المحتوى الرئيسى

ضرورة التنوير وصناعة خطاب دينى جديد (3 - 4) | المصري اليوم

06/24 02:29

فى مقال الأسبوع الماضى شرحت ثلاثة شروط للإصلاح الدينى، وهى: الإيمان مسألة فردية، والعقل يكمل مسيرة الوحى، والوعى الأخلاقى، وهنا نكمل:

4 ـ التمييز بين الدين والسلطة السياسية: فالربط بينهما حوّل الدين إلى أيديولوجيا أو إطار يبشر بالسلطة باعتبارها غاية، أو يبرر لها مسلكها بعد تحصيلها وحيازتها، أو يجند لها الأنصار والأتباع ليقوى شوكتها، ويسعى إلى تثبيت أركانها بتحريم الخروج عليها، أو يرد عنها معارضيها بتكفيرهم وتجهيلهم (من الجاهلية) ونعتهم بالبغى.

وخبرة التاريخ تبين لنا أن السعى إلى السلطة السياسية كان الخنجر المسموم الذى طعن كل الأديان، من دون استثناء، ولذا فإن مصلحة الدين تقتضى التمييز بينه وبينها قبل مصلحة الساسة، وكل من يطرح الدين باعتباره مشروعا للسلطة، أو يتذرع بأن الوصول إلى السلطة ضرورى لحراسة الدين ونشره، هو فى حقيقة الأمر يتلاعب بالدين، ويوظفه بلا ورع ولا تحسب فى سبيل منفعة دنيوية، طالما ارتبطت بالمخاتلة والزيف والخداع والمكر والمراوغة.

ولعل «الآداب السلطانية» تقدم برهانا عمليا ناصعا على الفساد والإفساد الذى أحدثه خلط الدين بالسلطة السياسية فى تاريخ المسلمين. والآداب السلطانية هى «تلك الكتابات السياسية التى تزامن ظهورها الجنينى مع ما يدعوه الجميع بانقلاب الخلافة إلى ملك، وكانت فى جزء كبير منها نقلا واقتباسا من التراث السياسى الفارسى، واستعانة به فى تدبير أمور الدولة الإسلامية الوليدة، وهى كتابات تقوم فى أساسها على مبدأ نصيحة أولى الأمر فى تسيير شؤون سلطتهم، إذ تتضمن كل موادها مجموعة هائلة من النصائح الأخلاقية والقواعد السلوكية الواجب على الحاكم اتباعها، بدءا مما يجب أن يكون عليه فى شخصه إلى طرق التعامل مع رعيته مرورا بكيفية اختيار خدامه واختبارهم، وسلوكه مع أعدائه. وفى عرضها لنصائحها الهادفة إلى تقوية السلطة ودوام الملك، تتبع هذه الآداب منهجية، أو لنقل تصورا عمليا براجماتيا يجعل منها فى النهاية فكرا سياسيا أداتيا لا يطمح إلى التنظير بقدر ما يعتمد على التجربة، ولا يتوق إلى الشمولية بقدر ما يلزم حدود الواقع السلطانى».

فى حقيقة الأمر فإن كثيرا من الفقهاء ومنتجى الخطاب الدينى انخرطوا فى صناعة آراء وأفكار تحت مسار «الآداب السلطانية» استهدفت فى أكثرها إطالة أمد بقاء الحاكم فى عرشه أكثر مما رمت إلى إقامة العدل فى الرعية. والأشد وطأة فى هذا المضمار أن تبرير هذا الهدف جاء من باب دينى، انفتح على استغلال علوم الإسلام ونصوصه فى تحقيق مصلحة السلطة السياسية، وهذه العملية أضرت ضررا بالغا بالمسلمين، ولايزالون يدفعون أثمانها حتى أيامنا تلك، وربما فى المستقبل، ولذا لا بد من إنهاء هذه العملية فى ركاب التنوير، فوحده القادر على وضع حد لها، بعد طول انتظار من قبل الحكماء والعارفين والساعين إلى تحسين شروط الحياة.

وإذا كانت الجماعات الدينية السياسية تحتج فى تبرير مشروعها السياسى بأن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام قد مارس السياسة، وتصرف كرئيس دولة، فإن مراجعة التجربة النبوية بعلم ووعى تفند هذا التصور، وهنا يقول عبدالإله بلقزيز: «نعم وقع تلازم بين الدينى والسياسى فى التجربة النبوية، ولكن ليس بالمعنى الذى فهمه حسن البنا ودافع عنه. لم تكن السياسة منفصلة عن الدين فى المشروع النبوى، لكنها، فى الوقت نفسه، لم تكن محكومة به أو مجرد فرع من فروعه».

ويذهب على عبدالرازق إلى ما هو أبعد من هذا حين يتساءل فى كتابه الذى لايزال يثير جدلا عميقا: «كم من ملك ليس نبيا ولا رسولا؟ وكم لله جل شأنه من رسل لم يكونوا ملوكا بل إن أكثر من عرفنا من الرسل إنما كانوا رسلا فحسب؟... محمد ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وإنه لم يكن للنبى صلى الله عليه وسلم ملك ولا حكومة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بتأسيس مملكة، بالمعنى الذى يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها، ما كان إلا رسولا كإخوانه الخالين من الرسل. وما كان ملكا ولا مؤسس دولة، ولا داعيا إلى ملك... القرآن صريح فى أن محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن له من الحق على أمته غير حق الرسالة». ويقود ربط الإسلام بالسلطة السياسية إلى إنتاج «الدولة الدينية»، وهو مصطلح يثير مخاوف فى الفكر السياسى المعاصر، نظرا لأنه يعطى الدولة احتكار تفسير النص الدينى، مما يجعلها مالكة للسلطة الإلهية الكامنة فى هذا النص، وهى سلطة مطلقة بطبيعتها، ومحصنة بعقوبات تصل إلى حد الموت.. وبذا تكون الدولة قد جمعت فى قبضتها بين السلطتين: السلطة الطبيعية للدولة فى ذاتها، وسلطة التفويض الضمنى السماوية.

وحين نتعرض لطبيعة دور الرسول صلى الله عليه وسلم علينا أن نفرق بين «القيادة» و«الرئاسة»، فالأولى ذات طبيعة اجتماعية، وهى تتأسس على سمات وصفات لدى شخص تلقى قبولا عند الجماعة التى ينتمى إليها، فيخلعون عليه مهابة واحتراما وحبا، من دون أى تقيد رسمى حياله، ولا سلطة رسمية له عليهم. أما الثانية فذات منحى رسمى، يرتبط وجودها بوجود منصب، ولا يحظى من يشغله بالضرورة بحبا واحترام ومهابة. وليس له من طاعة على الناس إلا بمقتضى ما يوفره له المنصب من صلاحيات. وأعتقد أن وضع الرسول الكريم كان وضع «القائد» فى المسلمين، وليس وضع الرئيس، وأن تصرفاته السياسية كانت بنت القيادة وليست نابعة من الرئاسة.

من أجل كل هذا فلا تنوير حقيقيا من دون تحقيق هذا التمييز، الذى لا يعنى فصل الدين عن السياسة، فهذا طرح نظرى من الصعب تطبيقه، إذ إن السياسة والدين يهبطان ويصعدان معا ويلتقيان عند كل الثقافات والمجتمعات والحقب التاريخية فى مفاصل عديدة ومتفاوتة القوة، إنما يعنى التمييز التام بين الدين والسلطة السياسية، فلا يتحول الدين إلى أيديولوجيا (عقيدة سياسية) ولا يزعم أى حاكم أن سلطته مستمدة من الله، ولا يستغل الدين فى الدعاية السياسية، أو يكون مجالا للصراع بين المتبارين فى المجال السياسى، فينتقلون فى ممارسة السياسة من مساحة «الصواب» و«الخطأ» إلى مساحة «الإيمان» و«الكفر».

5 ـ تحديث المجتمع، فقد ظن كثيرون أن ضآلة جهود العقلانيين واضطهاد التنويريين هما ما منعا وجود تنوير وإصلاح دينى حقيقى لدى العرب المحدثين والمعاصرين، لكن هذا يمثل جانبا من المعضلة وليس كلها، وهو جانب أخف وزنا وأقل وطأة إن قيس بجانب آخر يتمثل فى ضرورة تحقيق التحديث بشتى أبعاده.

هنا يقول محمود أمين العالم بعد مراجعة ما كتبه عدد من الفلاسفة والمفكرين العرب عن أسباب عدم استمرار تنوير ابن رشد فى حياتنا بينما استفاد منه الأوروبيون: «تخلف الشروط الموضوعية والاقتصادية والاجتماعية التى تتيح تجسيد التنوير فى مجتمعاتنا وازدهار العقلانية، وغياب التنوير، هو حصاد موضوعى لهشاشة التحديث.. فلا تنوير بغير تحديث.. ولهذا فليس ثمة مفارقة بين تنوير ابن رشد فى أوروبا وتعتيمه فى عالمنا العربى، وإنما هو اختلاف بين مجتمع كان ينمو ومجتمع آخر يتخلف، ولا يزال متخلفا، ولذا فلا سبيل لاستعادة ابن رشد واستلهامه وتمثله، بل تجاوزه، بغير مشروع تنموى تصنيعى زراعى إنتاجى هيكلى شامل، يغير ويطور البنيات الأساسية لمجتمعاتنا العربية».

لكن هناك من يدعو لعدم انتظار نضوح الشروط الاجتماعية فى سبيل تحقيق التنوير وإنتاج الديمقراطية، فها هو محمد جابر الأنصارى يقول: «إذا كان المناخ الاجتماعى العام هو الحائل دون العطاء الفكرى، فمتى كان التاريخ رحيما بأهل الفكر والثقافة؟ ألم تحرق أوروبا علماءها الأوائل الذين قالوا بكروية الأرض ونحو ذلك؟ ولكن الفكر الأوروبى، رغم هذا، مضى فى طريقه بالعطاء والتجديد، ولم ينتظر مجىء الديمقراطية، بل هو الذى أوجدها وخلقها فى نهاية المطاف، أوجدها بتقديم الأفكار الجديدة، والبرامج العملية، والصيغ المناسبة، وهذه حقيقة جديرة بالتأمل. إن الفكر الأوروبى هو الأب التاريخى للديمقراطية الأوروبية، وليس العكس، الديمقراطية وليدة الفكر الريادى المبدع، وليست سابقة له، فلماذا يصر المفكرون العرب على وضع العربة أمام الحصان، ويصرون بسذاجة قائلين: أعطونا ديمقراطية نعطكم فكرا، وإلا فلا، وهم يدركون حقيقة مجتمعاتهم».

فى الحقيقة ليس هناك تناقض بين الاتجاهين، فمن يربط بين التنوير بشتى أبعاده والتحديث يقف على جانب أصيل من الحقيقة، ومن يدعو إلى عدم انتظار المفكرين للإصلاح السياسى كى يقوموا بالإصلاح الفكرى، يقف أيضا على جانب أصيل من الحقيقة، لا يقل أهمية عن الأول. فالمفكرون يجب أن يناضلوا من أجل التنوير أيا كانت ظروف مجتمعاتهم، وإذا كانت هذه الظروف غير مهيأة فعليهم ألا يجلسوا صامتين متحسرين عاجزين حيالها، بل يقدموا الأفكار والتصورات التى تعمل على تهيئتها لتستوعب ما يطرحونه، يقدمونها للناس، فإن فهموها وآمنوا بها سيضغطون هم من أجل التغيير، أو يتصرفون فرادى فى اتجاهه فيحدث ولو تدريجيا، لأن السلطة ساعتها لن يكون أمامها من سبيل سوى الاستجابة لما يطلبه الناس وإلا فقدت شرعيتها، وتحولت إلى سلطة تغلب، لا محالة ساقطة، وإن طال أمد توجدها فى الحكم.

وأصاب أمير الشعراء أحمد شوقى حين قال:

«وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّى... وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل