المحتوى الرئيسى

كان هذا سهواً... أنسي الحاج يستبق ويؤسس الغياب

06/15 00:52

في استعادة نصوصٍ غيرِ منشورة لشاعر بعد موته محاذيرُ عديدة من أهمّها أنّ الشاعر لا يقيم الآن في حدثِ نشر نصوصه. ثمّة سلطة حسيّة ووجدانية لآخرين على هذه النصوص. بطبيعة الحال، يفصله الموتُ عنها، ويفصله الموت أيضا عن تماساته الحسية مع المتلقي، كلاما وإدلاءً بالرأي في شأن هذه النصوص أو تعليقا عليها. على أنّ النصوص، إذ تنشر بعد الموت، تغدو نصوصا أقرب إلى بثّ شعور لدى المتلقّي بأنها مشاع حميميّ يفترض بها أن تخرجَ ناجزة ودقيقة بمعنى قدرتها على إغلاق معجم الشاعر ونبرته، كمؤلّفٍ، في سبيل فتح الاعمال الكاملة المجموعة على ما يفترض أنه أفقُ التأصيل والنقد.

استعادة نصوصٍ أخيرة لصاحب «ماضي الايام الآتية» (1965) يدفعنا بالضرورة لنشير إلى هذا الشاعر لجهة كون نصوصه متونا خاما تظلّ تستدرج بالتباسها التفسير والتعليق، إذ إن لغة الحاج هي، بمعنى من المعاني، مؤسِّسةٌ لرؤية شعرية عند جيل من الكتاب، لا سيما في مسألة بنائية قصيدة النثر وطرائق تقليب المفردات وإدماج الضمائر في الكلمات والأفعال من وجوه شتّى، ومن خارج التواضع النحويّ التقليديّ. وجوهٌ عرّضت الشاعر، كما نعرف، إلى سيل من النقد اللاذع المجحف في أغلبه بحجة التلاعب بالنحو وبحجة توسيع هامش الخروج عن الصياغة الشعرية العربية الكلاسيكية متوسلا مناخات سوزان برنار النقدية (مقدمة لن، 1960).

عود على بدء، لا يسعنا إلا أن ندقق في هذا المجال بوجوه الأشكلة لناحية استعادة أو نشر نصوص لشاعر كبير بعد موته. هنا يُحال الناقد بشكل مباشر إلى مثال لعله الأسطع في السنوات الاخيرة ونعني مثال الديوان الاخير لمحمود درويش (1941-2008) «آن لهذه القصيدة أن تنتهي» وما تلاه ومن نقد تمحور حول أخطاء جلية متعددة في الوزن فنّدها الشاعر شوقي بزيع في نصّ لجريدة الحياة. نقول إن ما يتركه الشاعر من كتابات بعد موته، لعله كان ينوي نشرها أو حتّى مسودّات، هي، في وجه من الوجوه، مادة من غير الممكن طمرها أو حجبها في مساق قراءة التجربة الكتابية في الإجمال. الكتابات المتناثرةُ مسوداتٍ أو تجاربَ غير مكتملة هي قيمة جوهرية لناحية تفتيح النقد على مسارات وإمكانات قد تكون بالغة الدلالة في بناء تصور نقديّ متين عن شاعر لم يعد موجودا وصار لزاما أن يباشر النقد في تأصيل وموضعة مجمل التجربة الكتابية في مسار المشهد الأدبي والشعريّ العام.

لا نتكهن كنقاد، بطبيعة الحال، تفاصيلَ دقيقة عما يفترض أنه انطباع الشاعر حول نصوص سوف تكون مادة كتاب أخير بعد موته. نقصد مسألة ميول الشاعر في مسائل التعديل أو الحذف أو ربما الاستنكاف بشكل مطلق عن وضعها بين دفتيْ كتاب. على أنها، الآن، نصوصٌ قد صارت متاحة في الكتاب ويلزم النقد أن يرى إليها من زاوية أنها نصوصه الاخيرة، فعلا، بمعنى عرضها على مجمل التجربة اللغوية والكتابية مقارنة وكشفا لتفاوتاتها، وبالتالي بناء تصوّرات معقولة عن تراكيبها الأسلوبية اللغوية أو ثيماتها وطبائعها من وجهة نظر النقد.

لا يسع مقالا واحدا الكلام عن تجربة «أنسي الحاج» لا سيما في ما يتصل بفروقات النبر بين أعمال متقدّمة وعند مفاصل أساسيّة في تجربته الكتابية. ونقصد مفصل «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» (1975) وصولا إلى أجزاء خواتم. وإن كان لنا من قول، فنقول إنّ الانفلاشة الكتابية تحت عنوان قصيدة النثر التي يعتبر أنسي الحاج من روادها الأوائل تبقى تتوسل، مرارا وتكرارا، الرؤية إليها، لا من خلال الاقصاءات الجاهزة، بل هي مثل أي تجربة في الكتابة، اشتغال حيويّ، يتصل إلى حد بعيد بأمزجةٍ وتياراتٍ نقدية ذاتية (موروث) وموضوعية من خارج دائرة الثقافة العربية، وهي، بهذا المعنى، تبقى قابلة لأن تظهِّر، تحت تأثيرها، تجارب لامعة، وهي بالقدر نفسه تحتمل، في المقابل، تجاربَ تسيء فهمَ المغزى الشعري للصياغة الكتابية، عند الحاج، طبعا في غياب الموهبة، خصوصا أنّ الشاعر قد أبدى آراء، لغير منبر، في سنواته الأخيرة عن توجّسه من استسهال كثيرين الدخول في غابة قصيدة النثر دون استيعاب فكرة أن التجربة هي شعرٌ بالنهاية وليس عليها بالضرورة أن تتعالى على أنماط إيقاعيّة بلاغية أو تكون إقصائية (قصيدة الوزن/ القصيدة العمودية). في هذا السياق نفهم مقالة أنسي في حديث صحافيّ قبل بضع سنوات حيث يقول: «أحب أن أسمع شعرًا موزوناً لأنه يخدّر ويطرب و يهدهد الذاكرة. أحياناً مصادفات القافية تحمل إبداعات مذهلة، و تحدث كشفاً رائعاً، وهي من شيم القيود. أنا لجأت إلى النثر لأنه يناسب طبعي، ألحق بفكرة ثابتة و أسعى أن أتحرر منها. هذه الأشياء لا يستطيع أن يتحملها الوزن، لأنه دكتاتوري. لكني لم أحاول تحطيم قصائد الوزن كما نسب إلي. كتبت قصائد نثر لإضافة نوع من أنواع الشعر وليس بهدف إحلال نوع محل آخر. تراث الأدب العربي يحمل روائع في الوزن، وأنا أحببت أن أعطي مكانًا متواضعًا لشيء لم يكن لديه مكان شرعي هو قصيدة النثر. لم أعاود كتابة قصائد موزونة لأني لست مطبوعاً لها. أتمنى أن يعاود شبابنا اليوم كتابة الشعر الموزون. بلغ الواقع من الفوضى والتخبط درجة لا تحتمل. السبب الأساسي غياب النقد العليم والصادق. أصبح الأدب اليوم نشاطاً اجتماعياً، وهذا أسوأ ما يمكن أن يصيبه. أن يتحول الخلق إلى نشاط عادي، حيوية علاقات» (الحديث يرجع إلى سنة 2011).

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل