المحتوى الرئيسى

في حب ''المنشاوي''.. حكايات ''عسكري التشريفة'' والتنقيب عن تسجيلاته

06/30 18:53

كانت الآيات تنساب من قلبه، فتنزل على السامعين تُهدئ من روعهم، تقرّبهم لروح القرآن، فيتلبسهم جماله ماداموا أحياء. على صوت محمد صديق المنشاوي اجتمع العاشقون، اختلفت أعمارهم، منهم من التقى به صغيرا، ومنهم من تربّى على القرآن بصوته، وآخرون ساروا على دربه في قراءة الكتاب.

في ذلك الزمن العتيق، حيث لم تنتهِ حقبة الخمسينيات بعد، كان ثمة شاب عمره لا يُجاوز 17 عامًا، سمع عن قارئ يُدعى محمد صديق المنشاوي، سيأتي ليزورهم في شارع المحطة بالأقصر، لم يتخيل سالم الشرقاوي أن "المنشاوي" سيأخذ بعقله، فيجعله يتتبعه حتى بعد وفاته.

حين كان يحضر "المنشاوي" للأقصر، يمتلئ صوان الحضور على آخره، من بالداخل أقل عددا بكثير ممن بالخارج، ولأن "سالم" كان صغيرا فلم تتسن له فرصة الجلوس، غير أن ذلك عاد عليه بالفائدة، إذ تم اختياره ليحمل حقيبة الشيخ "المنشاوي" أكثر من مرة من الفندق للصوان والعكس، حتى أنه يتذكر باللفتة تفاصيل تلك الأيام "كان بينزل في أوضة رقم 5 لوكاندة الجراجوة". كان مسئول المديرية حينها يُكلف أحدهم بالتحرك مع الشيخ مُطلقًا عليه اسم "عسكري التشريفة"، وفيما ينتظر "الشرقاوي" الشيخ ذهابًا وإيابًا "كنت براقبه كويس.. فمثلا كان لازم قبل ما ينزل يقرأ يدخل التراس بتاع اللوكاندة ويشرب قهوة"، كما يحكي ابن الأقصر لمصراوي.

حفظ "سالم" القرآن قبل أن يتمم عامه السابع عشر، وكلما تبحر أكثر أبهرته تفاصيل قراءة الشيخ "المنشاوي". لاحظ أنه كان ينتقي قراءته حسب المناسبة "لو جاء في عزاء يقرأ آيات الجنة، لو في فرح يقول ومن آيته أن خلق لكن من انفسكم أزاوجًا لتسكنوا إليها... لو مولد النبي يقول هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.. وهكذا".

لم يكن ابن الاقصر هو فقط المُغرم بقراءة "المنشاوي"، إذ يحكي عن الشيخ أحمد نجار طربوش أحد سكان المنطقة، والذي كان يملك جهاز تسجيل "بيك أب" يلتقط به ما يقول "المنشاوي"، واستطاع "سالم" فيما بعد أن يحصل على نسخ من تلك الشرائط، وامتدت رحلاته ليجمع الحفلات، حتى بلغ العدد أكثر من 1000 شريط، مازال يحتفظ بهم إلى الآن.

امتدت علاقة "سالم" ببقية عائلة "المنشاوي"، اعتاد على لقاء "محمود المنشاوي" أثناء قراءته في الأقصر ونشأت بينه وبين "الشرقاوي" صداقة، حتى روى له تفاصيل يوم وفاة الشيخ "المنشاوي". 

"انا ساعتها كان عندي 21 سنة فقط.. مرضوش يخلوني أروح أعزّي فيه"، غير أن الفرصة سنحت له فيما بعد بالذهاب ليقدم العزاء. فيما بعد روى "محمود" له عن جلد الأب الشيخ "صديق"، فكان معظم من يأتي للمنزل يصرخ أو ينهار حزنا على الراحل، فيقف الأب على باب البيت قائلا بحزم "اللي هييجي يزعق أو يصرخ مش هيدخل.. ربنا كان له وديعة واستردّها تاني"، فيما حكى له "محمود" أيضا أن الوالد شعر بوفاة الشيخ "محمد" قبل أن يعرف.

"كان محمود مع أخوه محمد في القاهرة عشان مشاكل المريء اللي عنده"، يحكي "سالم"، قائلا إن الأب اتصل بالابن عدة مرات ليطمئن على فلذة كبده الآخر وفي كل مرة يكون الرد "محمد بخير"، وفي المرة الرابعة اتصل الأب سائلا، وقبل أن يجيب "محمود" باغته قائلا: "يا محمود قولي يا ابني إن الشيخ مات وخلاص.. هات أخوك وتعالى".

يدين "سالم" بالفضل لمحمد صديق المنشاوي أولا، ثم لأخيه من بعده "وللعائلة كلها اللي قدمها متقطعتش عن القراءة.. وحاليا صديق محمود بييجي يقرأ عندنا في الأقصر"، رغم أن الرجل السبعيني ليس قارئا، لكن أذنه اعتادت على الألفاظ المنضبطة "مكنّاش نسمع غير القرآن الصح بالأحكام المضبوطة"، فصار الآن يُصلح بعض أخطاء يسمعها من مقرئين. فيما تعلم من الشيخ "محمد" التواضع "مكنش ياخد فلوس كتير.. كانوا يتفقوا معاه فيقولهم اللي تجيبوه غير الشيوخ بتوع لوقتي"، وإلى الآن يضطرب انبهارا كلما سمع الشيخ الراحل، خاصة وهو يتلو سورة يوسف، مُتنقلا بين القراءات بسلاسة في آية واحدة.

يوميا وعقب صلاة العشاء، كان والد إلهام عصفور، يدعوها للجلوس بجانبه لمدة ساعة إلا ربع، لتستمع لشيخ "صوته حلو". بينما هي صغيرة، كانت تعلم أن اسمه "محمد صديق المنشاوي"، دون إدراك أن أبيها يتتبع حكايات الشيخ وتسجيلاته، ثم يعود للمنزل حاملا الكنز. كَبرُت "إلهام" على صوت "المنشاوي" يتردد بأرجاء البيت، ثم ورثت عن أبيها حبه، فقررت أن تقتطع من تلك الحفلات الكائنة بمكتبة الوالد، بعض أجزاء كي تنشرها على الإنترنت تباعا.

في عام 2012 كان موقع "ساوند كلاود" الذي يضم مقاطع صوتية لازال جديدا، تفحصته الفتاة القاطنة بالإسكندرية بعناية "قبلها كنت برفع حاجات للشيخ على يوتيوب من سنة 2010"، فخاضت تجربة أخذ مقاطع ورفعها على الموقع الجديد "كنت بسجلها من الحفلة عن طريق مايك وأنشر جزء بسيط منها"، إذ فطنت أن من في سنها لن يسمع السهرات التي يتجاوز بعضها الساعة ونصف.

آيات من سورة الإنسان كانت أول مقطع وضعته "إلهام" على "ساوند كلاود"، وألحقته بسور أخرى "كنت فاكرة إن الناس كلها بتسمع الحاجات النادرة زيي بس اكتشفت إنهم مسمعوش الحاجات دي قبل كدة". حالة من الإعجاب بما تنشر، أحاطت "إلهام". رسائل ظلت تأتي إليها تطلب المزيد، حتى اضطرت الفتاة التي تعمل كمُعلمة للقرآن أن تُنشئ ثلاث حسابات على موقع الأصوات "عشان كل حساب ليه نسبة معينة من الساعات اللي ممكن أرفعها.. بعد كدة هدفع فلوس".

تحاول "إلهام" البحث عن قراءات أخرى نادرة للشيخ، بعد أن نشرت معظم ما تملك. في رحلتها وجدت بعض قراء غير عرب "خاصة من إيران"، يتبعون طريقة "المنشاوي" في القراءة، فاتجهت لنشر قراءاتهم أيضا، علّها تُبقي اسم الشيخ حاضرا دائمًا في نفوس المتابعين.

في صوان اُقيم ببلدته بسوهاج، وقف فوزي علوان بجانب أصدقائه ينتظر بدء السهرة التي سيقرأ فيها ابن عمه "فرغل" بصحُبة "المنشاوي"، كان الفتى-وقتها- متحمسًا لتلك السهرة، إذ أن القرآن صاحبه الأوحد، يقرأ منه ما تيسّر، بعد أن حفظه. وكان "علوان" يُرتل على طريقة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الأقرب لقلبه بتلك الفترة، لكن مع دخوله مرحلة المراهقة "كان صوتي بقى أخشن وكنت متضايق عشان مبقرأش حلو زي الأول"، ظل الحزن رفيقا إلى أن سمع "المنشاوي" يجود في هذه الليلة، فما شعر بنفسه إلا ناظرا إلى السماء يقول: "يارب خلي صوتي يبقى حلو زي صوت الراجل ده".

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل