المحتوى الرئيسى

"مدارج السالكين" .. العارفون من اليقظة للمحاسبة (3)

06/20 06:30

لازلنا مع “مدارج السالكين .. بين منزلة إياك نعبد وإياك نستعين” وهو رائعة الإمام الجليل ابن القيم في شرح كتاب الإمام الهروي. وفي حلقة اليوم نشاهد منازل السفر إلى الله ومدارات السعادة بينها ..

يفرق ابن القيم بين الوارد والحال والمقام، فأنت تعلم بالشيء ثم تتعمق فيه ثم يكون مقامك، ولهذا ليس كل عالم بالشيء متصفا به، فعلم العشق والصحة والشكر والعافية غير حصولها ، وهناك من يعرف أهمية خشية الله ولكن قلبه لا يخضع ولا يخشى . ولهذا فهناك فرق بين العلم والمعرفة؛ فالعارف هو من يعمل بمقتضى علمه ويتأثر به حاله وقلبه وصدق الله ورسوله وعباده في معاملته وأخلص في قصوده ونياته . يقول تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم . وقوله سبحانه “مما عرفوا من الحق” أما العلم فقد جاء في القرآن للأمور المرئية التصديقية وليس للإدراك القلبي من مثل قوله تعالى : “وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون” .

والسائر إلى الله لا ينقطع سيره إليه مادام في قيد الحياة ، بل يشتد سيره إلى الله كلما زادت ملاحظته لتوحيده وأسمائه وصفاته . ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادا وقياما بالأعمال إلى أن توفاه الله .

وقد ينسلخ الرجل من مقامه كما ينسلخ من الثوب، وينزل إلى ما دونه. ثم قد يعود إليه، وقد لا يعود .

وهناك مقامات تندرج تحتها العديد من المقامات التابعة، فمثلا محبة الله جامعة لمقام معرفته وخوفه ورجاءه وإرادته، ومقام الخشية جامعة للمعرفة بالله وبحق عبوديته، يقول تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء، فالعلماء أهل خشية الله . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية”

ومن درجات العباد : المقربون وهم ذروة السنام، الأبرار، الواصلون، العارفون، السالكون، المريدون وهم الذين شرعوا في السير إلى الله، ثم العابدون

والتوبة أعلى مقامات السالكين ورجاء كل عابد، ومع ذلك فهناك علل تكتنفها ومنها طمأنينة القلب ووثوقه بأنه قد تاب، جمود العين واستمرار الغفلة، ألا يستحدث بعد التوبة أعمالا صالحة لم تكن له قبل الخطيئة، فالتوبة الصحيحة لها علامات منها أن يكون بعد التوبة خيرا مما كان عليه قبلها ولا يزال الخوف مصاحبا له لا يأمن مكر الله طرفة عين، ومن أماراتها كسرة القلب بين يدي الرب . وكان صلى الله عليه وسلم يدعو ربه “أدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه” .

يقول تعالى “إن الإنسان لربه لكنود” قال الحسن البصري “هو الذي يعد المصائب. وينسى النعم” والأرض الكنود التي لا نبت نافع بها .

ويعددها ابن القيم بـ”اليقظة” ، “الفكرة”، “البصيرة” ،”العزم” ،”المحاسبة” و”التوبة” . وهي متزامنة مصاحبة للعابد جميعا وليست منقطعة بحيث ينتهي من أحدها ليدخل بأخرى .

فأول منازل العبودية اليقظة وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين . ولله ما أنفع هذه الروعة وأشد إعانتها على السلوك ! واعلم أن العبد قبل وصول الداعي إليه في نوم الغفلة، قلبه نائم وطرفه يقظان .

قال تعالى : “قل إنما أعظكم بواحدة . أن تقوموا لله مثنى وفرادى” فالقومة لله هي اليقظة وهي أول ما يستنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه .

وأصحاب اليقظة متفرغون لعد نعم الله وشكرها، وقد أتوها بغير ثمن، والرسول (ص) بدعائه يقول : أبوء لك بنعمتك علي. وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت” وهو ما سمي بدعاء سيد الاستغفار. ومعرفة النعمة تكون بنور العقل وتأمل النعمة والاعتبار بأهل البلاء. وأكبر نعم الله هو الإسلام والإيمان .

ثم إن اليقظ يعلم أن خطاياه خطر عليه، وقد ذم الله تعالى في كتابه من نسى ما تقدم يداه “ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ” ومن هنا نجد العبد اليقظ يشمر للتخلص من رق الجناية بالاستغفار والندم ومحو السيئات بالحسنات التابعة وملاقاة المصائب بالصبر. وهكذا يخلص من شوائبه كالذهب النقي . ثم بعد موته ينفعه صدقات ودعاء المحبين له . ويوم القيامة يتطهر بأهوال المشهد وشفاعة الشفعاء وعفو الله عز وجل . فإن لم تف كل تلك الأمور بتمحيص العبد فلابد له من دخول النار، ليتطهر.

ومدار السعادة وقطب رحاها : التصديق بالوعيد الرباني، يقول تعالى ” إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ” . وقوله سبحانه “إنما أنت منذر من يخشاها” .

ومن أسباب اليقظة سماع العلم وإجابة داعي الحرمة وصحبة الصالحين .

والعادت من أكبر أسباب الغفلة، وما على العبد أضر من ملك العادات له . وما عارض الكفار الرسل إلا بالعادات المستقرة المورثة لهم عن الأسلاف الماضين ، فمن لم يوطن نفسه على مفارقتها ، فهو مقطوع.

وهي تحديق القلب إلى جهة الخالق . وهي فكرة بالعلم والمعرفة وفكرة بالطلب والإرادة . فبالأولى نفرق بين الحق والباطل، وبالثانية نميز النافع والضار .

ويعدد ابن القيم في منازله فكر التوحيد ، فلا تصح العبادة إلا للإله الحق، وهذه الفكرة هي حقيقة البراء والولاء. البراء من عبادة غير الله والولاء لله ، يقول تعالى : “وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني فإنه سيهدين”

ثم تكون فكرة “البصيرة” فهي نور في القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم، ووضع الكتاب، وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نصب الميزان، وتطايرت الصحف، واجتمعت الخصوم. وتعلق كل غريم بغريمه ولاح الحوض وأكوابه عن كثب . وكثر العطاش وقل الوارد: ونصب الجسر للعبور، وجيء بالناس إليه ، وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه ، والنار يحطم بعضها بعضا تحته. والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين .

فينفتح في قلبه عين يرى بها ذلك، ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها، والدنيا وسرعة انقضائها .

والبصيرة إما أن تكون في الأسماء والصفات، أو في الأمر والنهي، أو بالوعد والوعيد . فأنت ترى الله وهو يحكم خلقه كما وصف نفسه في قرآنه ، حي لا يموت ، قيوم لا ينام ، عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. بصير يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء . أسماؤه كلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد ولذلك كانت حسنى ، وصفاته كلها صفات كمال، ونعوته كلها نعوت جلال ، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل. كل شيء من خلوقاته دال عليه، ومرشد لمن رآه بعين البصيرة إليه . خلق الخلق لقيام توحيده وعبادته وأسبغ عليهم نعمه ليتوسلوا بشكرها إلى ريادة كرامته . وأقام عليهم حجته البالغة وكتب على نفسه الرحمة .

أما البصيرة في الأمر والنهي فهي تجريده عن المعارضة بتأويل أو تقليد أو هوى فلا يقوم بقلبه شبهة تعارض بأمر الله ونهيه . ثم تكون بصيرة الوعيد وهي أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت في الخير والشر ، عاجلا وآجلا، في دار العمل ودار الجزاء، وأن ذلك موجب إلهيته وربوبيته .وشهادة العقل بالجزاء كشهادته بالوحدانية، ولهذا فإن المعاد معلوم بالعقل وإنما اهتدي إلى تفاصيله بالوحي .

ونلمح بهذا الفصل من مدارج السالكين توقير الإمام ابن القيم للشيخ الهروي، صاحب الكتاب الأصلي والذي جاءت المدارج شارحة له ومعلقة عليه .

والفراسة ثمرة البصيرة، وهي نور يقذفه الله في القلب ، يقول تعالى ” إن في ذلك لآيات للمتوسمين” ويقول صلى الله عليه وسلم “اتقوا فراسة المؤمن . فإنه ينظر بنور الله عز وجل ” . والمقابل لصاحب الفراسة هو صاحب الغفلة الذي يرى الحق باطلا والباطل حقا ، ومن مثل هؤلاء قوله تعالى “كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون” وهو حجاب كثيف مانع للقلب من رؤية الحق والانقياد له .

إذا انتبه العبد وأبصر أخذ في القصد وصدق الإرادة في الهجرة إلى الله . فأخذ في أهبة السفر، وتعبئة الزاد ليوم المعاد، والتجرد عن عوائق السفر، وقطع العلائق التي تمنعه من الخروج .

فاذا استحكم قصده صار “عزما” جازما، مقرونا بالتوكل على الله، وهناك عزم البدايات للدخول في الطريق، وعزم السير معه وهو من المقامات .

والقصد متقدم على سائر المنازل، والمحاسبة متقدمة على التوبة بالرتبة، فإذا حاسب العبد نفسه خرج مما عليه . والرضا مترتب على الصبر لتوقفه عليه.

ومحاسبة النفس لا تكون بغير تصحيح التوبة . ولهذا قالوا أن التوبة بين محاسبتين، محاسبة تقتضي وجوبها ومحاسبة تقتضي حفظها . يقول تعالى : “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، ولتنظر نفس ما قدمت لغد” .

وقال عمر بن الخطاب “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا . وزنوا أنفسهم قبل أن توزنوا . وتزينوا للعرض الأكبر”

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل