المحتوى الرئيسى

الدرس البريطانى والعجز الديمقراطى

06/28 21:45

رحم الله أستاذنا الجليل حامد ربيع، أستاذ العلوم السلوكية، حين درّس لنا قبل أربعة عقود مادة الرأى العام، واصفاً إياه بأنه مزاجى متقلب، يدل على اتجاه التفكير فى لحظة زمنية بعينها، غالباً لا تصلح أن تكون معياراً للتقويم السليم على المدى البعيد، فالمواطن العادى ليس متخصصاً بالضرورة فى القضايا التى تُطرح عليه لبيان رأيه، وكثيراً ما لا يُدرك أبعاد الأمر ونتائجه على نحو رشيد، ولذا فهو يتأثر سريعاً بمن يغويه بموقف مقنعاً إياه أن فيه كل المصلحة التى يبغيها. وإن طُرح عليه السؤال ذاته بعد حديث آخر يحمل مضموناً مختلفاً فسوف يأخذ الموقف المضاد متناسياً ما عبَّر عنه فى اللحظة السابقة قبل يوم واحد أو ربما عدة ساعات قليلة. لم نكن كطلاب ندرك آنذاك كل هذه الشِّراك الخداعية فى إحدى آليات النظم الديمقراطية التى تسهم فى رسم السياسات واتخاذ القرارات، وكنا نقبل ما سبق باعتباره نصاً تعليمياً لا أكثر ولا أقل.

ومَن يتابع موقف الرأى العام البريطانى بعد صدمة قرار الخروج من الاتحاد الأوروبى، وانقلابه على نفسه، ودعوة كثيرين لإعادة الاستفتاء مرة أخرى والندم على موقف تمرد غير عقلانى غير عابئ بالنتائج الكارثية الكبرى التى يمكن أن تلحق بهم، يدرك أن هناك قضايا جوهرية تمس مصائر الأمم والأوطان يصعب فيها الاحتكام إلى الرأى العام بالصورة التى حدثت فى بريطانيا، خاصة أن الحملات سواء المؤيدة للبقاء فى الاتحاد الأوروبى أو الداعية للخروج منه استندت إلى جملة شعارات ومقولات حماسية وشعبوية دون الغوص فى النتائج المحتملة لهذا الموقف أو ذاك. وفى الأسبوعين الأخيرين ما قبل يوم الاستفتاء بدت الحملتان أقرب إلى مباراة رياضية المهم أن يتحقق فيها الفوز وليكن بعدها ما يكون، كان الأمر مليئاً بالحماس وفاقداً لأى تفكير منهجى، وحتى الذين حاولوا كتابة فى الصحف البريطانية الكبرى أن يقدموا الأسباب المقنعة للبقاء أو للخروج غلبت عليهم روح الحشد وليس منهج الإقناع ورصد التداعيات والرد على ما يقوله الطرف الآخر بعقلانية، لقد حضر التمرد وغابت الرزانة، وهو ما بدا لاحقاً حين بات على الذين حققوا الفوز بالخروج، أن يقولوا كيف استعدوا للاستحقاقات المنتظرة، فلم يكن لديهم أى تصور عملى يتعلق بكيفية التعامل مع النتائج التى تواترت فى المجالات المختلفة، بل دعوا رئيس الوزراء، وهو الرافض لقرار الخروج، أن يدير مفاوضات الخروج، أى يعالج ما لديهم من نواقص!

وعلينا ملاحظة عدة أمور؛ أن الحدث الجلل وقع فى بلد يُعرف بأنه أعرق ديمقراطية فى عالمنا المعاصر، فما بالك بمن يخطو خطواته الأولى فى صنع ديمقراطية محلية وأمامه الكثير للتعلم بالمعنى التاريخى ودفع الثمن. والتعليم فى بريطانيا يقوم على تطوير الملكات الفكرية والعقلانية فى الأداء الفردى والجمعى على السواء، فما بالك بمجتمع التعليم فيه يتسم بالتراجع والتدهور وتغلب عليه صناعة العقول المغلقة والمهارات المفقودة، والمجتمع البريطانى يُعرف بأنه محافظ، أى لا يتسرع فى خطواته بل يدرسها من كل الجوانب ثم يتخذ القرار الأنسب، ويعتد بنفسه ولكنه أيضاً يبحث عن مصالحه بتأنٍّ شديد، فما بالك بمجتمعات فاقدة للبوصلة وتتنوع فيها الاتجاهات إلى حد الصدام والعنف الذى يهلك الحاضر والمستقبل معاً، ومع ذلك جاءت نتيجة الاستفتاء البريطانى لتثبت أن السمات العامة ذات الطابع العقلانى الرشيد ليست بالضرورة عاصماً من الوقوع فى أخطاء كارثية وذات أثمان باهظة فى التو واللحظة كما فى المدى البعيد.

الحالة البريطانية على النحو السابق تجسِّد ما وصفه بعض أساتذة كبار فى نظم الحكم الغربية بعجز الديمقراطية، وهو أمر يناظر ما يوصف بعجز الموازنة العامة لبلد ما، والعجز هنا يعنى الفارق بين ما هو تحت أيدينا بالفعل من موارد، وما هو مطلوب تحقيقه من مشروعات وطموحات واحتياجات كلها ضرورية، وبالتالى يظل علينا أن نخفض من تلك المشروعات والطموحات بما يتناسب مع الموارد الفعلية المتاحة، هنا فكرة التضحية بما هو أقل أهمية لصالح ما هو أكثر أهمية تساعد على تخفيض العجز، ولكن يظل السؤال ما هو الأهم وما هو الأقل أهمية ويمكن تأجيله لعام أو أكثر؟ والإجابة دائماً تكون لدى المتخصصين وأصحاب القرار سواء الحكوميون أو نواب البرلمان الذين يفترض أنهم يرون الصورة كاملة أكثر من غيرهم. إذا نقلنا الأمر إلى مجال الديمقراطية يتضح أن الأمور ليست بنفس السلاسة التى يمكن بها التعامل مع عجز الموازنات العامة على النحو المبسط الذى تم سرده، فالعجز هنا يتعلق بقدرات المجتمع ككل وفارق الخبرات التاريخية مع الغير، وبالتالى لا توجد بالضرورة منهجية واحدة لسد هذا العجز الديمقراطى إلا من خلال خوض التجارب واحدة تلو أخرى وصولاً إلى حالة استقرار مناسبة فى الآليات وفى منظومة القيم الجماعية التى لا خلاف عليها بين أبناء المجتمع، ومع ذلك فإن ما حدث فى الحالة البريطانية يثبت أن المجتمعات الديمقراطية يمكن أن تتعرض لهزات كبرى نتيجة الاعتماد التلقائى على افتراض عقلانية المجتمع، وبالتالى افتراض عقلانية النتائج، والتى يثبت أنها ليست بالضرورة موجودة فى لحظات التصدى لقضايا معقدة وملتبسة ذات نتائج متداخلة ومتشعبة، وبدلاً من تفكيكها وبحثها بروية من قِبل متخصصين يضعون مصلحة أمتهم نصب أعينهم ولا يقبلون التضحية بها أياً كانت المغريات، يتم التعامل معها بأساليب حماسية غير عقلانية، فتأتى بآثار كارثية بكل معنى الكلمة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل