المحتوى الرئيسى

أحمد عبد الله سالم يكتب: فلسفة كمال في قصر الشوق | ساسة بوست

06/21 18:10

منذ 16 دقيقة، 21 يونيو,2016

«إن حياة تكرَّس للفكر لهي أجلُّ حياة»

لعلك تتساءل من كمال وما هي فلسفته ولكن قبل أن تكمل قراءة المقال، إن كنت من الذين لا يحبون نجيب محفوظ فقط بسبب أولاد حارتنا التي لم تقرأها وسمعت عنها، أود أن أقول لك هنيئًا لك لقد وجدت المكان المناسب لتزداد غضبًا على أستاذي وأحب أن أعزف لك لحنًا أدبيًا يقول: «لو اطلع الأحمق على الواقع ما تجشم كل هذا التعب الضائع» نجيب محفوظ.

كمال السيد أحمد عبد الجواد، فيلسوف ثلاثية نجيب محفوظ التي احتوت معظم شخصياتها على فلاسفة من نوع خاص ولكن شخصية كمال عكست ولو قليلًا جزءًا بسيطًا من تطور الحياة الفكرية لدى نجيب محفوظ، الذي لم يكتب لنا سيرته الذاتية تاركًا وراءه مساحة ضبابية لم تخلُ من المحبة والسلام والضحك والمزاح وحب الحياة والأصدقاء، وألغاز أدبية إيقاعية مسحورة تحتاج إلى ساحر متفرد ليفكها ويعزفها ويستمتع بالرقص عليها.

واحذر أن تسخر من أحلام الشباب فما السخرية منها إلا عارض من أعراض مرض الشيخوخة يدعوه المرضى بالحكمة.

كان يحلو له أن يطلق على هذا العالم الغامض اسم «الفكر»، وعلى نفسه اسم «المفكر»، فيؤمن بأن حياة الفكر أسمى غاية للإنسان تتعالى بطبعها النوراني على المادة والجاه والألقاب وسائر ألوان العظمة الزائفة.

اتخذت ثقافة الفكر منحنى جديًّا عندما قرر كمال الالتحاق بمدرسة المعلمين العليا التي كانت مجانية حينها ولا تحقق رغبة والده الذي قابله بالسخرية والمعارضة وأراده أن يلتحق بمدرسة الحقوق ليكون من الكبراء وليضمن مستقبله، ولكن كمال قال عن المعلمين «أشواق تهزها مطالعات شتى لا تكاد تجمعها صفة واحدة: مقالات أدبية، واجتماعية، ودين، وملحمة عنتر، وألف ليلة، والحماسة، والمنفلوطي، ومبادئ الفلسفة» وليبحث عن أصل الحياة ومآلها، ولحبه الشديد للعلم والقيم السامية».

كان الألم ممزوجًا بنكهة الفكر كافيًا ليقلب حياة كمال رأسًا على عقب، الألم المُتمثل في فقدانه لمعبودته الباريسية التي عهدت أن تدمر كل شيء تربى هو عليه أمامه لكنه كان مسحورًا بحبها فتنازل في البداية عن معتقداته شيئًا فشيئًا حتى دمرتها كلها فجعلتها سرابًا، عشقها فهزئت ومن ثم لعبت بقلبه على إيقاع السخرية ثم قررت الرحيل مخلفة وراءها جثة هامدة، شبحًا حزينًا متألمًا فاقدًا هويته ودينه، عابثًا متمردًا على عاداته وتقاليده، باحثًا متخذًا من الفلسفة والعلم ملاذه وطريقه.

تجلدي يا نفسي وأنا أعدك بأن نعود إلى هذا كله فيما بعد، وبأن نتألم معًا حتى نهلك، وبأن نفكر في كل شيء حتى نجن.

يا لشدة الألم، كتب عليه اليوم أن يتجرع كأس الألم حتى الثمالة، إذا توالت الضربات القاتلة فمن الخير أن ترحب بالموت…

«كفرت بالخلود ولكن هل نسيان الحب ممكن؟ لم أعد كما كنت، إني أتسلل من جحيم العذاب فتشغلني الحياة حينًا حتى أرجع إليه، وكان الموت قبلتي واليوم ثمة حياة ولو بلا أمل، العجب أنك تثور على فكرة النسيان كلما خطرت، كأنما تعاني تبكيت الضمير، أو لعلك تخاف أن ينكشف أجلّ ما قدست عن وهم، أو أنك تأبى على يد العدم أن تعبث بالحياة الرائعة التي بدونها تغدو ومن لم يولد سواء».

«علام تعول في طلب النسيان؟ على دراسة الحب وتعليله كما سلف، والتهوين عن الآلام الفردية بالتأملات الكونية التي يبدو عالم الإنسان في مداراتها هباءة تافهة، والترويح عن النفس بالشراب والجنس، والتماس العزاء عند فلاسفة العزاء كإسبينورا الذي يرى الزمن شيئًا غير حقيقي وبالتالي فالانفعالات المرتبطة في حادث بالماضي أو المستقبل مضادة للعقل، ونحن خليقون بالتغلب عليها إذا كونّا عنها فكرة واضحة متميزة».

ولكن جرعات الألم والفكر سرعان ما تطورت إلى أن نشر كمال مقالًا يشرح فيه نظرية التطور وكتب أن الإنسان ينتمي لسلالة حيوانية، ولكن هذا المقال سرعان ما جلب له المشاكل مع أبيه الرجل مزدوج الشخصية الذي ثار عندما علم بأن ابنه كتب شيئًا كهذا، وأخذ ينهره ويوضح له أن أصل الإنسان آدم وحواء وهو هكذا ينشر الكفر ونصحه بأن يكتب في أشياء تفيد الناس وجاء رد كمال كالتالي:

«يا له من رجل طيب! إنه يطمع في أن يحمله على مهاجمة العلم في سبيل الدفاع عن أسطورة. حقًا لقد تعذبت كثيرًا ولكنه لن يقبل أن يفتح قلبه من جديد للأساطير والخرافات التي طهر منها، كفى عذابًا وخداعًا، لن تعبث بي الأوهام بعد اليوم، النور النور، أبونا آدم! لا أب لي، ليكن أبي قردًا إن شاءت الحقيقة، إنه خير من آدميين لا عدد لهم، لو كنت من سلالة نبي حقًا ما سخرت مني سخريتها القاتلة!».

«أما عن أمه فقد وعدها في سره بأن يكرس حياته لنشر نور الله، أليس هو نور الحقيقة؟ بلى، وسيكون في تحرره من الدين أقرب إلى الله مما كان إيمانه به، فما الدين الحقيقي إلا العلم، هو مفتاح أسرار الكون وجلاله، ولو بعث الأنبياء اليوم ما اختاروا سوى العلم رسالة لهم، هكذا يستيقظ من حلم الأساطير ليواجه الحقيقة المجردة، مخلفًا وراءه تلك العاصفة –التي صارع فيها الجهل حتى صرعه – حدًا فاصلًا بين ماض خرافي وغد نوراني، بذلك تنفتح له السبل المؤدية إلى الله، سبل العلم والخير والجمال، وبذلك يودع الماضي بأحلامه الخادعة وآماله الكاذبة وآلامه البالغة».

كان كمال يؤمن بوجود الله ولكن لا يؤمن بالدين الذي عشقه في صغره وبدأ بالتلاشي عندما قابل محبوبته «ما زلت أؤمن بالله، أما الدين؟ فقط ذهب! كما ذهب رأس الحسين، وكما ذهبت عايدة (معبودته)، وكما ذهبت ثقتي بنفسي!».

الأدب متعة سامية بيد أنه لا يملأ عيني، إن مطلبي الأول الحقيقة، ما الله، ما الإنسان، ما الروح، ما المادة؟ الفلسفة هي التي تجمع كل هؤلاء في وحدة منطقية مضيئة.

لا أخفي عنك أني ضقت بالأساطير ذرعًا، غير أني في خضم الموج العاتي عثرت على صخرة مثلثة الأضلاع سأدعوها من الآن فصاعدًا صخرة العلم والفلسفة والمثل الأعلى. ولا تقل إن الفلسفة كالدين أسطورية المزاج، فالحق إنها تقوم على دعائم ثابتة من العلوم وتتجه بها إلى غايتها.

إني أرى الشهوة غريزة حقيرة، وأمقت فكرة الاستسلام لها، لعلها لم تخلق فينا إلا كي تلهمنا الشعور بالمقاومة والتسامي حتى تعلو عن جدارة إلى مرتبة الإنسان الحقة، إما أكون إنسانًا وإما أكون حيوانًا.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل