المحتوى الرئيسى

طارق العلي يكتب: أمكنةُ الثورة- ملاحظة في تشكّل الطلل في حالتنا | ساسة بوست

06/07 15:42

منذ 1 دقيقة، 7 يونيو,2016

يقول ابن سلام الجمحيّ في كتابه طبقات فحول الشعراء في نقل رأي من يقدّمون امرأ القيس على غيره من الشعراء «ما قال ما لم يقولوا، ولكنّه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، فاستحسنتها، واتبعتّه فيها الشعراء؛ ومنها رقّة النسيب، استيقاف صحبه، والبكاء على الأطلال.»

عوجا على الطلل المحيل لعلنا …

نبكي الديار كما بكى ابن خذام

وابن خذام، أو حذام، أو حمام، هذا أسطورة في الشعر العربيّ يدور حول شخصيّته جدل عقيم، فمن قائل هو امرؤ قيس آخر وهو أول من بكى الطلول شعرًا، ومن قائل إنّه لم يولد إلّا في بيت ابن حجر هذا، ومن قائل هو أحد صحبة امرئ القيس بن حجر وأحد مريديه وروّاد مدرسته الشعريّة. بعيدًا عن هذا الجدل اللطيف، ورغم ما في الصحراء من تشابه اللون والرسم والهواء إلّا إنّ العربيّ كان كلفًا في التحديق في مصيره عبر الزمان والمكان، ولم ينجُ شاعرٌ من سحر الطلليّات ولعنتها، مصابين بهاجسٍ ممّا قد يفعله الوقت في الطلل أصابت تحديقاتهم فيما أُبرم من مصائرهم ومصائر أقوامهم وما لم يبرم -كما يصنّفها الآمديّ- مواجع شتّى؛ ومنها؛ تعفية الدهور والأحقاب للمكان، إقواء الديار وتعفيتها، تعفية الرياح للديار، البكاء على الطلل، سؤال الأمكنة واستعجامها على الجواب، فيما تهيجّه الديار وتبعثه من جوى الواقفين عليها، في ذكر العجماوات التي تألف الديار التي عفت، في التسليم على الديار، وفي لوم الأصحاب لوقوفهم أو عدم وقوفهم على الديار.

درعا، الجامع العمري، لوحة الفنان عبد الحميد سليمان

كنت نائمًا قبيل العصر في غرفتي التي تطلّ نافذتها إلى جهة الشمال حيث يتهادى قاسيون غربًا لينقطع عند مغرب الشمس، معضميّة الشام غرب دمشق في وقتٍ من نيسان عام 2011؛ عندما سمعت بين النوم واليقظة صوت الهتاف الأوّل الذي خالج ذلك المكان، ثمّة ما ينتهك السرّ المدنّس الذي جثم على عوالمنا الصغيرة المبعثرة هناك طوال عقود، الأرواح خاملة والمفاصل متيبسة، والهمس القليل يلقي على العتمة الممتدّة فوق تباريح بلدنا الجميل ضوءًا غامقـًا، والحياة تسير وفق المتوقّع الخانق، وجدت طريقي بعد نافذة صحوٍ إلى وسط المظاهرة في دوّار معصرة الزيتون حيث كان تمزيق الصورة أشبه بعملية تحقيب تاريخيّ في مصائر الشعب والأرض المنذورين للنهايات.

لأكون أكثر تحديدًا بصدق، لا يمكنني البتّة وصف مشاعري ذلك اليوم، وهذه علميّة تحتاج لزمن يخلو منّي ليكتمل الوصف في اللامرئي من سيرٍ تروم الأسطورة، وتتطلب وقتًا لتنضج، إنّنا لا نشعر بثقل الزمن دفعةً واحدة حين يتكثف، أو حين «يغرورق في العينين»، و«الزمان هو النهر».

وأظنّ بأنّه ما من صادق محترم يستطيع اليوم انتقاء الكلمات المناسبة لوصف عواصف العواطف التي كانت تعفو آثار المكان دون أن نفهم أو ندرك الطريقة، ولا الغاية ولا المصير. يصحّ أنّي كنت خائفًا من الخطف، وهو الموت في مذئبة الأسد الطائفيّة الحديثة، ويصح أنّي كنت أشعر كأنّي بطل يكتب سيرة شعب يقوم بثورته الأولى، ولكلّ شعب ثورةٌ أولى، وأخيرة. لا يقوى شعبٌ واحدٌ على ثورتين، هي ثورة وحيدة وواحدة.

ويصدق أنّي كنت متأهبًّا للمذبحة، ومستعدًّا للرحيل، وهو الموت الذي غير الخطف والزنزانة، وهاربًا من القتل وهو الموت العاديّ المعروف، ومحملقًا في الوجوه والأمكنة لتجهيز الذاكرة لمشقة الطرق اللئيمة، ومنتبهًا إلى قلبي وجهات الوقت.

والمكان، المكان الأوّل، والذي بتمازجه مع مرحلة الطفولة حيث لم ينضج المجاز والتأويل والاستعارة وحيث للكلمات سحرُ العاديّ الحقيقيّ البكر، وهو وفق هذا التمازج يسمى وطنًا؛ والمكان بهذا الوصف هو صنو الزمان البكر في كتابة تاريخنا الشخصيّ والعموميّ الفريد، ومن يفقد هذين أو أحدهما، أو يخسرهما؛ لا يكون له تاريخ، أو لا يكون له تاريخ إلّا متطفلًا على تاريخ آخرين، ولا يكون عندها إلّا منسيًّا يتسوّل قدرًا إضافيًّا هامشيًا في الحاضر ومن المستقبل.

أدركنا هذا، وأقولها بكلّ تجرد، لقد أدركنا أنّ زمن الثورة يجب ألّا يضيع، إنّه هبة سماويّة، معجزة تتكامل، فرصة وحيدة وأخيرة. وأدركنا أنّ المكان فريسة يجب انتزاعها من جوف المفترس، كان هذا هاجسًا طاغيًا يراه بعضنا على وجوه بعض في كلّ تظاهرة أو لقاء أو مجلس نقاش أو سمر، لقد اقترفنا في درعا بطولة خارقة يوم صرخنا في جوف الليل لنسمع صوتنا، ولم نكُ لنصدّق بسهولة أنّنا فعلناها، ولذا كنتَ لو سرت في أيّ مظاهرة ستسمع أسئلة من قبيل: هل سيكتمل الحلم؟. يا ترى «راح» نكمل؟

كنّا نقاوم هذه الهواجس والأسئلة الغادرة بالهتاف والغناء في المظاهرات حتى وقت متأخر من الليل.

كانوا يرفعون عقيرتهم في الاعتصامات لإعلان المقاومة ولحلّ القلق من مجزرة تتكامل.

ما ميّز المظاهرات السوريّة هو غياب ما ميّز تظاهرات الثورات الأخرى؛ وأعني الميدان الواحد الرمزيّ الجامع؛ فكان تناثر أمكنتها – نقاط التظاهر- على نحوٍ يجعل من كلّ مكان قصّةَ مناجاة طقوسيّة لزمن لمّا يأتي، زمن الخلاص، صار لكلّ مكان حكايته مع الثورة، وصار كلّ حيّ يسعى للتنافس في الصمود على طريق الخلاص.

وسط ذلك كان يخيّم شعور ثقيل قاتم بأنّ النظام الذي نجح في تقطيع أوصال سوريا ومدنها وبلداتها وأحيائها إنّما يعمل على الاستفراد بكلّ مكان، إنّه يقطّع الثورة ليقتلها على مراحل وعلى أجزاء. فكانت هتافات:

يا حمص درعا معاك للموت، أو

داريّا دومًا معاك للموت، أو

تعبيرًا عن محاولة التغلب على هذا الشعور.

الثورة قويّة لأنّها كثيرة وعميقة، وتتعمّق، هذا كان الانطباع العامّ لدى الثوّار وأنصارهم.

ذلك، لأن المكان هو صانع المعنى السياسيّ وإطار السلطة الرمزيّة لأيّ قول أو حركة، وهو الوشيجة التعاطفيّة في وعاء الزمن، وهو عامل القوّة من موضع الأمل، ذلك ولأنّ عائلة الأسد من جهتها أيضًا صارت تتصرف تمامًا بوصف سوريا ملكيّات خاصة لا يمكنها تخيّل خسارتها إلّا أن تحيلها أنقاضًا محروقة، من هنا صار شبح التهجير يخيّم في وقت مبكر من الثورة، ثمّة تهجير وقع بدايات 2012، وهو تهجير جزئيّ داني، حيث عمدت قوات النظام إلى استهداف مراكز التظاهرات في المدن والبلدات والمناطق بعمليات تفتيش وحصار يتخللها قتل وخطف «مذابح السلاح الأبيض»، فكان الناس ينتقلون إلى أحياء قريبة هادئة، في أطراف البلدات أو مراكز المدن عادةً، في معضميّة الشام من عام 2012 غصّت بنايتنا بالقادمين المخرجين من حيّ جامع العمريّ.

لكنّ الشتات في حقّنا لم يتوقّف عند حدّ، فمع تكثيف العمليّات الأمنيّة والقصف العشوائيّ على مناطق الثورة، تفرغت بلدات بعد بلدات، وأقوتِ الديار روحًا بعد روح، وصار بعضها ومنها ما هو مجرد أطلال تسكنها هتافات الحريّة النديّة، وعلى جدرانها من عرق الصيف، ودماء مذابح الليالي، ومن أملٍ يحاور المستحيل، وعلى الأبواب والنوافذ ثمّة منتظرون، أرواح تنتظر، وأحياء صمدوا هناك ليمارسوا فضيلة الانتظار والصمود.

كان الطلل يتشكلّ إذن، وينتظر شعراءه.

وليس المنفى هنا مقتصرًا على ما صار يسبق إلى الذهن من مهجر البلد الأوربيّ، ولا بلدان الجوار، المنفى هنا كحالة، كنير روحيّ مبتور عن فضائه الأوّل، كخروج من زمنٍ مشتهى، ومن فخّ المكان الآسر بوصفه وطنًا.

ممّا استرعى انتباهي دومًا خلال التحديق في سيرنا ومصائرنا المضطربة هو هذا المعنى؛ لم يقتلع السوريّ المنتفض على دولة الأسد وعصابته؛ لم يقتلع من مكانه الخاص في لحظة خمول أو هزيمة أو انحسار، وإنّما اقتلع منه إبّان تشكل الزمان والمكان الجديدين تشكلًّا وجوديًّا من وجهة المعنى السياسيّ، ومن هنا كنت أُلاحظ أنّ الخروج القسريّ من حيّ التظاهر إلى حيّ مجاور كان كافيًا لتكوّن حالة المنفى هذه.

والمنفى إقامة قلقة مؤقتّة في انتظار العودة، أو الموت، المنفى حياة أخرى غير التي في الوطن، ليست أفضل ولا أسوأ، وإنّما أخرى وفقط، وهو ضرورةُ الوقوف على الطلول.

لقد عاينّا ذلك مثلًا في سيرة الأخوة هادي العبد الله وعبد الباسط ساروت وآخرين ملايين.

لقد كان الشعور بالمكان يتخلّق على نحو أسطوريّ، وهو شعور بالوطن الجديد.

وفي سلسلة الانزياحات المتعاقبة كان المكان يبتعد والطلل يترمدّ ويصير ذاكرة واخزة، وكان المنفى يصير زنزانة كبيرة بلا حدود.

المنفى كثير متعدد، والوطن واحد.

لم تنتهِ الثورة، لا بشرف النصر، ولا براحة الهزيمة، ولم يمت الحلم الذي يحتضر. وثمّة أمل بالانبعاث يستريح تحت ركام البيوت والأرواح المتعبة، الصامدون إلى الآن أشجار حورٍ على ضفاف أنهارنا التي شحّت، وعلامات على الطرقات المعوجّة، وهم باب العودة ونافذة الإطلالة على الحلم في أرض الميعاد.

وفي حقبة زمنيّة ما وفقًا لأحدهم؛ يصحّ بأنّ كلّ شعب يتصرف بوصفه مختارًا وله أرض ميعاد.

ثمّة، وعلى طريقة ظلال بدر السيّاب ومحمود درويش، ظلال للراحلين الموتى، وغير الموتى مجازًا، على جدران تلك الأمكنة تحديدًا؛ أمكنة الثورة، وثمّة أشياء تركوها دون توضيب لأنّ سيرة الفلسطينيّ الذي سيعود بعد يومين وعامين وجيلين تكررت على نحوٍ تراجيديّ، أو لأنّ المجزرة كانت متعجلة وقريبة، ولأنّ الزمن كان متربصًا بالمكان.

بين الزمان والمكان جدلٌ، ومنه يصير التاريخ تاريخًا، وبه يتربّص المؤرّخ.

وثمّة أنقاض المدن والأحياء والبيوت، وهنا بيت القصيد، هذه الأنقاض هي كلّ ما تبقى لملايين السوريّين من زمن يخصّهم ومن أماكن تخصّهم، أزمنة وأمكنة لا ينازعهم على طيش الأحلام فيها أحد، ولا يبادلهم التحيّة فيها أحدٌ غير أفراد العائلة وأبناء الحارة.

في الأمكنة الأولى علّة مجهولة تجعلنا أسرى زمنٍ لا يعود.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل