المحتوى الرئيسى

تامر موافي يكتب: على هامش أورلاندو: اﻹسلام.. الحداثة.. رهاب المثلية.. واﻹرهاب

06/30 10:49

أثارت واقعة مقتل 50 مثليا في نادٍ ليلي للمثليين في أورلاندو بولاية فلوريدا اﻷمريكية على يد أمريكي من أصل أفغاني لغطا كبيرا حول العالم، كان محوره هو إدانة أو تبرئة اﻹسلام من كونه الدافع الرئيسي وراء إقدام القاتل على جريمته، خاصة وأن تنظيم الدولة اﻹسلامية “داعش” قد سارع إلى تبني الهجوم، وهو أمر لا يعني بأي حال أن التنظيم قد قدم أي مساعدة للقاتل أو أنه كانت له أية صلة مباشرة به قبل الهجوم، وإنما يمكن فقط النظر إليه على أنه تبني للفعل بوصفه معبرا عما يتبناه التنظيم عمليا ونظريا.

في إطار هذا النقاش المحتدم حول واقعة أورلاندو كتب شعيب دانيال مقالا باﻹنجليزية بعنوان: “Orlando shooting: It’s different now, but Muslims have a long history of accepting homosexualit”، وهو مقال تناقله البعض محتفين به على شبكات التواصل الاجتماعي العربي، ثم نشر موقع المنصة ترجمة له قامت بها ميس رمضاني تحت عنوان “المسلمون وتاريخ من التسامح مع المثلية الجنسية”.

الفكرة البسيطة التي يحاول المقال طرحها، هي أن المجتمعات اﻹسلامية قد مارست طوال قرون تسامحا كبيرا مع المثلية.. هذا التسامح قد اختفى مع التوسع الاستعماري للدول الغربية وبصفة خاصة بريطانيا، واحتلالها لمعظم البلدان اﻹسلامية حيث أدخلت فيها القوانين الغربية المعادية للمثلية. ومن ثم أسست للعداء للمثلية الذي ما زال قائما في هذه البلدان، على الرغم من أن المجتمعات الغربية نفسها قد تخلت لاحقا عن هذه القوانين وأصبحت اليوم أكثر تسامحا مع المثلية. ويبدي الكاتب دهشته لكون المحافظين من المسلمين والهندوس ما زالوا دون أن يشعروا يمارسون نوعا من التحيز الفيكتوري في إشارة إلى عهد الملكة فيكتوريا في بريطانيا (معظم القرن التاسع عشر)، في حين يتجاهلون تاريخهم هم أنفسهم!

ثمة العديد من المشاكل في المقال وفي وجهة النظر التي يحاول طرحها، وهي جميعها متداخلة بحيث يصعب فصل أي منها عن الأخرى، ومن ثم سأستخدم ما قد يبدو أبسطها كمدخل لتعاملي معها.

الكاتب -بداية- بعنوان مقاله يستخدم مصطلح “المثلية” طيلة الوقت، متجاهلا حقيقة أن المصطلح لم يكن له وجود قبل العصر الحديث، لا في المجتمعات الإسلامية ولا في المجتمعات الغربية الاستعمارية نفسها، واﻷمر في الحقيقة لا يقتصر على غياب المصطلح، بل يمتد إلى غياب ما يشير إليه، فصحيح بالطبع أن كافة المجتمعات البشرية قد عرفت منذ نشأتها ممارسات جنسية مثلية، إلا أنه لم يكن ثمة في الحقيقة مفهوم للميول الجنسية بوصفها هوية يتم تصنيف البشر على أساسها، وبالتالي فلا المثلية ولا الغيرية كان لهما وجود قبل القرنين -أو أكثر قليلا- اﻷخيرين.

وفي حين يبدو استخدام مصطلح “المثلية” بدلا من “الممارسات المثلية” كمشكلة بسيطة -كما ذكرت سابقا- إلا أنه في الواقع محور ما في المقال من مشاكل، فالمقال في الحقيقة يتجاهل تماما حقيقة أن المجتمعات قبل الحداثة ربما بدون استثناء قد مارست قدرا كبيرا من التسامح مع الممارسات الجنسية المثلية، في حين أن هذه المجتمعات إسلامية وغربية قد اتخذت موقفا عدائيا من المثلية بعد انتقالها إلى الحداثة.

ويستخدم الكاتب تأخر المجتمعات الإسلامية في الدخول إلى الحداثة وارتباط ذلك في غالبيتها العظمى باستعمارها من قبل القوى الغربية، ليوحي بأن عداء المثلية كان نتيجة للاستعمار، وبصفة خاصة لفرض السلطات الاستعمارية -وخاصة البريطانية- قوانينها المعادية للمثلية في مستعمراتها.

واقع اﻷمر أن التفرقة بين “المثلية” وبين “الممارسات المثلية”، هي جوهرية لفهم تحول المجتمعات من التسامح مع اﻷخيرة إلى العداء مع اﻷولى. كما أن دراسة هذا التحول في إطار الحداثة ضرورية لفهم دور الدين في حالتي التسامح والعداء.

لابد أولا من إدراك أن المثلية والممارسات المثلية هما شيئان مختلفان تماما عن بعضهما البعض، وينتمى كل منهما إلى بنيتين اجتماعيتين مختلفتين تماما، فالمثلية هوية قائمة على ميل جنسي دائم ومحوري في تكوين ذات المثلي، يصبغ حياته في مجملها. أما الممارسات المثلية، فقد كانت في مجتمعات ما قبل الحداثة، مجرد أفعال يمكن ﻷي إنسان أن يقدم عليها دون أن يجعله ذلك مختلفا بشكل جوهري عن أي شخص آخر.. بعبارة أخرى، لم يكن ثمة هوية مثلية، ولم يكن ثمة مثليون، تماما كما أن شرب الخمر كخطيئة وفق السائد الديني واﻷخلاقي، لم يكن ليشكل هوية.

وليس اﻷمر وكأن المجتمعات قد بدأت تنظر إلى الشيء نفسه نظرة مختلفة، بقدر ما أنها مع دخولها إلى الحداثة، قد بدأت ترى اﻹنسان نفسه بطريقة مختلفة. فالبشر في المجتمعات الحديثة أصبحوا موارد للدول، مدخلات في عملية تدريب وتأهيل تهدف ﻹعدادهم للقيام بأدوار محددة في إطار ماكينة ضخمة، وهم بذلك أصبحوا موضوعا للفحص والدراسة والتقييم والتصنيف من حيث ملاءمتهم لأن يؤدوا أدوارهم المطلوبة بالقدر المناسب من الكفاءة، ولم يعد باﻹمكان النظر إلى أي ممارسة يفترض أنها قد تخل بملاءمة الشخص ﻷداء دوره المطلوب في المجتمع على إنها مجرد ممارسة يمكن توقعها من أي شخص في أي وقت، بل أصبح لازما ربطها بشيء ما في طبيعة هذا الشخص، شيء يمكن من خلاله توقعها من البعض دون اﻵخر، ومن ثم يمكن التمييز بين هؤلاء اﻷشخاص “الطبيعيين/المعياريين” وهؤلاء “الشواذ/غير المعياريين”.

عملية إنشاء الدولة الحديثة إذًا قد أوجدت الحاجة إلى حزمة من الممارسات التي تم من خلالها فحص ما اعتبر حيودا عما هو طبيعي أو معياري، ودراسته بوصفه مرتبطا بشيء عميق في ذات البعض دون غيرهم، وفي النهاية انتجت هذه الممارسات الخطابات المعرفية التي خلقت المثلي جنسيا والمثلية كهوية، وخلقت في المقابل الغيرية الجنسية بوصفها المعيار، والغيري جنسيا بوصفه المعياري والطبيعي.

دخول المجتمعات اﻹسلامية إلى الحداثة لم يكن في جميع الحالات نتيجة مباشرة لاستعمارها، في حالات هامة من بينها مصر، كان دخول المجتمع إلى الحداثة سابقا على استعمارها، وأتى نتيجة سعي حكام بلدانها إلى استيراد مؤسسات الدولة الحديثة وفي مقدمتها الجيوش الحديثة.

ومن المثير للاهتمام أن نطلع على ما كتبه خالد فهمي في كتابه “كل رجال الباشا” عن تعامل السلطات العسكرية لجيش محمد علي مع الممارسات المثلية بين الجنود، فهذه السلطات لم تلجأ إلى التمثيل بمرتكبي هذه “المخالفة” بإخصائهم كما كان اﻷمر في القانون العثماني القديم، وإنما “للتعامل مع هذه المخالفات وغيرها لجأت السلطات إلى نوع مختلف من السلطة، وإلى حزمة مختلفة من الأدوات حاولت بواسطتها أن تتحكم في جسد المجند وتسيطر عليه”، وبصفة أساسية نظرت السلطات إلى المخالف على أنه “ذات يتم دراستها وفهمها وفي النهاية شفاؤها”.

ربط السلوك الجنسي بالذات كهوية، والنظر إلى صاحب الهوية وليس السلوك وحده بوصفه خطرا على المجتمع لابد من عزله والتخلص منه، هو إذًا منتج لعملية التحديث التي انخرطت فيها المجتمعات المختلفة سواء كانت غربية أو غيرها.

وفي إطار عملية التحديث هذه أيضا أصبح للدين دور مختلف عما كان له في المجتمعات التقليدية السابقة على الحداثة، وهو دور أكثر تعقيدا في الدول التي خضعت للاستعمار عنه في غيرها، تحديدا ﻷن الاستعمار والتحديث معا أنتجا فهم المجتمعات اﻹسلامية لديانتها كهوية تميزها عن اﻵخر المستعمر من جهة، ثم من جهة أخرى أنتجا السعي إلى إيجاد مواضع التوافق بين اﻹسلام والحداثة لهدفين، الأول هو إثبات أن اﻹسلام كهوية ليس هو سبب ما أصبح ينظر إليه على أنه تخلف المجتمعات اﻹسلامية عن الغربية، والثاني هو إثبات إمكان استخدام اﻹسلام كأداة لدفع التحديث والتقدم، ومن ثم لا يكون التخلي عن الهوية (التي هي إسلامية) شرطا للحاق باﻵخر الغربي غير المسلم.

إن اﻹسلام الذي نتعامل معه في مجتمعاتنا اﻹسلامية الحالية هو إسلام حداثي، ومن ثم فتجريمه للممارسات المثلية أصبح يفهم من قبل معتنقيه كعداء للمثلية، وتترجم نصوص شريعته التي تعاقب على ممارسات مثلية على أنها تعاقب المثلي من حيث هو كذلك، أي كشخص يحمل هوية تخرجه عن الناموس اﻹلهي. وبالتالي فمن العبث محاولة البحث في النصوص للخروج بإجابة عن سؤال ما إذا كان “اﻹسلام” بألف ولام التعريف يحض على اضطهاد المثليين ويشرع قتلهم على الهوية. فليس ثمة إسلام وحيد بألف ولام التعريف، والنصوص تعني ما يفهمه منها من يقرأها في إطار ممارسات ومفاهيم عالمه الذي يعيش فيه. ومن العبث أيضا أن نخلط بين تسامح مجتمعات ما قبل الحداثة مع ما كان ممارسات جنسية مثلية، وبين إمكان أن تعود مجتمعات حداثية إلى هذا التسامح ولكن مع شيء مختلف تماما وهو الهوية المثلية. وبمعنى آخر اﻹحالة هنا إلى التاريخ لا معنى لها.

يقودنا هذا إلى محاولة اﻹجابة على سؤال أعم وأشمل يتعلق بالصلة بين اﻹسلام والعنف واﻹرهاب في العموم: “هل اﻹسلام هو المشكلة؟”

في اعتقادي أن اﻹسلام الحداثي الهوياتي، هو بالتأكيد جزء هام من المشكلة، وهو بذلك يعكس مشكلة متضمنة في الحداثة نفسها يمكن أن تفسر حقيقة أن المجتمعات الغربية ذاتها لم تتجاوز حقا -حتى اليوم- العنصرية أو رهاب المثلية أو الذكورية، برغم كل ما أنجزته من تقدم للعدالة اﻹجرائية في مواجهة هذه التحيزات.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل