المحتوى الرئيسى

تونس في 15 دقيقة

06/12 11:59

كانت تونس من بين الوجهات المفضلة للكثير من سكّان العالم، وكانت صور البطاقات البريديّة التي يتم عبرها الترويج للسياحة أقرب إلى "الصورة المصطنعة" أو التي تستهدف السلطة والنظام الرسمي تصديرها وتسويقها، فالواقع حتماً أجمل في أحيان، وأسوأ في أخرى من الذي تحمله تلك الصور، حتّى التونسيّون أنفسهم يجهلون جزءاً كبيراً من الجغرافيات ومن العادات والتقاليد والمعالم في بلدهم، رغم صغر مساحته الجغرافيّة، ناهيك عن التفاوت الطبقي والجهوي، فذلك ما ظهر منه حدّ الآن إلا نزر قليل بعد الثورة مرتبط أساساً بما يلي "الكوارث" الكثيرة والمتتالية التي تشهدها بعض الجغرافيات القاحلة التي تغيب فيها الدولة على الأرض وفي أذهان الناس معاً.

بعيداً عن الجولة في الجغرافيا وبين المناطق الأثريّة والصحراء الذهبيّة، وكذلك بعيداً عن طبائع أهل الجنوب وما تختلف عن طبائع أهل الشمال، وبعيداً عن كلّ تلك الشعارات والأقوال والخطابات الرومانسيّة اجتماعيّة الظاهر ليبراليّة الباطن، فإنّه بعد عقود وبعد جدل طويل وعقيم عنوانه "بلد الـ300 سنة حضارة" صار من الممكن اليوم أن تتجوّل في تونس في مدّة زمنيّة وجيزة تتراوح بين خمس عشرة وثلاثين دقيقة ستكون كافية لمشاهدة كل اللوحات والثقافات والطبقات والعادات والتلوينات السياسيّة والأيديولوجيّة في البلاد.

كما يفعل منظّمو الرحلات السياحيّة، فإنّه يمكن رسم مسار لرحلة قصيرة فيها أكثر من رسالة وأكثر من مشهد، الفرق فقط أن المسار سيكون مستقيماً وقصيراً ينطلق من "قوس باب بحر" وينتهي عند "محطّة تونس البحريّة" أو العكس، قد يكون الاختزال إلى هذا الحدّ مثيراً، ولكنها رحلة تستحقّ أن تتأمّل ما فيها وما سترى خلالها مما يفرح وما لا يسرّ الناظرين، وهي حتماً ليست كلّ شيء، ولكنها تعكس الحقيقة في اجتماع أغلب أجزائها، فقط بعض الانتباه بعد شدّ الحزام بإحكام فقد تكون الرحلة القصيرة متعبة ومغامرة في حدّ ذاتها في بعض الأحيان.

ارتبط تاريخ المدينة في تونس بالأسوار العظيمة التي كانت مشيّدة حولها للحماية، ولم يبقَ من تلك الأسوار إلاّ قليل في بعض الولايات، أمّا في أخرى فلم تبقَ سوى الأبواب شاهدة على عصور خلت، وهي أبواب عملاقة ولوحات فنيّة جميلة تجلب الناظرين، "قوس باب بحر" في قلب العاصمة تونس هو أحد الشواهد على التاريخ وحوله تزدهر تجارة الصناعات التقليديّة والتجارة الموازية، أو ما يسمّى الانتصاب الفوضوي، ولكن أيضاً هناك "سوق العملة" أين يمكنك تحويل الأموال من عملة إلى أخرى سرّاً وخارج إطار القانون، ورغم ذلك فإنّك ستلتقي تجار العملة يعرضون خدماتهم على المارة من جنسيات مختلفة عربية وأوروبية وغيرها على بُعد أمتار قليلة من أعوان الأمن العمومي.

على الجانب الأيمن انطلاقاً من "قوس باب بحر" في الرحلة ستلحظ انتشاراً كثيفاً للانتصاب الفوضوي، أين يعيش عدد كبير من المتحصلين على شهادات عليا عاطلين على العمل أو النازحين إلى العاصمة بحثاً عن الشغل فيجدون في "التبزنيس" هناك ضالتهم إلى حين، وقد لا يتركونها فالوظيفة باتت أمراً صعب المنال، وقد يصادف أن تكون الشرطة البلديّة يومها في حالة استنفار فترى الجميع هارباً بسلعته خوفاً من حجزها، وهذا لا يحدث إلاّ استثناء رغم أن القاعدة هي منع مثل هذه الممارسات.

فور الوصول إلى السكّة الحديديّة تجد نفسك أمام ثلاث صور عملاقة؛ "المقيم العام" متمثّلاً في السفارة الفرنسيّة أمامها مباشرة مؤسس علم الاجتماع العلاّمة عبدالرحمن بن خلدون في نصبه التذكاري، وعلى اليسار الكنيسة التي تمثّل من ناحية المعمار معلماً فريداً في شكله، ومن ناحية أخرى دليلاً على تعايش سابق بين الديانات على هذه الأرض، من بين الصور الثلاث يكفي أن تنظر إلى المارة أمامك وذات اليمين والشمال، وستعرف أن من يجلس داخل السفارة لا يزال له باع وذراع ولا تزال يده الطولى تحرّك وتفعل الكثير من الأشياء الأخرى، وقد ترى انعكاس ذلك في أعين المارّة إذا ركّزت قليلاً وكأنّهم لم يقرأوا لـ"ابن خلدون" المكرّم بنصب هناك.

من النصب التذكاري لـ"ابن خلدون" وصولاً إلى المكان الذي تنتهي فيه كلّ الحركات الاحتجاجيّة والاحتفاليّة وينتهي معه الرصيف والأشجار سترى أكثر من لوحة أخرى ذات أهميّة، المسرح البلدي الكبير وقد تجمّع أمامه بعض الشباب على أدراج المدخل لتلويثها بقشور حبوب "تباع الشمس" أو أغلفة الحلوى والشوكولاتة كأنّهم يلعنون واقع الثقافة والمقاهي، وقد امتلأت بروّادها وأغلبهم من المارّة من النزوح يضعون أضعاف الأسعار في مشروبات لا يعني صاحب المقهى فيها شيء في "النوعيّة" أو "جودتها" بقدر ما يعنيه "العدد" والمغازة الكبيرة الفارهة التي تتجاوز أثمان بعض قطع الملابس فيها أضعاف مقابل عمل أحد الفتيان أو إحدى الفتيات العاملات فيها، وسيعترضك أطفال صغار في عمر الزهور يبيعون وروداً بلاستيكيّة تفوح منها رائحة زيوت المحرّكات لكي يوفروا مصاريف الدراسة، حسب ما يقولون، وهم يعملون في الواقع في شبكات منظّمة قد يكون من بين مهامها الاتجار بالبشر.

في الرحلة أيضاً ستكتشف أنّ "الأعين" التي ترافقك وترقبك وتحرسك كثيرة، فأنت في مربع أمني حتّى نادل المقهى فيه قد يكون موظفاً لدى وزارة الداخليّة ويرفع التقارير إليها في صورة ريبته في شيء أو في أي شخصه أو الشك فيه، سترى نساء طاعنات في السنّ تحت الحيطان يجمعن ما تيسّر من كرميّات المارّة، ولكنّك قد تتعثر أيضاً بمن لعبت في رأسه القوارير حتّى صار لا يقوى على الوقوف أو بائعة هوى تراودك عن نفسها، أشياء أخرى ولكنك قد ترى أيضاً كلّ مخابرات العالم هناك في شغلهم اليومي منهمكين.

في آخر الشارع ستجد نفسك كما انطلقت أمام ثلاث لوحات أخرى عملاقة؛ الأولى هي "البناية الرماديّة" التي تسمّى وزارة الداخليّة وهي الوزارة الأكثر نفوذاً في البلاد والتي طبعت عقودها الأخيرة فكانت أداة المتسلّطين وعصاهم الغليظة التي قصمت ظهور معارضيهم ودمّرت ضحاياهم، أمّا الثانية فهي لأحد هؤلاء حتماً متمثلة في النصب التذكاري لأول رئيس للبلاد بعد الاستقلال الحبيب بورقيبة ممتطياً صهوة جواد في حركة أقدم عليها المنتسبون إليه بعد الثورة لا انتقاما له على ما لقيه من نكران من المخلوع، بل لكونهم عاجزين عن توحيد أنفسهم تحت مشروع وزعيم سياسي واحد، وأخيراً اللوحة الثالثة وهي الساعة العملاقة التي كانت تتزين بالألوان قبل أن تصبح باهتة لا معنى لها سوى ذلك الذي ارتبط بالزمن والتاريخ نفسه.

تنتهي الرحلة بعد الساعة العملاقة بقليل، باعة الأزهار على اليمين واليسار تليهم بحيرة "نتنة" ليست للسباحة ولا للصيد، وقبلها بأمتار قليلة دوريّة أمنيّة لا تسمح للبعض بالمرور في اتّجاه ما بات يسمّى هنا بـ"تونس الأخرى" تونس البرجوازيّة؛ حيث الأحياء الراقية والقصور والبنايات الشاهقة والمقاهي الفخمة.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل