المحتوى الرئيسى

من فات ماسبيرو تاه! | المصري اليوم

06/11 00:58

فى فص من فصوص المخ لم تعصف به زلازل الحياة ولا عواصف الزمن.. ترقد ذكرياتنا وأحلى أوقاتنا، ومن حين إلى حين يشدنا الحنين إليها، فنقوم بزيارتها ونشعر بدفء الأيام ونشم نسيماً فواحاً طيلة الزيارة، أنا لا أطلق عليه الماضى بل الحاضر الحى، هناك لحظات تموت وتتلاشى وتسقط من الذاكرة ولحظات أخرى تتجدد خلاياها وتسكن الذاكرة، الذاكرة هذا الجهاز ذو الألف عين وأذن، الذى يلتقط ملايين الصور فى رفة عين ويميز الأصوات بإصغاءة واحدة، حينما أزور ذكرى من ذلك الحاضر الحى أكاد أشم رائحة المكان الذى جرى فيه الحدث وربما سمعت الهمسات.

أعترف برغبتى فى تلك الزيارات الخاطفة عندما يقسو الواقع، فنحن من فرط مرارة الأيام نسافر فى الزمن إلى محطة الذكريات، نسافر بلا حقائب أو حجوزات، فندق ذاكرتى محل إقامتى، إنه لا يسألنى عن اسمى أو عنوانى، فقط يطلب «بصمة الروح» وهى صوتى وأنفاسى ورائحتى، وأنا من الذين يملكون سيديهات لعبدالوهاب القديم وأم كلثوم على بلد المحبوب وفيروز التراتيل الكنسية، أحب هذا العبق، كأننى أتجول فى مدينة قديمة تفوح منها رائحة التاريخ.

نعم للتاريخ رائحة نكتشفها فى الأثاث العتيق والحارات الضيقة بأصواتها الخافتة، بعض الأبنية القديمة الموغلة فى القدم لم تذهب ألوانها رغم السنين، بل تحتفظ بها فى اعتزاز، وبعض ذكريات العالم تعشش فى الذاكرة، فأنا تعودت أن أزور موقع حائط برلين الذى أذاب الجفاء الطويل بين الألمانيتين، أحب زيارة «حانة هتلر» التى كان يدير عملياته منها، وبعد الحرب صارت حانة تحمل اسمه، هكذا التاريخ يظل شاهداً على الأمس البعيد والقريب، وبعض الدول تحتفظ بأحجار مبنى هدمته الحرب أو أكلته الثورات، وربما تسرعنا يوم هبطنا بالمعاول والبولدزرات على رأس «الحزب الوطنى المنحل»، كانت الرغبة السياحية والاستثمارات المادية أكبر من ذكرى مبنى كان له شأن ذات يوم، لكننا لا نتمتع بثقافة احترام التاريخ، وها هو مبنى ماسبيرو يطل على النيل باعتزاز، فقد كان يوماً رافداً يغذى وجدان مصر، كان النبع والمنبع والمصب لثقافات مصر وتراثها، هو بحق موطن جواهر مصر ولآلئها.

قام المشروع من رقدته، فى زمن أنس الفقى، بدأ البحث والتنقيب عن هذه الجواهر حين اصطحبنى المخرج المحترم حمدى متولى ليسجل لى حواراً فى ضيافة لآلئ مصر الخالدة، ورأيت «الشرايط الضخمة والثقيلة» التى تحتاج لشهور طويلة لتصنيفها وغربلتها، إنها عملية أرشفة صعبة، حاول أنس الفقى أن يرفع عنها الغطاء ويزيل تراب الزمن واختار له اسم «التليفزيون العربى» وذهب بعض الرواد، وكنت واحداً منهم، نستعيد الذكريات العطرة، ونشم عبق تلك الأيام، ثم جاءت الثورة وكان المشروع صرحاً فهوى، لقد كادت ذاكرة مصر أن تندثر فلا يعرف شباب مصر من هو د. حسين فوزى، ومن هو عبدالرحمن الشرقاوى، ومن يكون يوسف إدريس أو عبدالحميد جودة السحار، ومن هى سهير القلماوى أو بنت الشاطئ، كادت ذاكرة وجدان مصر أن تذهب تحت سنابك النت وغربان الإهمال، بين سرقة شرايط نادرة، أو لنقل وقائع أكثر ندرة ولها تاريخ.

وخلال الفترة الوجيزة التى تقلدت فيها «صفاء حجازى»- واحدة من فارسات ماسبيرو وكومندان «قطاع الأخبار»- منصبها الجديد فوجئنا على شاشة مصر بـ«ماسبيرو زمان»، وتلاه شعار مأخوذ من الحس الشعبى «من فات قديمه تاه»، والمثل يقول إن من يعبر قديمه ويفوته اللحاق به، حتماً سيفقد الطريق ويتوه.. من هنا جاء الشعار «من فات ماسبيرو تاه»، إذ كيف نصل إلى زماننا دون أن نعرف ماذا فعل الأولون، وماذا دوّن الرواد، وماذا عن سير حياتهم الذاتية، من يحدثنا عن أيام طه حسين سوى طه حسين العميد نفسه، من يروى لنا يوميات نائب فى الأرياف سوى النائب توفيق الحكيم نفسه، من يعطى للقصة القصيرة نجمها الحقيقى سوى البركان يوسف إدريس، من يحدثنا عن أمه الفنانة والصحفية والمناضلة السياسية غير ابنها إحسان عبدالقدوس، من يحكى لنا عن المسرح المصرى ورواده وكتابه سوى سيدة الإحساس سناء جميل، من يقدم نفسه بصورته الطبيعية وهو يقود بروفة لإحدى أهم أغانيه سوى الموسيقار محمد عبدالوهاب، من يتكلم بنضج الأيام والسنين عن اختيار زهرتين للفن هما غادة عادل ونيللى كريم غير سيدة الشاشة فاتن حمامة، من يتعرف على «أم السينما المصرية» سوى حوار مع أمينة رزق.

من يؤرخ لسيدة الغناء العربى من كتاب ورواد غير برنامج عن أم كلثوم «عصر من الفن»، يروى سيرتها وكفاحها ورحلاتها حتى الرحلة الأخيرة التى حملتها فيها أعناق البشر، ولا يزال الصوت الخالد يصدح فى المكان والزمان. إن زويل، قبل نوبل، شريط نادر فى مكتبة التليفزيون، وفاروق الباز فى الاستشعار عن بعد، شريط له قيمته فى أرفف التليفزيون.

من يعرف من جيل الشباب زكريا الحجاوى «الداعية للفن الشعبى»، إن أذن فاروق شوشة «مجمعياً»، من رأى لبنى عبدالعزيز مع كامل الشناوى وأحاديث الهوى والشباب؟، من رأى بروفات عبدالحليم فى شقته بالزمالك لأحلى ما كتب نزار قبانى؟، من يحكى عن «العصفورة بين النسور» سوى صاحبة التجربة نجلاء فتحى ذات الجمال الخاص والتمثيل المتألق، واختارها عبدالحليم واختبرها المصور الكبير وحيد فريد بعدسته، من يذكر الناس بأول محامية مصرية رائدة وقفت أمام قضاة محاكم مصر، غيرها: مفيدة عبدالرحمن.

إن «ماسبيرو زمان» لن ينجح بالعشوائية التى هى جزء من نسيجنا الإدارى، وماسبيرو زمان يحتاج إلى متخصصين دارسين شؤون مكتبات التليفزيون، الأمر يحتاج إلى «غواصين» يستخرجون اللآلئ وأرشفتها خصوصاً أن الأشرطة الضخمة تطورت وأجهزة العرض أيضاً تطورت، لابد من وسيلة علمية تقنية لمشاهدة محتوى هذه الجواهر لمعرفة صلاحيتها للإذاعة من عدمه وإصلاح ما أفسده الزمن، أما اختيار مجموعة من العاملين للبحث والتنقيب فسوف تحكمه العشوائية التى أحذر منها، ولابد من مخرجين مدربين للبث الذكى، وأن يكون صوت مذيعة فى الخلفية ولا نراها تقدم المادة وتاريخ إذاعتها إن أمكن، لأن فى جواهر التليفزيون أعمالا كبيرة لا تقتصر على لقطات جميلة لناهد جبر أو أغانى عبدالمطلب. لابد من برنامج يومى يبدأ ساعة العصارى ويمتد لنصف الليل، ثم يعاد نهاراً، ولا مانع من إشارة لبعض المعلومات تنطق بها مذيعة لا نراها، التنوع ضرورى لأنها «قناة متفردة بمادتها الجذابة» ولا مانع من بروموهات تعلن عن المادة لندرتها وقيمتها، ماسبيرو زمان عاوز شغل يا صفاء، وأعداد التليفزيون الهائلة يمكن استثمار مواهب قادرة على الفرز منها، لقد رأيت بعينى - محدش قال لى - تكدس الشرائط وكأنها ملقاة فوق رصيف ميناء.

1- إن تكرار بعض اللقطات عشرات المرات يبعث على الملل ولحظتها يهاجر المشاهد من القناة غير آسف، ولكن البرومو المعتدل بالصوت يعطى مذاقاً مختلفاً ويجذب للمشاهدة.

2- إن تكرار برنامج واحد على شاشة ماسبيرو زمان يعطى انطباعاً بالإفلاس، والتجديد المستمر فى المادة كفيل بجاذبية غير مسبوقة ربما هربا من تفاهة ما هو معروض بالفعل.

3- من الممكن اقتطاع جزء صغير من برنامج عن أمينة رزق وهى تعد القهوة، ونسمع صوت المذيعة: حوار مع فنجان قهوة على سبرتاية، واعتراف هل أحبت أمينة رزق أستاذها يوسف وهبى؟. من الممكن اقتطاع سؤال موجه ليوسف إدريس: ما عذابات امرأة تزوجت من فنان؟، ونسمع صوت المذيعة: ماذا يقول يوسف إدريس لزوجات الفنانين؟، وهكذا نربط شاشة ماسبيرو زمان بمشاهدين لا يملون ولا يكلون.

4- إن الثقافة مادة نادرة على القنوات الفضائية، واختيار مواد ثقافية «حوارات أو مسابقات» يعطى مذاقاً جميلاً لماسبيرو زمان، لأنك - يا صفاء حجازى - تعيدين زمن التنوير، أشد ما تحتاجه مصر الآن.

5- إن المادة التربوية وفيها الكثير داخل الشرايط تجعلنا فى حال إذاعتها نتحسر على تعلم كان كاملا، من مدرس ومادة وكتاب ومنهج، إلى تعليم بطله «التسريب»!.

6- إن الفرجة على «ماسبيرو زمان» تثير فى النفوس مشاعر شتى، بعضها الحسرة على أخلاق زمان وبعضها الشجن الجميل الذى تبثه هذه المشاهد، فيلماً أو حواراً أو مادة فكاهية، وأحياناً يثير الغضب على «مقدم برنامج مقالب» لا يستريح أو يهدأ إلا بعدد من الشلاليت ينالها كل ليلة، لم تكن هناك سفليات؟؟؟؟؟؟ من هذا الشأن زمان.

7- بعض برامج ماسبيرو زمان تبعث على السعادة لأن الذكريات تمنح هذه اللحظات إذا ارتبطت بمناسبات حلوة، مثل الاستماع إلى أغنية لها ذكرى معينة تستيقظ لحظتها كتأثير قطعة شيكولاتة.

8- أخشى أن يكون الاهتمام بماسبيرو زمان مجرد «فورة» لأننا كمصريين يحكمنا «النفس القصير» فى كل مناحى حياتنا وتلك مأساة أخرى.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل