المحتوى الرئيسى

«ونوس».. شيطان أم إنسان! | المصري اليوم

06/16 00:44

ظل الشيطان يؤرق الإنسان طويلا.. أخرج سيدنا آدم من الجنة.. وحاول منع إبراهيم أبو الأنبياء من بناء الكعبة فكان الخليل يقذفه بالأحجار.. بل إنه أراد النيل من سيدنا محمد وهو ساجد فرفع الرسول يده ثلاث مرات وقال أعوذ بالله منك فكاد يهلك.. فعلها إبليس مع موسى وأيوب ويحيي بن زكريا ويونس.. من ثم فهو سفير الشر الأعظم على وجه الأرض.

حاول الأدباء والشعراء تصوير حيله وألاعيبه في مؤلفات خالدة مثل جوته أديب ألمانيا الكبير الذي قدم لنا رائعته فاوست عن العالم الكيميائي الذي باع روحه للشيطان واقتبست السينما المصرية عدة أفلام من هذه المسرحية وغيرها مثل «موعد مع إبليس» بطولة محمود المليجي وزكي رستم واختفاء جعفر المصري لنور الشريف وحسين فهمي والريس عمر حرب لخالد صالح وسفير جهنم ليوسف وهبي.. و«راكب الأشباح» لنيكولاس كيدج وسام إيليوت و«محامي الشيطان» لآل باتشينو في السينما العالمية.. هذه الخلفية الذهنية لدى المشاهد جعلت المصريين يؤكدون أن «ونوس» أو يحيي الفخراني هو الشيطان الذي جاء ليضل عائلة «ياقوت» والذي لعب دوره باقتدار نبيل الحلفاوي.

بداية أعترف لعبدالرحيم كمال، المؤلف، أنه يقدم هذا العام دراما تليفزيونية مختلفة عن سوابق أعماله مثل شيخ العرب همام ودهشة والخواجة عبدالقادر وأخيرا «ونوس».

عبقرية المؤلف ويحيي الفخراني أنهما خلقا شخصية غير متواجدة في الواقع، واستمدها عبدالرحيم من التراث والخيال والديانات.. ونوس ليس بالضرورة «إبليس» اللعين ولكنه النفس الأمارة بالسوء.. «ونوس» موجود داخل كل منا.. أحيانا نضع قناعا لنخفيه أو نطلق لحية تمسحا بالإسلام، أو نهتف مؤيدين أو معارضين.. لكن المشكلة أن كل تلك الأفعال لا تنجح في إخفاء «ونوس» الحقيقي داخلنا.. نحن في صراع أبدي معه.. ينتصر فيه المؤمنون الصادقون وينهزم فيه أصحاب النفوس الضعيفة.

«ونوس» يظهر في الكباريه كما يحضر في المسجد.. يعطي للمغني ما يريد مثلما يزين للشيخ التقي حلمه في أن تكون فتاويه جماهيرية وله شعبية.

إذا أردت ان تفهم «ونوس» على حقيقته ارجع إلى قول المولى عز وجل في سورة الشمس «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها».

إذن الخير والشر موجودان داخل كل منا، وعلينا أن نغلب الخير دائما.. والله خلق فينا الفجور والتقوى بميزان يرفع الصالحين ويخسف الطالحين.

النفس الإنسانية خلقها الله على الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، يقول الله «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان» سورة الأحزاب.

كان الإنسان بهذا القبول وهذا الحمل الخطير المخلوق الأول عند الله فلذلك سخر الله له ما في السماوات والأرض.. فطرة الله رائعة أو بتعبير معاصر «برمجة على سوفت وير مدهش».. هذا الإنسان إذا ارتكب خطأ يكتشف خطأه بنفسه وهذا ما يسمى بالفطرة.. فطرته السليمة تتوافق مع منهج الله توافقا تاما.. أتصور أن الحلقات القادمة في «ونوس» ستثوب الشخصيات إلى رشدها.. لأن النفس حينما تنحرف عن منهج الله بوعي أو غير وعي.. عن إرادة أو غير إرادة فإنها تكتشف هذا الانحراف بنفسها.. يحدث upgrade أو restore للفطرة.. لذلك يقال إن «الإثم ما حاك في صدرك وكرهت اطلاع الناس عليه»..

أعتقد أن عبقرية المؤلف ترتكز على اختيار أسماء الشخصيات بحيث تتطابق مع صفاتهم وأفعالهم في المراحل الأولى من المسلسل ثم يبدأ بعد ذلك في تحويل الصفة المتطابقة مع الاسم إلى «مناقضة» له.. فمثلا «عزيز» سيتحول إلى ذليل.. أما «نبيل» فسيتبين أنه «وضيع» «وفاروق» المفروض أنه مستمد من الفاروق عمر العادل الزاهد الذي مازال يضرب بعدله المثل فسيتحول إلى «مفتي» بالأجر يطوع فتاويه لمن يدفع وستتجه بوصلة مصلحته إلى فائدته المادية والدنيوية ورغبته الدفينة أن ينجب طفلا ذكرا.

أتخيل أن ابنة ياقوت التي شفي ابنها من الشلل ثم عاد إليه مرة أخرى بعد ما طردت والدتها انشراح «هالة صدقي» ونوس من منزلها، هي تجسيد لزوجة سيدنا أيوب التي حاول معها الشيطان أن تعبده ويرد لأيوب كل ما سلب منه من ثراء وأراضٍ، فقالت له إن لي سيدا «أيوب» سأعود إليه قبل أن أجيبك، فلما علم أيوب قال لها والله إن برئت من مرضي هذا لأجلدنك مائه جلدة، ودعا ربه قائلا «ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين» فشفاه الله.. كان أيوب امتحانا للعقيدة.

سلط الله إبليس على أمواله وزرعه وأرضه وماشيته وأبقى عذاب جسده لله لأنه يعلم إيمان عبده ونبيه.. عذاب المرض والجسد أعنف من أي ابتلاء.. لكن أيوب صبر وفاز.. وأتصور وهذا رأيي الشخصي أن «ياقوت» هو أيوب العصر الحديث.. واختيار الاسم أيضا له حكمة عند المؤلف، فالياقوت معدن نفيس لكن إذا اعتلاه الطين والتراب انطفأ وإذا مازال عنه عاد متوهجا براقا وهو ما أظنه.

أقرب قصص الأدب العالمي إلى «ونوس» هو رواية «صورة دوريان جراي» التي كتبت بحثا عنها عام 1974 بالجامعة الأمريكية.. وملخصها أن أحد حكام إيطاليا دعا فنانا تشكيليا شهيرا وأمره برسم صورتين مختلفتين ومتناقضتين عند باب أكبر كنيسة في البلاد.. الصورتان لملاك وشيطان.

فكرة الحاكم كانت أن الداخل ليتعبد يرى وجه الخير وسحنة الشر.. بحث الفنان طويلا عن وجه ملائكي فعثر على طفل برىء جميل يسكنه الحبور وتبرق عيناه من السعادة.. ظل عاما يرسم وجه الملاك.. وبدأ يبحث عن رجل تتطابق ملامحه مع الصورة الذهنية للشيطان.. أنتظر طويلا ليحظى بهذا الوجه الشيطاني.. 25 عاما مرت ولم يجد ضالته.. خشي الحاكم أن يموت الرسام قبل أن ينجز الصورة الأخرى.. قرر الفنان زيارة السجون والحانات وأماكن المجرمين لكنه لم يجد ضالته.. ثم فجأة هرع إلى الحاكم ليقول له إنه عثر على «الشيطان».

رجل سيئ الطباع يبتلع زجاجة خمر في رشفة واحدة.. قبيح.. كريه الرائحة.. أصلع.. له شعرات متفرقة تنبت وسط رأسه كأنها قرون الشيطان.. صوته عال منفر، قال له الرسام إنه سيرسمه ويجسده كشيطان ليضع صورته بجانب الملاك أمام الكنيسة.. بدأ الفنان يرسم يوميا.. والرجل ملامحه تلين يوما بعد يوم ثم وجده بعد أسبوع يبكي منتحبا سأله فقال «يا سيدي أنت زرتني منذ أكثر من 25 عاما حين كنت طفلا واستلهمت مني صورة الملاك.. واليوم تستلهم مني أيضا صورة الشيطان.. لقد غيرتني الأيام والليالي حتى أصبحت نقيضا ذاتيا وانفجرت الدموع من عين الفنان والبائس.. وجلسا معا يبكيان أمام صورة الملاك..

هذه النهاية ربما تكون الإجابة عن «ونوس» هل هو شيطان أم إنسان يقول المولى عز وجل «والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين».

قد يكون كلامي من قبيل اللغو أو التخريف وربما فيه بعض الصواب لكن ما أعلمه أن لكل منا قرين من الشيطان، فقد قال الرسول لعائشة مع كل إنسان شيطانه، فقالت ومعك يا رسول الله، فرد النبي «نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم».

إن «ونوس» ابتلاء من الله على عائلة ياقوت وأولاده الذين يمثلون البشر أجمعين.. والمولى عزوجل له حكمة بالغة في ذلك فهو يسلطه على عباده ابتلاء وامتحانا يقول تعالى «واستفزز منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل