المحتوى الرئيسى

ألم الذاكرة وشوشات من ورق

06/30 14:47

هنا عرفت ميغيل دي ثيربانتس بلغته الأم، وكيف استفاق الدونكيخوتي متأخراً من هلوساته التي جعلته تارة يحارب طواحين الهواء، وتارة أخرى يقطع رؤوس الدمى المتحركة، وكيف أدرك أن كل حروبه كانت خاسرة فقط لأنه توهمها.. أو أن أشباح الجهل السوداء التي تحتضنها كتب الفروسية، هي التي أوهمته بها..

من هنا سافرت إلى مدن الحب والثورة، زمن الكوليرا مع ماركيز، في رواية الحب في أبسط أشكاله، الحب اللاتيني.. رواية العناد والتحدي بعد مرور أكثر من نصف قرن.. رواية الصبر حتى اللانهاية، رواية الحزن، فمن منا لم يحزن على "فلورنتينو اريثا"، ومن منا لم يهتز عندما قالت "فيرمينا دارا": يا للرجل البائس.. رواية الحب المطلق والتحدي المطلق والحزن المطلق.. إنها أسطورة الحب الخالد، الذي يتحدى كل العوائق الوهمية المتمثلة في الزمان والمكان، والظروف الاجتماعية وحتى العمر..

وبدأت رحلة سعيد السعيدة، التي لم تنتهِ بعد في عوالم الأدب.. تحت تأطير المعلم النبيل مراد الروح، الذي ألهمني من معارفه ونهلت من علمه، وأغرقني بنبله.. فتارة ها أنا مع فلاديمير نابوكوف، رفقة لوليتا وهمبر همبر.. وأخرى مع ديستوفيسكي والإخوة كارامازوف، أو "تريكة البطاش" كما جاء عنوان المسلسل المغربي، الذي خطه السيناريست "شفيق السحيمي" والمقتبس من الرواية.. ومرة نحط الرحال في عوالم جورج أورويل، آخذاً بيدي نتجول في مزرعة الحيوان.. ونتجول في شوارع الأنظمة الشمولية في روايته 1984، ومرة مع الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال، وأخرى في تونس مع الطلياني وزينة نتجول منتعلين جمال اللغة التي جاد بها قلم شكري المبخوث، مرة في الكلية ومرة في الجريدة وها نحن نعيش انقلاب بن علي على بورقيبة، وكيف تحول عبد الناصر الطلياني من مناضل يساري إلى صحفي في جرائد النظام يخدم إيديولوجية كان ينتقدها، ويكافح من أجل إبادتها..

وبلا أجنحة أطير من تونس إلى موريتانيا الحبيبة، رفقة حسن ولد المختار في حي جامبور، بمدينة القديمة (الدريسة)، وأعانق توأمة موريتانيا والصحراء الغربية، في الطابوهات والطقوس والأساطير.. لتنتقل بي قريحة محمد ولد أمين، وقدرته التصويرية باليراع والمحبرة إلى موريتانيا زمن الاستعمار، وأعيش مع جوزيف بلانشيه رحلة العروج بالذاكرة، عبر الصوم والتوق، للبحث عن تاريخ أمه "منينة منت مخيطير لعيور". تلك البدوية التي تزوجت فرنسياً لتنجب طفلاً، له نسب أوروبي وسحنة بيظانية "سمراء" بلون الأديم، له أبوان، أب على ورق، وأب بيولوجي.. نبذه أهله في الدم، لأنه وصمة عار على شعب الطابوهات، ونبذه أهله النصارى لأن لونه ولون جنسيته غير سواء؛ ليعيش وهو يحمل في قرارة نفسه إحساساً بالدونية، وجرح التباس الهوية والانتماء، وكم كان يتقاطع هذا المشكل مع خيوط تعنكبت هنا على أرض الكثيب الكئيب من انشطارات في هذه وذلك..

و في الجرأة على الشوق، تجرأت على المشي مع حميدة نعنع على أرصفة المنافي الباردة.. وعشت معها حزنها على جنوب لبنان، وهو يتمزق بجنون رصاص الحرب الأهلية.. ورأيت قصة حبها للقيادي الصحراوي في جبهة البوليساريو "عمر محمد سيداتي".. وعودتها إلى فرنسا حزناً على الدم العربي الذي سال هباء منثوراً هنا وهناك..

عشت الخوف والصلابة مع "الآخرون"، حسونة المصباحي ورفاقه، في مدن أوروبا هروباً من أحذية العسكر والجلاد..

ومع عراقي في باريس انتقل بي صامويل شمعون من مدينة إلى أخرى، ومن حانة إلى حانة، مرة أسكر معه في باريس وأخرى في ألمانيا، وأحياناً نفترش الأرض ونلتحف السماء على أرصفة شوارع المنافي الصقيعية الخرساء..

وبين دفتي روايتها "قواعد العشق الأربعون"؛ العابرة لحدود الدين والزمن، جعلت مني إليف شافاق، عاشقاً صباً يعرف عمق الحب في داخله، وصوفيا حلاجيا، يشطح في حضرة جلال الدين الرومي وشمس التبريزي.. نقلتني بين سطورها من عصر إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، وظلت تطوف بي الأماكن والبلدان، كنحلة متعطشة لرحيق جميع أزهار الغابة.. عشت معها قرنين في قالب روائي؛ القرن الثالث عشر والحادي والعشرين.. وكيف أحبت إيلا

اليهودية الأميركية، عزيز الصوفي المسلم الذي كان ملحداً يسارياً.. وضحت بدفء أسرتها، من أجل حب يسبح ضد تيار دين يحرم هكذا علاقات..

عشت زمن الثورة في روسيا مع كورشتاغين، في رواية "كيف سقينا الفولاذ".. وكيف انتصرت المطرقة الاشتراكية على العنجهية الرأسمالية..

ولا أنسى أصابع لوليتا، وهي تسحب الشوك من ذاكرة الكاتب الجزائري المنفي يونس مارينا، نوة التي جاءت إلى الدنيا في ليلة يعانق فيها الليل المطر، ويتغزل الرذاذ بمحيا الأديم.. عشت هنالك معها حبها ووجعها، عالم الأنوار ساطعة هنالك في الصقيع، وأسجاف الظلام المدقع في وطن خطفته أيادي الاستبداد، وكلاب العقيد..

وشممت رائحة الحب الزكية في محراب الصبابة والهوى، شممتها في صفحات "طوق الياسمين"، إنجيل الحب الذي دبجت آياته أصابع واسيني الأعرج..

ذقت ملوحة الدمع ذات صبى حين أهداني "الداه" رواية العبرات للمنفلوطي، رغم تعثري في بلاغة الرجل، وصعوبة عباراته..

قرأت الخميائي لباولو كويلهو ولم تعجبني، بل حكمت عليها بالموت في مزبلة الأدب خنقاً بالتهميش.. حتى تجادلت مع أستاذي الإسباني، ذات صباح امتحان شفوي بكلية الآداب بمدينة أكادير المغربية، حول أيهم أكثر روعة الرواية العربية أم الغربية.. وتعجب حين قلت له: إن الأدب الروسي هو الحقيقي والباقي مستنسخ، وإن الخميائي لا تصل إلى درجة الرائعة فما بالك بالعالمية؛ لأنها خواء من أي عمق في نظري على الأقل.. فقال لي بتواضع عظيم، وهدوء المتأكد: إنها تغوص في عمق الإنسان العربي الذي أهمل كنزه الذي بين يديه، وذهب في رحلة تيه يبحث عن مجد من وهم في الفلاة، فعاد بخفي حنين.. أحسست لحظتها أن التلميذ العربي أصغر من حشرة صغيرة، وأن هذا الأندلسي رأى ما لم أرَ فداسني بعلو كعبه التحليلي.. فصمت، ولم أنبس ببنت شفة، حتى في محاولاتي المشاكسة تحشرجت حشرجة ميت يلفظ أنفاسه الأخيرة..

رأيت وسمعت وعشت، الوجع المغنى بالحنان والألحان، في رواية البتول المحجوب "بوح الذاكرة وجع جنوبي".. ورأيت الوجه الخمري وقسماته الحزينة، شممت رائحة القرنفل الزكية تحت جذائل الأم المشرع فؤادها على الانتظار، والحنين إلى شهيد قتل وطمر رفاته دون تسلسل رقمي يتيح لقياه.. وكيف وثقت أصابع أبو هديل التقديم، الذي أغرق الجلاد في ذل جرمه.. عشت وجع الخليل الجليل والضفاف، وجع الطنطان في أتون الحكايلة..

وهنا جاءني أبو هديل بالفتوى: "أن اركض يا سعيد فركبتاي لم تعد تحتمل المسير.. اركض يا سعيد.. لا يهمك لؤم الناس ولا نتانة الخنازير.. اركض ولو تدثرت الغابة بظلام الغانيات.. اركض يا سعيد".

هذه رحلتي التي لم تنتهِ بعد.. ولا أريدها أن تنتهي، ولن تنتهي.

- أهدي هذه التحبيرة إلى:

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل