المحتوى الرئيسى

خالدة الذكر!! | المصري اليوم

06/08 00:59

لا بأس من انعطافة رمضانية يلوذ بها المرء من شرد السياسة وجحيم تراشقاتها، وأظن أن لكل مرحلة عمرية انعطافاتها الحتمية، خاصة إذا كانت ضفاف نهر الذاكرة متنوعة التضاريس بين طين القرية وأسفلت المدينة ورمل القشلاق وطراوة عصارى الغيط، وبرودة مكيفات الترحيلة النفطية!

فى رمضاننا الذى انطوى كانت الطبلية.. دائرة الاكتمال للعيلة الكبيرة وللأسرة الصغيرة.. ليس لها صدر يجلس إليه الكبير على ضلع لا يشاركه فيه أحد، والكل متجاور بلا فواصل، ومع ذلك كان للكبير شأنه على محيطها، إذ لم يكن شرطًا أن يحتكر الذكور مكانة الكبير، بل خضع كل الذكور لستى الحاجة بلا منازع وبلا لكلكة!.. كانت الحاجة هى الكبير بيمناها السمراء المحلاة بالوشم الأخضر!!

وفى قريتنا آنذاك كانوا يميزون بين النجارين، فيُنزلون صانع الطبلية فى أدنى درك المهنة.. إذ يحتل القمة نجار الموبيليا «النابوليا»، يليه نزولاً نجار الباب والشباك، ومن بعده نجار السواقى، مصمم التروس الخشبية الضخمة المستديرة وصانعها، ومعها الشُّبك- شين مشددة مرفوعة- والنَّاف- نون مشددة مفتوحة- ثم يأتى نجار الطبالى- جمع طبلية- التى لا تحتاج إلا لمهارة تقطيع الخشب وتجميعه فى قرص دائرى مرتفع عن الأرض «شبرين»- مثنى شبر- حيث الشبر هو المسافة بين طرف الخنصر وطرف الإبهام فى كف مفرود.. أى حوالى عشرين سنتيمترًا! وهو الارتفاع الذى يمكن للجالس على مقعدته أو مقرفصًا أو على ركبة ونصف أن يصل بذراعه ويده إلى صحون الطعام! وكان الجلوس على «ركبة ونصف»- «أى ساق متنية تحت البدن والأخرى مرفوعة ومتنية»- جلوسًا ضروريًا عند ازدياد العدد، مما لا يسمح إلا بتسلل الذراع ومراعاة عدم الاصطدام بذراع أخرى، أو تعمد السبق إلى الجانب الآخر من الصحن الكبير «الأنجر»، حيث الأرز أو الفتة أو الطبيخ!

كانت الطبلية دومًا جاهزة لتوسط وسط الدار أو المنضرة «المنظرة»، وهى الغرفة الكبيرة المفروشة بأقيسة الحصير- جمع قياس- وهو مصنوع من عيدان نبات «السمر» المجفف، وتُنسج فى خيوط التيل المتينة، ثم تُحلى أطراف القياس برسومات ملونة بالنيلة الزرقاء!! ولذلك كان النيل مشتقًا من الاسم ذاته لأن مياهه زرقاء! وبعد أن ينتهى الطعام تُمسح الطبلية وتُغسل، ثم تعود لمطرحها مسنودة إلى الحائط.. ويا مائة ألف داهية دقى على دماغ زوجة الابن التى عليها الدور فى تجهيز الأكل وتجهيز الطبلية إذا تصادف ولم تلتفت إلى تنظيف أحرف الطبلية من براز الدجاج الذى يقفز عليها وهى مركونة لينام بلا إزعاج.. وكم كانت الفراخ سببًا لنكد مقيم جراء فضلاتها الملتصقة بأى أداة للطعام أو الشراب أو الجلوس!

وفى رمضاننا فطورًا أو سحورًا كان لابد من اللحاق بالجماعة فى تناول الوجبة، فالجميع لابد أن ينتظروا المتأخر.. والمتأخر يفعل المستحيل للعودة عند موعد الإفطار أو السحور، وكثيرًا فى مرحلة أسفلت المدينة يُستبدل بالطبلية ورق جرايد مفروش على الأرض، وفى مرحلة القشلاق مشمع ميرى مفرود على الرمل، أما فى مرحلة الزنازين فقد كان البلاط مباشرة هو الطبلية.. وفى كل المراحل استمرت تقاليدها وآدابها، بل ويا للعجب فإن الطبلية فرضت وجودها فيما «أوضة» السفرة منتصبة بالمائدة المرتفعة ومن حولها الكراسى والبوفيهات والنيش ودولاب الفضية!.. بل كانت السفرة مصدر إزعاج حقيقيًا إذا لم يسمح زحام كراسيها بتوافر مساحة مناسبة للدائرة المكتملة الملتئمة من حول خالدة الذكر.. وكثيرًا ما ربطت بين حكاية «توطين البدو» بإقامة منازل مبنية لهم، فإذا بهم ينصبون الخيمة داخل حوش الدار الجديدة، مثلما كنا نضع الطبلية اعتزازًا ومحبة ولا نلتفت للسفرة، اللهم إلا إذا جاءنا ضيوف أغراب، فيتعين التباهى بأطقم الصينى والمفارش والفضيات والفوط المطرزة!

كانت للطبلية تقاليدها وآدابها، كما أسلفت ابتداءً من طريقة الجلوس المناسبة لعدد الجالسين، ومرورًا بالاقتراب من الغموس «كُلْ بيمينك وكُلْ مما يليك»! وليس انتهاءً بتسلم «النايب» من يد ستى الحاجة التى كانت تحرص على ستر نصيب كل واحد حتى لا تقع عين غيره عليه، وهى تعلم ماذا يفضل هذا وذاك.. لأن هناك مَن يريدها حتة «قطعة» طرية مدهنة، ومَن يريدها حمراء بلا دهن، ومَن يحب مرمشة العظم، ومَن لا أسنان لديه للمرمشة.. ولا أدرى حتى الآن كيف كانت الحاجة توفر الأنصبة «المنابات» وفق تلك الأمزجة المتعددة!

وأظن أن الطبلية كانت جزءًا من التكوين الوجدانى أو بالأصح كانت عاملاً أساسيًا مساعدًا فى تعميق منظومة القيم الإيجابية لدى الناس.. فنحن حتى الآن نتكلم بإعجاب وإيجابية عن ذلك «الشبعان على طبلية أبيه»، أى الذى لا يمد يده لمال غيره ولا للمال العام، ولا يرتشى ولا يقبل أن يأخذ إلا ما يستحقه، وبالمقابل نتحدث عن ذلك المشوه «الجعان»، الذى لا تظهر عليه النعمة وهو عنده الملايين، ويظل مستفقرًا إلى ما لا نهاية، لأنه «أصله لم يشبع على طبلية أبيه».. ونحن نتكلم أيضًا عن لقمة هنية تكفى مائة، وعن بصلة المحب التى تفوق الخروف، وعن البركة التى تحل فى الأكل، فيشبع الجميع فيما الغموس قليل.. ولكن البركة طارحة فيه.. وغير ذلك مما ارتبط فى الوجدان الجمعى بالطبلية ولا شىء سواها!

وعلى ذكر الطبلية والطبالى، فقد كان الاسم يُطلق على أدوات أخرى غير تلك الطاولة منخفضة الارتفاع، فبعض السواقى المخصصة للرى كان يُطلق عليها «الطبلية»، والخشبة مزدوجة الجوانب التى يقف عليها المحكوم عليه بالإعدام وتنفتح جوانبها لتميد الأرض من تحته ويهوى فى البئر معلقًا من عنقه اسمها «الطبلية» والعياذ بالله!!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل