المحتوى الرئيسى

لماذا سقط المازني على الأرض من الضحك برمضان؟

06/18 15:42

في مقاله المنشور بجريدة “الرسالة” تحت عنوان “في رمضان” نشره الأديب العملاق ابراهيم عبدالقادر المازني في 7 نوفمبر 1938 كتب عن يومياته الضاحكة- وكان أديبا ساخرا بطبعه- مع أسرته وخادمته العجوز .. فماذا قال ؟!

ليقل من شاء ما شاء، فإني أعتقد أن الله تعالى يغفر لي ذنوبي وخطاياي جميعا جزاء لي على صبري في رمضان . ومن كان له أولاد كأولادي، وخدم كخدمي، فإن هؤلاء شفاعة كافية له بلا نزاع، وإذا كان القاريء لا يصدق، ولا يؤمن كإيماني بشفاعة هؤلاء لي، فلينتظر حتى تقوم الساعة وينصب الميزان .

عددت أبواب الغرف وما إليها فإذا هي عشرون، ومنها تتألف جوقة موسيقية لا تفتر ولا تهدأ في ليل أو نهار، وقد يئست من حمل خادمتنا العجوز التي حملتني طفلا – على كتفها أو ذراعها لا في .. - على تزييت هذه الأبواب، وما أكثر ما قلت لها إني أشفق على هذه الأصوات الرخيمة أن تبح، فكانت تتبسم – أو تظن أنها تتبسم – وقتل : “الله يخليك يا سيدي!” فأقول لها : “لا تخالفي علي فإن عمر الشقي باق، أي طويل” ، ولمن غيري يكون وجع القلب ؟ كلا : لا تخافي، وإني لفي أمان من الموت ما بقيت لي، فإذا ذهبت أنت بعد عمر طويل، فإن هناك الأولاد .. ؛ كلا. لا خطر علي من هذا الردي العادي الراصد لغيري، المتربص بسواء” .

فتدعو لي بطول العمر ، ولكنها لا تزيت الأبواب! وقد حاولت أن أنهض أنا عنها بهذا العبء، فكادت تدق عنقي، فكففت بعد ذلك، ورضت نفسي على السكون إلى هذه الموسيقي. ومن طرائف هذه الخادمة العجوز أنها لا تكاد تسمع، أو تبصر، فهي لا تكاد تفهم. وأنا رجل خفيض الصوت جدا، وأحتاج أن أكلمها – فما من هذا مفر في بعض الأحيان – فأنادي أحد الأبناء الأفاضل وأقول له – وأنا أعلم أن هذا يسره – انقل عني بصوت عال، فيفعل، ولكن اللعين يصيح في أذني أنا!! ثم يقع على الأرض من الضحك .

ويكون الولدان الصغيران في المدرسة، وتكون بي حاجة إلى كلام الخادمة، فماذا أصنع؟ لقد جربت عبث الصياخ، فأقول لها “هاتي القهوة” . فتغيب شيئا ثم ترتد إلي، وتدعوني أن “أتفضل” فأتعجب، وأسأل نفسي : “ماذا يا ترى ؟ هل شرب القهوة يستدعي أن تجرني هذه العجوز إلى غرفة أخرى ؟ ” وأطيع ، وأخرج، وأتبعها، فإذا هي قد أعدت لي طشتا وإبريقا وسجادة للصلاة!!

لهذا صرت إذا احتجت أن أطلب منها شيئا، أكتب لها رقعة بما أريد، نذهب بها إلى البقال أو النجار، أو الجيران، ليشرحوها ويبينوا لها ما فيها، وما أكثر ما يعابثها البقال !!

ولا أستطيع أن أنهرها، أو حتى أن أظهر لها الغضب أو الامتعاض، أو الضجر، فقد ربتني صغيرا، وليس هذا ذنبي، ولكنها تعدني “ملكا” لها، وترى أن هذا يخولها حقوقا علي، فالبيت كله بيت “ابنها” بما فيه، ومن فيه، ومن كان لا يعجبه هذا فلينفلق!

على أن مصيبة الأولاد أدهى، تكون الساعة الخامسة صباحا، فأسمع نقرا على الباب، فأفتح عيني وأقول “تفضل .. تفضلا .. تفضلوا .. أو تفضلن” فيدخل اللعين الصغير الذي نسميه “ميدو” – وهي عندنا صيغة التصغير لعبدالحميد – فيدور بيننا هذا الحوار

- صباح الخير يا سيدي. خير إن شاء الله ؟

- الساعة كم الآن ؟

- الساعة ؟ أو ليس عند ماما ساعة ؟

- عندها ساعة . ولكنها قالت لي البارحة إنها خربت ووقفت

- هي قالت ذلك ؟ وحضرتك صدقتها ؟

- أعوذ بالله !! مستحيل يا سيدي . وهل يكذب إلا الكذاب ؟

وأخبره أن الساعة الخامسة فيقول

- أنا ذاهب إلى المدرسة

فأصيح، وأستوى اقعدا، “أي مدرسة يا أخي؟ وهل صارت المدارس في عهد هيكل باشا تفتح قبل الفجر؟ أما إن هذه ليلية ! رح يا أخي “رح نم!”

فيقول “بس اسمع يا بابا”

فأقول وأنا اعيد رأسي إلى المخدة “سامع . تفضل”

- بقى الأفندي قال لنا “يجب أن نكون موجودين في منتصف الساعة الثامنة، وأن من يتأخر عن هذا الموعد لا يشترك في الرحلة

فأشتهي أن أقول في هذا “الأفندي” أشياء كثيرة . وأقولها فعلا ، ولكن في سري؟ كما كانت تفعل حماتي . أي نعم حماتي، فقد كانت في هذا قدوة، ومثلا يحتذى . وكانت إذا سخطت على إنسان، توسعه ذما، وسبا، ولعنا، في سرها!

وكانت تجد في هذا شفاء لغليلها، فتتبسم، وتتنهد، وتضع يدها على قلبها وتقول “أيوه كده ! الحمد لله ! كنت سأطق”

وأقول للغلام “ولكن أين نحن من هذا الموعد؟ اذهب ونم “

فيقول “لا يا بابا : لئلا أتأخر!”

فأقول : “ يا أخي ، وما ذنبي أنا إذا تأخرت حضرتك”

فيقول : “إنما أردت أن أسألك هل أصوم؟ لأني أكلت في السحور مع ماما”

فأهز رأسي، وقد فهمت، ذلك أن ماما لابد أن تكون هي التي أوعزت إليه أن يبكر فيسألني هل يصوم أو لا يصوم وأقول له : “إنك صغير، جدا، والصيام غير مفروض عليك، ثم إنك ذاهب لتلعب، وتنط، فستجوع بسرعة، فيجب أن نأخذ معك طعاما وإلا مت من الجوع”

فيسألني “وماذا آخذ معي ؟ إنهم لم يعدوا لي شيئا”

فأغتنم هذه الفرصة، وأقول له “يا عبيط ! كيف تقول إنهم لم يعدوا لك شيئا ؟ أو نتهم ماما بمثل هذا الاهمال ؟ “

فيسألني : هل تعني ...؟

فأقاطعه وأقول بصوت كالهمس “اسمع، لقد هيأت لك ماما كل شيء، ولكنها لم تخبرك حتى لا تخرج قبل الأوان، ثم لتفاجئك فتسرك .. ماما لطيفة ، أليست كذلك ؟ (فيهز رأسه موافقا) ولكني صرت أخشى الآن أن نتأخر، وقد قال لك الأفندي إن من يتأخر لا يشترك في الرحلة،

فاذهب إلى ماما، وأيقظها بلطف، وصبحها بخير، وارج منها أن تعتقد أنك كبرت جدا، وساعتها كما تعلم واقفة، فأفهمها أن الوقت قد أزف، وخذ ما تعطيك، والآن اذهب .. مع السلامة ،وإن شاء الله نراك ونراها بخير”

فيذهب مسرورا، فانهض خفيفا، وأمشي إلى الباب على أطراف أصابعي، وأوصده بالمفتاح، لأني أعرف ما يحمل بي إذا تركته مفتوحا!!

والمثل يقول “جن الذي نجا من الموت!” فلا تمضي دقائق حتى أشفق أن يتهشم الباب، ويتحطم رأسي، فلا يسعني إلا أن أفتحه، فتدخل ماما، كالإعصار وتصيح بي :

“ما هذا الذي صنعت؟ تغري الولد بي، فيوظفني في هذه الساعة وأنا صائمة !!

فأقول : “ساعتك واقفة ؟ أليست كذلك ؟ “

فتقول، وهي تغالب الضحك “يعني إيه ؟ |

فأقول ، وأنا اعود إلى السرير ” يعني دقة بدقة ، والبادي أظلم !”

فتقول : “راجع إلى السرير؟ تقلقنا وتنام ! شيء جميل!”

فأقول : “من الذي أقلق صاحبه؟|

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل