المحتوى الرئيسى

القبضة والقفاز

06/10 00:44

لعل المفاجئ أن أول دوافع كلاي كان الخوف الذي يتحرر منه ليحوّله إلى ثقة. في عدة مواقف فعل ذلك واستطاع هكذا أن يبني أسطورته.

ترى كم مرة تذكّر محمد علي كلاي، الدراجة التي فقدها الصبي كاسيوس كلاي ذات نهار، وحصل في مقابلها على بطاقة إقامة في مملكة الأساطير؟

كان الصبي الأسمر يطمع في وجبة مجانية وعلبة من الفشار في معرض منتجات الزنوج ببلدة لويس في ولاية كنتاكي، وفي طريقه للخروج اكتشف سرقة دراجته الهوائية، وفي طريقه لإبلاغ الضابط المسؤول بالطابق السفلي شاهد تدريبات الملاكمة، وانشغل بالأجواء التي سحرته حتى نسي أمر دراجته، وعندما التقى الضابط «جوي مارتن» لم يسأله عن الدراجة، بل سأله عن كيفية الاشتراك في تدريبات الملاكمة، وبدأ طريقه إلى المجد من باب الفقدان.

وبعد سنوات قليلة حقق كاسيوس كلاي شهرة كبيرة، ليس لأنه كان قوياً وعنيفاً، ولكن لأنه كان يخاف.. وقد اعترف علي بذلك أكثر من مرة، موضحاً أنه كان يخاف من الهزيمة، فيفكر في كيفية النجاة منها، حتى وجد طريقته الخاصة في تحويل الخوف إلى ثقة «كنت أقول لنفسي دائما إنني مقبل على الهزيمة، وكان هذا الإحساس يدفعني لتفكير عميق أحاول من خلاله تعويض جوانب النقص عندي، والحصول على قوة داخلية خاصة تتيح لي النصر».

هذه الحيلة المزدوجة، وزعت حياة «الرجل» بين «القبضة» و «القفاز»، حيث تمثل القبضة حياته الواقعية بكل ما فيها، وهي أمر يخصه أكثر مما يخص جمهوره، ويمثل «القفاز» حياة الضوء وصناعة الملاكمة بكل ما فيها من أساليب ترويج، وصفقات، وحسابات للمال وللشهرة وللمجد، وحسب هذه الثنائية فقد اختار البطل لقب «الرجل» ليعبّر به عن نفسه في أحاديثه المختلفه، ووضعه في واجهة موقعه الرسمي على الشبكة العنكبويتة، فيما اختار لقب «الأعظم»، كعلامة تجارية، وهو لقب دعائي مصطنع يناسب العقلية الأميركية المغرمة بتضخيم الذات والإفراط في استخدام أفعل التفضيل.

ولما تم اختيار كلاي للمشاركة في دورة روما الأولمبية عام 1960، عاوده شعور الخوف بقوة، وفكر في الاعتذار عن عدم السفر إلى إيطاليا، لكن حيلة الغوص في الذات والبحث عن معادل للخوف، دفعته إلى تدعيم ثقته بنفسه، فعاد إلى التدريبات بحماسة أكبر، وذات نهار قصد أحد المحال التي تبيع مستلزمات الجيش، واشترى مظلة مستعملة، لكي يقفز بها من الطائرة إذا تعرضت لحادث سقوط، لكنه بعد شراء المظلة عثر على ثقته الضائعة، فأهمل المظلة ولم يعرف أين ذهبت بعد ذلك، فقد فقدها كالعادة في مقابل حصوله على شيء آخر يحتاجه أكثر.

وعندما تمكن كلاي من الفوز في المباراة النهائية على الملاكم البولندي زيكوفسكي وحاز الميدالية الذهبية في وزن خفيف الثقيل، انتابته مشاعر غامضة، وعندما عاد إلى بلاده ألقى بالميدالية الذهبية في نهر أوهايو، وهو يقول لنفسه: «من أجل هذه الميدالية، كنت أقاتل رجلاً حتى الموت، حتى لا يأخذها مني، فهل تستحق قطعة المعدن هذه حياة رجل؟ لا بد أن ألقيها في النهر من دون ندم»، ويضيف كلاي: لقد شعرت براحة شديدة وقوة جديدة، هكذا فقد القيمة المادية للميدالية مقابل الحقن الروحي والإنساني الذي حافظ على روحه من التشيؤ، وعلى مشاعره من التبلد، ومن الأمراض النفسية التي دمرت كثيرا من أبطال الرياضة المشاهير والفن.

بدأت تصريحات كلاي تتسم بالإثارة، والمبالغة في تمجيد الذات، وحرص على لقب «الأعظم»، وكان واضحا أنه ينفذ تعليمات فريقه الإداري والتسويقي ويلتزم بجلب المزيد من الجماهير لحلبات الملاكمة، وعلى الرغم من أنه كان قليل الكلام والتصريحات في بداياته، إلا أنه تعلم كيف يخاطب الإعلام، وكيف يحصل على نسب مشاهدة عالية، ووصلت تصريحاته المثيرة إلى ذروتها بعد حصوله على بطولة العالم من سوني ليستون، وفي المباراة الثانية بينهما وصفه كلاي بـ «الدب الضخم القبيح»، واستهان به، لكن ليستون رد عليه بعنف وتوعده بإهانات بالغة، وعندما رآه في إحدى الصالات توجه نحوه وقال له بغضب: «اخرج من هنا فورا أيها الزنجي الشاذ، وإلا..»، واعترف كلاي بأنه شعر بالخوف فعلا، وخرج من دون تفكير، لكنه عندما عاد إلى البيت، لم يستطع أن يحتفظ بالخوف في نفسه، وكان لا بد أن يقايضه بشيء آخر، فتوجه إلى منزل ليستون وأخذ يسبه لا لشيء إلا ليبصق الخوف من رئتيه، وكان كلاي في تلك الفترة قد نفذ نصيحة جولييت لروميو بأن يخسر اسمه ليكسب حبها، فقد قرر أن يتخلى عن اسم كاسيوس كلاي ليصبح محمد علي المسلم، بكل ما يأتي به هذا الاختيار من أعباء، لكن «خسارة الرجل الكبرى» كانت في فقدانه للقب بطولة العالم، مقابل احترامه لمعتقداته وأفكاره، فقد رفض أن يحارب كمجند ضد الشيوعيين في فيتنام، وقال قولته الشهيرة: ولماذا أحارب الفيتكونغ ولم يعايرني أحد منهم بسواد جلدي؟

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل