أيامٌ في الأسر
في 14 آب 2014، دخلت قوات الاحتلال إلى منزل عائلة الهيموني في قرية بيت كاحل قضاء الخليل، واعتقلت الشاب عائد الهيموني (21 عاماً يومها).
كان عائد طالباً في جامعة «القدس» في أبو ديس، وكان يدرس الحقوق. لكنه أمضى 22 شهراً في الاعتقال الإداري، ما اضطره إلى تعليق دراسته. في الأول من حزيران الحالي، أطلقت سلطات الاحتلال سراح الهيموني، فاستقبلته العائلة والأصدقاء استقبال الأبطال.
يروي الأسير المحرر لـ «السفير» عن تجربة الاعتقال: «كانت اللحظة الأصعب لما سمعتُ خبر اعتقال والدي، كونه كبيراً في السنّ». وجود الأب في السجن سمح للابن برؤيته، إلّا أن عائد لم يكن سعيداً: «أبي هو المسؤول عن الأسرة، وقد قلقت على مصير العائلة، من الصعب أن أرى والدي معتقلاً».
لم تحكم محكمة الاحتلال على الهيموني، بل ظلّ معتقلاً إدارياً قرابة العامين: «كنتُ أسمع أنني متهم بأنّي جزء من تنظيم سياسي سرّي، وكانت مدّة الحكم لهذه التهمة 10 أشهر، إلّا أن القاضي لم يكن ثابتاً في رأيه، مرةً يجد المدّة كافية ومرة لا».
في السجن، تعلّم عائد اللغة العبرية، ودرس التاريخ في جامعة «الأقصى»، لكنّه لم يستطع إكمال دراسته. بحسب عائد، «السجن هو دولة كاملة»، فكان يقضي معظم وقته فيها بالمطالعة وبلعب الشطرنج.
في فيلم وثائقي أعدّه «تلفزيون فلسطين» قبل ثلاثة أعوام، تفتح زينة مجد بربر (15 عاماً - من سكان راس العمود في القدس) ألبوم صورها وتشهق بفرح لحظة سقوط عينها على الصورة الوحيدة التي تجمعها بوالدها المحكوم بالسجن 20 عاماً. كانت يومها طفلة رضيعة.
بعد 15 عاماً على تلك الصورة، سمحت إدارة السجون لزينة بلقاء والدها والتقاط صورة جديدة معه.
تقول زينة التي تعيش مع والدتها فاطمة (34 عاماً)، وشقيقها منتصر (17 عاماً): «حين أخبرتني أمي قبل موعد الزيارة بيوم، عشت لحظات فرح وشغف اللقاء بوالدي، وبحثت عن أجمل فستان لديّ كي أرتديه في الزيارة».
في 17 نيسان /أبريل 2016، تمكّنت زينة من ملامسة يدَي والدها، الذي أخذ يتحسّس وجه وشعر وتفاصيل ابنته التي كبرت 15 عاماً دفعة واحدة.
حمل مجد زينة بين يديه، في عناق لمّ شمل امتد لخمس دقائق، لا تكفي لسرد أبسط حادثة في حياة أي منهما. ابتسماتهما واسعة لخــــمس دقائق لا تكفي للــــحديث عن المدرسة والصداقات والعائلة، ولا تكفي حـــتى للاطمئنان. فكيف لها أن تسترجع عمراً.
تقول زينة: «أصبت بالارتباك والصدمة، لأن من سأحتضنه هو والدي، الذي بقيت طيلة سنــــوات عمري محرومة من مصافحته وملامسته. فرغم كل القرب بيننا والمحبة الهائلة، إلا أن شيئاً ما يظــــل ناقصاً، بعدٌ جسديّ، سببه الاحتلال، فلم تبق لنا وسيــــلة اتصال سوى زيارة كل أسبوعين، لمدة 45 دقيقة، نحكي فيها عبر سماعة الهاتف».
في آخر زيارة سبقت الدخول إليه، طلب مني ألا أضع أياً من مستحضرات التجميل على وجهي، رغم أنني لا أضع إلا القليل في المناسبات. وقال: «أنتِ يا زينة من دون مكياج أحلى»، وشدد على ذلك. عندما فتح الباب، لم أستوعب أنني مع أبي، وبقيت مصدومة لأنها المرة الأولى التي ليس فيها بيننا حاجز، لا سماعة هاتف، ولا لوح زجاج يردنا عن بعضنا بعضا ويمنعنا من العناق».
تكمل: «أحب في والدي ثقافته وقراءاته الكثيفة، وعشقه للمسلسلات التاريخية، علمني أن أقرأ وأيضاً أن أكتب. وصلني من والدي ما يقارب الأربعين رسالة، تلقيت الأولى في سن الخامسة وكان اسمي مكتوباً عليها. وقد طلب مني في كل زيارة أن أكتب أغاني على ورق لأغنيها له في الزيارة التالية، وكان يحب أن يسمع مني أغاني الأطفال، وأغاني فيروز، وكان يحب أن يسمع مني أغنية زينة الحلوة، حين كبرت أكثر، بدأ يكتب لي قصصاً وحكايات أستفيد منها، ويطلب مني أن أكتب له قصصاً، ونناقشها في رسائلنا المتبادلة».
Comments