المحتوى الرئيسى

فصل مثير فى عبثية المشهد الليبى

06/20 21:35

لن نستطيع أن نستوعب الحاصل فى ليبيا إلا إذا تخلينا عن التعلق بالأساطير والأوهام التى راجت عن الصراع الحاصل هناك.

فى الأسبوع الماضى تناقلت مواقع التواصل الاجتماعى تسجيلا لأحد شيوخ القبائل الليبية قال فيه إن «المغاربة» أخذوا البترول «والعبيدات» أخذوا البرلمان «والبراعصة» أخذوا (رئاسة) الحكومة.

أما نحن «العواقير» فيستكثر عليهم البعض حصولهم على وزارة الموت، التى قصد بها وزارة الدفاع. الكلام على بساطته وتلقائيته يسلط الضوء على أحد العوامل المهمة فى الصراع المستمر منذ خمس سنوات فى ليبيا.

أعنى أنه ينبهنا إلى أنه فى جوهره صراع على مراكز القوة المتحكمة فى موارد الدولة، أما المتصارعون الحقيقيون فهم القبائل صاحبة النفوذ هناك. فلا هو بين قوى سياسية ولا بين متشددين ومعتدلين أو بين قوى إسلامية وليبرالية. وحتى إذا كان لتلك المكونات وجود فإما أن دورها هامشى لا تأثير يذكر له على مجريات الصراع، أو أنه يمثل الواجهات أو اللافتات التى يرفعها البعض لإخفاء العوامل الحقيقية التى تحركه.

هذه النقطة أشار إليها المحلل السياسى الليبى صلاح البكوش الذى قال لى على الهاتف من طرابلس إن وسائل الإعلام أساءت تصوير ما يجرى فى ربوع البلاد حين عمدت إلى تسطيحه. ولم تنفذ إلى جوهره المتمثل فى التنافس حول الاستئثار بالموارد. وهذا التنافس قد يعبر عن نفسه بالشعارات السياسية كما قد يعبر عن نفسه بالتنافس على المناصب أو حتى بالسلاح.

القاهرة شهدت صدى لذلك الصراع القبلى تمثل فى التنافس حول منصب سفير ليبيا فى العاصمة المصرية، إذ أصرت كل من قبيلتى البراعصة والدرسة على أن يكون السفير من أبنائها. ويبدو أن رئيس حكومة طبرق تعرض لضغوط من القبيلتين فوافق لكل منهما على مطلبها.

من ثم اختارت قبيلة البراعصة ابنها طارق سطيف البراعصى المراقب المالى للسفارة بالقاهرة ليكون سفير بلاده، واختارت القبيلة الثانية ابنها محمد صالح الدريسى القنصل فى مدينة الإسكندرية للمنصب ذاته. وكانت النتيجة أن أحدهما باشر وظيفته من مقر السفارة بحى الزمالك فى القاهرة، فى حين تسلم الثانى مهام الوظيفة ذاتها ومارسها من مقر مندوبية ليبيا لدى الجامعة العربية فى حى الدقى.

ولم يقف الأمر عند ذلك الحد وإنما بسبب التنافس والتنازع بين القبيلتين حول الموضوع تم اقتحام مقر وزارة الخارجية فى مدينة البيضاء وخطف وكيل الوزارة حسن الصغير وتعرض للضرب وزير الخارجية محمد الدايرى!

ثمة أسطورة أخرى شائعة تختزل الصراع فى التنازع المفترض بين شرق ليبيا وغربها، وهى تسقط الجنوب من الحسبان، الذى شهد تنافسا واقتتالا بين الطوارق وقبائل التبو، الذين يديرون عالما آخر محوره التهريب المنفتح على الجيران (تشاد والنيجر ومالى والجزائر والسودان) .

لكن الأهم من ذلك أن التنازع قائم فى الغرب بين مصراتة والزنتان، والأولون يمثلون الحضر الساحلى والآخرون يمثلون بدو الصحراء. ثم إنه قائم فى الشرق، ويتمثل فى الصراع الحاصل الآن بين قبيلة العواقير الكبيرة وبين بعض القبائل البرقاوية والمجموعات المؤيدة للفريق حفتر.

وتتحدث التقارير الآن عن سيناريو التحلل فى الشرق، الذى يتمثل فى نزوع البعض إلى الاستقلال النسبى عن السلطة من خلال المطالبة بتحويل المحلات الصغيرة إلى بلديات تدير أمورها بذاتها. يضرب المثل فى هذا الصدد بمنطقة فى جنوب مدينة البيضاء، هى جردس العبيد التى حولت إلى بلدية، الأمر الذى دعا قبيلة البراعصة إلى المطالبة بتحويل ٢٤ فى محيط جردس العبيد إلى بلديات كل منها لها إدارتها الذاتية، رغم أن مجموع سكانها لا يتجاوز ١٥ ألف نسمة.

المحلل الليبى صلاح البكوش ساق فى هذا الصدد قرينتين تهدمان أسطورة صراع الشرق والغرب.

خلاصة الأولى أن اللواء خليفة حفتر الذى يتصدر الواجهة فى الشرق حين أراد إخضاع قبيلة «الزوية» العربية المنتشرة فى الجنوب الشرقى، فإنه تحالف لأجل ذلك مع عناصر من جماعة «العدل والمساواة» المتمردة فى دارفور وآخرين من قبائل «التبو» فى مناطق الجنوب (لها امتدادات فى تشاد والنيجر)، وشن هؤلاء حملتهم ضد مواقع الزوية.

وتم ذلك فى محيط الشرق ولم يكن الغرب طرفا فيه (للعلم: الرئىس السودانى عمر البشير تحدث عن اشتراك مرتزقة من جماعة «العدل والمساواة» فى الصراع الدائر فى ليبيا، كما أشارت إلى الواقعة تقارير خبراء الأمم المتحدة عن الوضع الليبى خلال عامى ٢٠١٤ و٢٠١٥).

المثل الثانى الذى ذكره البكوش له دلالة أعمق. ذلك أن بعض الأبواق الإعلامية تتحدث عن حملة يقودها اللواء حفتر ضد من يسمونهم بالمتشددين والمتطرفين فى الغرب فى حين أن بين المجموعات المسلحة التابعة له كتيبة «التوحيد» السلفية، وهى تعد أحد رموز التطرف الذى يروج الإعلام للادعاء بأنه يحاربه.

الذين يرددون تعبير الجيش الوطنى الليبى يروجون بعلم أو بغير علم لأكذوبة كبرى، لسبب جوهرى هو أن القذافى كان قد دمر الجيش وفرغه من مضمونه، بحيث لم تنج من حملته سوى بعض الوحدات التى جرى تشتيتها الآن، ربعها فقط موجود فى الشرق وثلاثة أرباعها فى الغرب والجنوب.

صاحب هذه الشهادة هو اللواء يوسف المنقوش رئيس الأركان السابق الذى استقال من منصبه فى عام ٢٠١٣ حين أدرك أنه لا يستطيع القيام بمهمته فى إعادة بناء الجيش بسبب تدخلات وضغوط مراكز القوى التى نشأت بعد الثورة. وما قاله أيدته شهادة العقيد فرج البرعصى آمر منطقة الجبل الأخضر العسكرية (متوفرة على اليوتيوب) التى ذكر فيها أنه لا يوجد فى ليبيا جيش الآن، وإنما هو «فتات جيش»، العسكريون فيه لا تتجاوز نسبتهم ٢٠٪.

التقيت اللواء يوسف المنقوش فى إسطنبول، التى اختارها مقرا لإقامته بعد استقالته، ووجدته يحفظ عن ظهر قلب قصة الجيش الليبى منذ تأسيسه فى مصر عام ١٩٤٠، مع بداية الحرب العالمية الثانية وكيف دمره القذافى بعد محاولة الانقلاب عليه عام ١٩٧٥ حين ألغى الرتب من خلال ما عرف باسم «الأمر المستديم رقم واحد»، وكيف قام فى عام ٢٠٠٩ بترقية عشر دفعات إلى رتبة عقيد بقرار من جانبه.

حين سألته عن الجيش الوطنى الذى يتحدث عنه اللواء خليفة حفتر أوجز رأيه فيما ذكرت توا، مضيفا أنه ليس جيشا وليس وطنيا.

وحين طلبت منه تفصيلا قال إن العملية كلها ليست سوى تهريج له أغراضه السياسية ولا علاقة لها بالعمل العسكرى. فالجيش الذى يتحدث عنه حفتر يقوده مدنيون لا عسكريون، وأغلبه من المتطوعين والمرتزقة وخريجى السجون. ومن المفارقات أنه يضم كتيبتين إحداهما سلفية باسم «التوحيد»، والأخرى تسمى نفسها كتيبة «أولياء الدم»، لذا يصعب الادعاء بأنه جيش، لأنه عبارة عن ميليشيات تحالفت مع اللواء حفتر أو تم تجنيدها لحسابه بتمويل من جهات خارجية، بهدف تحقيق حسابات معنية لا علاقة لها بمستقبل ليبيا ولا بالمصالح العليا للبلاد.

حين قلت إن وسائل الإعلام تحدثت عن دور الجيش فى إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش فى درنة واضطرار أفراده للانسحاب منها، كان رده أن ذلك كله غير صحيح. وما قيل فى هذا الصدد كان ادعاء مكذوبا من أوله إلى آخره.

فالذى طرد داعش من درنة كانت المجموعات المسلحة المحلية ممثلة فى مجلس شورى الثوار. وبقية القصة أن جماعة داعش حين انسحبوا من درنة، واتجهوا إلى سرت فى الغرب فإنهم خرجوا فى ٨٠ آلية قطعت مسافة ١٢٠ كيلو مترا فى أراضٍ مفتوحة، لم يتعرض لهم طيران اللواء حفتر، ولكنه قصف مواقع مجلس شورى الثوار الذين حرروا المدينة منهم.

سألته: بماذا يفسر موقف حفتر فكان رده أنه رجل مهووس بالسلطة، ويريد أن يجعل من نفسه «قذافى» آخر فوق الجميع بما فى ذلك القانون وكل مؤسسات الدولة.

وهو يلجأ فى ذلك إلى الترغيب والترهيب واستخدام كل أساليب العنف لإسكات معارضيه وقمعهم. وللأسف فإنه يحظى بدعم إقليمى من دول تسعى لإجهاض الثورة متذرعة فى ذلك بدعوى مكافحة التطرف والإرهاب.

يوم الثلاثاء ١٤ يونيو الحالى، عقد اجتماع للمجلس الأعلى لقبائل العواقير تحدث فيه ثلاثة أشخاص، هم: فرج أقعيم آمر القوات الخاصة لمكافحة الإرهاب فى بنغازى ــ صلاح بولغيب آمر الاستخبارات العسكرية ــ المهدى البرغشتى وزير الدفاع فى حكومة الوفاق. وفى شريط التسجيل الذى وثق كلماتهم تحدثوا عن وقائع بالغة الخطورة شهدتها بنغازى خلال السنوات الثلاث الأخيرة. فاتهموا اللواء خليفة حفتر بتشكيل خلايا يشرف عليها مساعده عبدالرازق الناضورى، تتولى تصفية المعارضين باغتيالهم، وقد تم إلغاء القبض على ١٦ شخصا كلفوا بتلك المهام بمنطقة «بلعون» فى بنغازى.

وذكروا أن لديهم ١٣٧ قضية تم فيها الاغتيال بواسطة تلك الخلايا. تحدثوا أيضا عن سجن يتبع الناضورى يقوم فيه ستة من البنغاليين بتعذيب المعارضين والتخلص منهم، أضافوا إن جماعة حفتر يتاجرون فى الذخيرة والعتاد العسكرى الذى يتوفر لديهم من الخارج عبر الحدود المفتوحة ومن خلال ميناء طبرق. كما تحدثوا عن اختفاء ٤٨ مليون دينار من مصرف الوحدة.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل