قد أحدث ارتباكا حقيقيا لدى المشاهد غير المتابع، بسبب تلك الانتقالات.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل