المحتوى الرئيسى

إبراهيم كامل يكتب: إمبراطورية زفتى.. حكاية أول مدينة مصرية مستقلة | ساسة بوست

06/24 12:34

منذ 8 دقائق، 24 يونيو,2016

كان اعتقال «سعد زغلول»، ونفيه إلى خارج البلاد، الشرارة التي أشعلت فتيل ثورة 1919 في مصر ، وما أن عرف الأهالي هذا الخبر حتى انطلقوا ثائرين في كل مكان بالبلاد، وقطعوا خطوط السكك الحديدية، وأصبحت وسيلة الاتصال الوحيدة «المراكب» عبر الترع والنيل. وكانت زفتى واحدة من تلك المناطق التي اشتعلت فيها الثورة، وإن كانت تنفرد بشيء مميز، وهو الاستقلال، فقد أعلن الأهالي «زفتى جمهورية مستقلة»؛ ضد الاحتلال البريطاني، واعتراضًا على نفي  «سعد زغلول» إلى الخارج.

وبطل جمهورية زفتى هو «يوسف الجندي»، الثائر الذي لا يهدأ، له سجل حافل بالأمجاد، والمواقف الوطنية، منذ أن كان طالبًا، تعرض للفصل من كلية الحقوق، عام 1914؛ لأنه حرض الطلبة على الإضراب؛ احتجاجًا على إعلان الحماية الإنجليزية عقب ابتداء الحرب العالمية الأولى.

ولمع نجم يوسف الجندي بالذات في جلسات ثائرة في محل «جروبي» ومجادلات حديقة «بيت الأمة» -بيت سعد زغلول – وفى خطب عنيفة على منبر الأزهر الذي كان قاعدة الثورة، وعرفه سعد زغلول، والكبار من أعضاء الوفد، عرفوه ثائرًا لا يهدأ، ليس في وجهه الأسمر، إلا شيء واحد، «العناد»، ولا يخرج من كيانه النحيل، إلا أفكار ثورية عنيفة، قد تكون متطرفة بعض الشيء، ولكن ليس كل التطرف عيبًا، وخاصة إذا كان ضد احتلال أجنبي بغيض للوطن وأرضه.

وانفجرت الثورة، ويوسف الجندي في قريته زفتى، واتجهت إليه أنظار القرويين؛ ينتظرون منه أن يصنع شيئًا، ولكن ها هنا في جوف الريف لا يوجد إنجليز يقاتلهم الفلاحون، والسكك الحديدية قد قطعها الفلاحون من القرى المجاورة، ومع ذلك فلابد من عمل شيء خطير ينطوي على معنى الثورة.

بدأ الثائر الصغير يعمل، ويعلن عن تشكيل لجنة للثورة من بعض الأعيان، والأفندية، والمتعلمين، والتجار الصغار، واتخذت لجنة الثورة مقرًا لها في قاعة واسعة بالدور الثاني من مقهى يملكه يوناني عجوز اسمه «مستو كلي».

اجتمعت لجنة الثورة، وقررت أن تبدأ بوضع  يدها على السلطة الفعلية بالاستيلاء على مركز البوليس، وزحف يوسف الجندي إلى المركز على رأس تظاهرة ضخمة ضمت كل الرجال، وجيوش الصبية الصغار، القليلون منهم حملوا بنادقهم القديمة وتسلح الآخرون بالعصي وفروع الأشجار والفؤوس.

وشاءت الظروف أن تجنب الدولة الجديدة إراقة الدماء؛ إذ كان مأمور المركز رجلًا وطنيًا اسمه «إسماعيل حمد»، ومعه معاون بوليس اسمه «أحمد جمعة» وخرج المأمور إلى التظاهرة، وسلم يوسف المركز، والسلاح، وقيادة الجنود، والخفراء، ثم عرض خدماته عليه كمستشار للدولة الجديدة، يشير عليها بوصفه خبيرًا بأحوال الإدارة فيها.

اتجهت التظاهرة بعد ذلك إلى محطة السكة الحديدية، والتلغراف، فسيطرت على التلغرافات فورًا، واستولت على عربات السكة الحديد، التي كانت واقفة مشحونة بالقمح؛ تنتظر إرسالها إلى السلطات الإنجليزية.

جمع «يوسف» الأعيان، ودعاهم إلى التبرع ليصبح للدولة الجديدة خزانة، وكانت هناك حركة تبرعات أخرى جارية لتمويل الوفد، وكان يجيء إلى زفتى كل أسبوع مهندس من طنطا يتسلم التبرعات المتجمعة اسمه «عثمان محرم»، وتبرع الأعيان أيضًا للدولة الجديدة.

وكان قصد يوسف الجندي من ذلك أن يوجد عملًا للأيدي الكثيرة التي تعطلت لظروف الثورة؛ فلا تتحول إلى السرقة أو النهب، فاستخدم الأموال المتجمعة ليوجههم إلى بعض الأعمال المفيدة، وردموا البرك والمستنقعات التي تحيط بالقرية، والتي يئس الأهالي من مطالبة الحكومة بردمها منذ عشرات السنين، وردموا الشوارع التي كانت تنشع بالماء؛ إذا كان الفيضان، وأصلحوا الجسور القريبة، بل أقامت الدولة الجديدة كشكًا خشبيًا على ضفة النيل؛ لتعزف فيه الموسيقى.

ثم جندت لجنة الثورة كل التلاميذ المتعلمين الموجودين في القرية وقسمتهم إلى فرق: فرقة تقوم بدوريات مستمرة لحفظ الأمن، وفرقة تراقب الحدود لتمنع تسرب مواد التموين أو دخول الجواسيس، وفرقة تشرف على عمليات الري وتزويد الأرض بالماء، وظهر أن في قلب «زفتى» توجد مطبعة صغيرة يمتلكها «محمد أفندي عجينة»، أخذت تطبع قرارات لجنة الثورة وتعليماتها وأخبارها وتوزعها على الناس.

وطارت الأنباء إلى القاهرة وعبرت البحار إلى لندن ونشرت جريدة «التايمز» في صدرها أن قرية زفتى قد أعلنت استقلالها، ورفعت على مبنى المركز علمًا جديدًا

وأعلن في القاهرة أن فرقة كبيرة من الجنود الأستراليين- وكانت تابعة للإنجليز – سوف تذهب إلى «زفتى» لتخضع القرية الثائرة، وأخذ الفلاحون يحفرون حول دولتهم الخنادق وينقلون إليها البنادق القليلة، والذخيرة العتيقة التي لم تستخدم منذ زمن بعيد؛ يستعدون للقاء الإنجليز.

وأشرق الصبح على مدافع الأستراليين منصوبة، وفوهاتها مسددة إلى بيوت القرية، وقد احتلوا فيها محلج «رينهارت» ومدرسة «كشك» الواقعتين عند أطراف القرية.

وفى تلك الأثناء أفرجت سلطات الاحتلال البريطاني عن «سعد زغلول»، وكان ذلك إيذانًا بهدوء ثورة المصريين إلى حين.

خرج «إسماعيل حمد» إلى خطوط الأستراليين، وقال لهم إن الثورة في مصر كلها لن تهدأ، ومظاهر الابتهاج قد حلت في القاهرة محل إطلاق النار، وأية طلقة الآن سوف تؤدى إلى اشتباك، والموقف في زفتى هادئ تمامًا، فإذا ظل الجنود معسكرين خارج زفتى وتركوا حركة التبرعات للوفد ماضية، فهذا كفيل بألا يقع من الفلاحين شيء.

أما لجنة الثورة فكانت قد عرفت أن الفرقة الأسترالية آتية، فأعدت منشورات بالإنجليزية تقول لهم «إنكم مثلنا، ونحن نثور على الإنجليز لا عليكم، والإنجليز الذين يستخدمونكم في استعبادنا يجب أن يكونوا خصومكم أيضًا»، وأرسلت المنشورات إلى الأستراليين، وقررت الفرقة ألا تدخل القرية، وأن تبقى معسكرة بجوارها.

بعد أن سكنت الثورة في القاهرة، وأصبحت القرية تحت رحمة المدافع الإنجليزية، استيقظ الخونة، الذين خافوا مغبة دخول الإنجليز، فأرادوا أن يتنصلوا مما حدث، وأخذ هؤلاء وهؤلاء يرسلون خطابات إلى السلطات في القاهرة؛ يبلغون عن أسماء الزعماء، وكل من حمل معولًا أو ألقى خطابًا أو ألهب السخط في صدر فلاح، وكان «إسماعيل حمد» بخبرته الإدارية يعرف ما سيحدث، فكان ينفرد بالخطابات البريدية كل ليلة في حجرة مغلقة؛ يفضها واحدًا واحدًا، ويتخلص من كل رسالة تنطوي على وشاية أو كيد.

وعلم الإنجليز أن الفرقة الاسترالية عند حدود «زفتى»، ولم تدخلها، وكانت المحاكمات قد بدأت تدور في شتى أنحاء القطر المصري؛ لعقاب الثائرين، فأرسلوا إليها تعليمات جديدة، وطلب الأستراليون تسليم 20 رجلًا من أهالي زفتى؛ لجلدهم عقابًا على العصيان، وانعقدت اللجنة لتواجه المأزق، إما أن تسلم بعد فوز الثورة عشرين رجلًا من أبنائها، أو أن ترفض وتقاوم، فتهلك القرية كلها تحت مدافع الإنجليز – وبعد بحث طويل أخذت اللجنة باقتراح من إسماعيل حمد، وسلمت القرية عشرين رجلًا اختارتهم من الذين كانوا يرسلون خطابات الوشاية والخيانة إلى الإنجليز؟! وجلد الإنجليز عملاءهم!

وتلقت الفرقة الأسترالية من القاهرة أوامر أخرى تطلب هذه المرة تسليم يوسف الجندي، وقال أعضاء اللجنة ليوسف «اذهب إلى مكان لا تخبرنا به».

وتحت جنح الليل تسلل الثائر إلى قرية «دماص» المجاورة، وقبض الإنجليز على بعض الأعضاء، واحتجزوا «عوض الجندي» رهينة؛ حتى يخبرهم أين يوسف؟ فلم يطلقوا سراحه، إلا بعد أن تأكدوا حقًا أنه لا يعرف مكان أخيه، وانسحب الأستراليون عائدين.

أما يوسف الجندي فقد ظهر بعد 15 يومًا من فراره في القاهرة، يخطب في «جروبى» الذي كان من منتديات الثورة، ويحرض على استمرار النضال.

وأما قهوة «مستو كلي» فقد اندثرت مع الزمن، وقامت مكانها محال تجارية.

وأما كشك الموسيقى، فإنه لا يزال هناك قائمًا في مكانه القديم، وقد حدث مرة واحدة أن فكرت الحكومة في هدمه؛ لغرض من أغراض التنظيم، فاحتج أهالي زفتى، وطلبوا الاحتفاظ بهذا الأثر الخالد من آثار ثورتهم.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل