المحتوى الرئيسى

نظرة على الصين.. حمولة التاريخ (٢-4) | المصري اليوم

06/12 23:22

مقبرة «تشين شى هوانج»، إمبراطور الصين الأول، يُحيط بها جيشٌ من التماثيل الفخارية. جيش كامل بالحجم الطبيعى، يبلغ عدد جنوده ما يقرب من الثمانية آلاف. استغرق بناء المقبرة أربعين سنة. شارك فى العمل 700 ألف رجل، أى أكثر سبع مرات من عدد من شاركوا فى بناء هرم الجيزة الأكبر. أى رجل يستطيع أن يجمع هذا العدد من الناس ويحشدهم لكى يبنوا مقبرة؟! إنه الرجل الذى وحّد الصين فى 221 ق.م. منذ هذا التاريخ صارت الصين الإمبراطورية التى نعرفها. هذه الدولة استمرت ألفى عام، ولكن الثمن كان باهظاً. كان «تشين شى» طاغية بلا مثيل. صحيح أنه وحد اللغة (وهى عامل مهم فى الوحدة القومية للصين عبر التاريخ). صحيح أنه عبّد طرقاً تمتد لآلاف الأميال، ووضع نظاماً موحداً للعملة والموازين. ولكن صحيحٌ أيضاً أنه كان طاغية بلا مثيل: قتل مئات الآلاف. أحرق الكُتب، بل أحرق المثقفين أحياء. فى الخمسينيات تفاخر زعيم الثورة الشيوعية «ماو تسى تونج» بأن «تشين» قتل 4016 مثقفا، أما هو فقتل 46 ألفاً (!). ثمة خط متصل يربط الإمبراطور الأول بالزعيم الأشهر.

الخيوط التى تربط الصين بتاريخها البعيد متينة وراسخة. لا تكاد تخطئها عين. الصين المعاصرة هى وليدة تجربة تاريخية مُركبة. حصيلة حمولة ثقيلة من السيادة المطلقة والهوان المُمضّ. هى مثلنا، «أمة عميقة». والحال أن فك شفرة «الأمم العميقة» لا يستقيم من دون الوقوف على تجربتها التاريخية التى تصل حاضرها بماضيها.

عبر التاريخ، حُكمت الصين بنظام إمبراطورى ذى سُلطات مُطلقة. الفلسفة وراء هذا النظام تكمن فى كونه الضمانة الوحيدة التى تُحصن البلاد من الانزلاق إلى الفوضى. السياسة الصينية مُشبعةٌ بهذا الخوف من الفوضى. من الانتفاضات والهبات التى يحفل بها تاريخ البلد. فى القرن التاسع عشر تضعضعت الدولة على إثر مجموعة من الفتن. ما يُعرف بتمرد «تايبينج» (1850ـ 1864) حصد ضعف من سقطوا فى الحرب العالمية الأولى على الجانبين. هذا الخوف من الفوضى مازال يحكُم السياسة الصينية إلى اليوم. انفلات دولة بهذا الحجم (1.3 مليار نسمة) كابوسٌ حاضرٌ فى أذهان قادة الصين. لهذا السبب، فإن الأمن الصينى يستخدم عصا غليظة لضمان عدم توسع آلاف المظاهرات والاحتجاجات التى تندلع يومياً. النظام السياسى مصممٌ على السيطرة بصورة كاملة على المُجتمع وحركته من خلال ما يقرب من 80 مليون كادر فى الحزب الشيوعى، لهم وجود فى كل ركن من أركان البلد. الفضاء الإلكترونى مُراقب. حرية الرأى مقيدة. إنه نظام يقوم على قيمة الوحدة والنظام وليس الحرية أو الفردية.

يظل الحزب الشيوعى هو العمود الفقرى لهذا النظام. على أن جذوره تضرب فى أعماق بعيدة. إن كان «تشين شى» هو من وحد الصين، فإن «كونفوشيوس» هو من منحها هويتها. هذا الفيلسوف، الذى عاش فى القرن السادس قبل الميلاد، لعب الدور الأكبر فى ابتداع «منظومة القيم» الصينية. جوهر هذه المنظومة هو التراتبية الاجتماعية. هذه التراتبية لا غنى عنها للانسجام فى المُجتمع. «اعرف مكانك» هو شعار كونفوشيوس الأثير. العائلة هى حجر الزاوية فى فلسفته. الأب عليه واجب التربية إزاء الابن، والابن عليه الطاعة. الحاكم يتعين عليه أن يُعامل رعيته كأبنائه. لو استطعنا تربية الحاكم المتنور فإن المجتمع كله ينصلح حاله. ولكن علامَ نُربى الحاكم؟

جوهر النظام التربوى الكونفوشى هو التقاليد. معرفة سير الأسلاف. حفظ الطقوس. الطقوس غايتها أن تجعل الفرد أكثر إنسانية من خلال احترامه للآخرين. حجر الزاوية فى هذه الفلسفة هو القاعدة الذهبية: «لا تُعامل الآخرين بما تكره أن يعاملوك به». هدف كونفوشيوس كان تكوين نخبة من الرجال الفُضلاء ذوى المعرفة لقيادة البلد. أصبحت هذه الفلسفة هى المنظومة الرئيسية التى تأسست عليها البيروقراطية الصينية الشهيرة. الموظف العام الصينى كان يجرى فرزه من خلال اختبارات بالغة الصعوبة تختبر معرفته بالتُراث الكونفوشى المُعقد. ظل هذا النظام قائماً حتى 1906!

لاحِظ أن فلسفة كونفوشيوس سلفية، إن جاز التعبير. هى تنظر إلى الماضى باعتباره الملجأ والملاذ. هذه الرؤية الماضوية منحت الصين منظومة قيمية مُحافظة صانت وحدتها الاجتماعية. مع ذلك، هى فشلت فى التجاوب مع الحداثة. علة ذلك أن الحداثة تقوم على الفكرة المعاكسة. تنظر إلى المستقبل لا الماضى. ترتكز على الفرد لا المُجتمع.

الصين كانت أغنى دولة فى العالم حتى القرن الثامن عشر. حضارتها منحت العالم اختراعات غيرت الدُنيا: الورق والبوصلة والبارود والطباعة والعُملات الورقية. كيف تدهور الحال بهذه الأمة العظيمة حتى تكالبت عليها القوى الأوروبية فى القرن التاسع عشر، وأذاقتها بريطانيا الهوان وأجبرتها على فتح أسواقها أمام تجارة الأفيون؟

الإجابة المختصرة هى: الانغلاق. الصين كانت لديها تجربة رائدة فى بناء أسطول بحرى بلا نظير فى القرن الرابع عشر. ولكن سُرعان ما أُحبطت التجربة، بل حظر الإمبراطور بناء السُفن والرحلات الخارجية. حدث ذلك فى نفس الوقت الذى بدأت فيه حركة الكشوف الجغرافية الأوروبية. فات الصين قطار الثورة الصناعية. انغلقت أكثر. تعاملت مع من هم خارجها باعتبارهم «برابرة». طبيعة مُجتمعها الذى يُركز السلطة كلها فى قبضة شخص واحد لم تكن صالحة لعصر التصنيع والرأسمالية والتجارة الدولية. الثورة الشيوعية أعادت توحيد البلد بعد تفسخه، ولكنها خلقت مُشكلات لا تُحصى.

النخبة التى تقود الصين اليوم تنوء تحت وطأة هذه «الحمولة التاريخية»: فلسفة كونفوشية هيراركية متغلغلة. نظام مركزى يضرب بجذوره فى التاريخ البعيد. خوف من التفسخ والفوضى. شعور بالنقمة على الغرب، ورغبة فى الاستفادة منه فى الوقت ذاته. إدراك لمزايا «الوصفة الغربية» للتقدم، مع تحسب من تبعات اتباعها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل