المحتوى الرئيسى

بشار إبراهيم يكتب: فجر يعقوب.. ينام في شرفة الأدب ويطلّ على السينما

06/07 10:04

منذ فيلميه «محطة فيكتوريا» (1993)، عن مسرحية لهارولد بنتر، و«خدعة ربيعية» (1994)، عن قصص للكاتب البلغاري إيلين بيلين، اللذين حقّقهما خلال ومع الانتهاء من دراسته في «المعهد العالي للسينما في صوفيا»، بدت واضحةً الهواجس الإبداعية التي تشغل فجر يعقوب، الهارب من عالم السياسة والصحافة، حينها، داخلاً عالم السينما، وفي حقيبته أربعة دواوين شعرية: «مواويل الرحيل» (1983)، و«النوم في شرفة الجنرال» (1986)، و«أسباب مريم العالية» (1993)، و«بياض سهل» (2015).

الشاعر يأتي إلى السينما، فلا يتخلّى عن الشعر والموسيقا والنحت وروح الأدب… يمزجها جميعاً، ويجعلها منها رحماً تتخلّق فيه أفلامه، واحداً تلو الآخر، في سياق صاعد، تأخذ تلوينات عدة، دون أن تفقد هويتها الناظمة، وهواجسها الأسياسة، وبحثها الدؤوب عن التجريب والحداثة، وكسر السياقات التقليدية، والذهاب إلى غير المعهود وغير المعتاد.

من فن النحت في «سراب» (1998)، إلى الرشاقة الأدبية في «صورة شمسية» (2003)، والاتكاء على الموسيقى الملحمية في «متاهة» (2004)، والانزياح الدلالي في «البطريق» (2005)، والشعر الذي يتوارى وراء ظلال الأسماء في «عراقيون في منفى متعدد الطبقات» (2009)، والنحت والترانيم في «السيدة المجهولة» (2009)، والتعبير الروائي والرقص على «طريق بيروت- مولهولاند 150 ألف كيلومتر» (2013)… نمرّ على أبرز المحطات السينمائية التي عبرها المخرج الفلسطيني فجر يعقوب، قبل أن يصل إلى جديده «وحدن» (2014).

وكما في الكتابة كذلك في السينما، يشتغل فجر يعقوب (1963)، على اجتراح أدواته الخاصة، متكئاً على ثقافته الواسعة (له ترجمات عدّة)، قبل دراسة السينما وبعدها، واطّلاعه على تجارب عالمية راقت له، في السينما والأدب (له روايتان)، فما انقاد لأيّ منها، ولا اتبعها، وإنما إعاد إنتاج أدواته الإبداعية في الشكل الذي يراه، مفصحاً عن حرية تامة، في الكتابة والسرد؛ حرية لا تأبه بمحددات الإنتاج ولا بشروطه، سواء أكان العمل بإنتاج «المؤسسة العامة للسينما» في سوريا، كما في «البطريق»، و«السيدة المجهولة»، أم لصالح قناة تلفزيونية، كما في «طريق بيروت- مولهولاند 150 ألف كيلومتر»، و«وحدن»، وحتى في الإنتاجات الخاصة، كما في فيلمه «عراقيون في منفى متعدد الطبقات»، لصالح شركة «صورة للإنتاج الفني».

لا تغيب الآداب والفنون عن أفلام فجر يعقوب السينمائية، التي لا تكلّ في البحث عن مزاجها الخاص، النابع من جوهر موضوعها، ليكون أحدثها «وحدن» (48 دقيقة) تنويعاً جديداً، ومضافاً، من حيث اشتغاله على مستويات عدة، ما بين الشعر والسينما والموسيقا والإلقاء، معجونة بفيض الحنين والذكريات، لا لتقدم «نوستالجياً» تتأسف على ما ضاع، وفات، ولم يُقل كما ينبغي بعد، بل لتثير أسئلةً قيد الحاضر والمستقبل، في آن، في بلاد باتت تعد بالمزيد من الخراب والفوات.

أن يعود فجر يعقوب برفقة الشاعر طلال حيدر، أحد أساطين الشعر المحكي اللبناني، ليشاكس ذاكرته البعيدة، ويستعيد معه وقائع يوم نسج قصيدته الشهيرة «وحدن»، عن غيبة ثلاثة فدائيين فلسطينيين مجهولين، ويعانقها مع حكايات ثلاثة سينمائيين لبنانيين (كريستيان غازي، جورج نصر، نبيهة لطفي)، كانوا ذات يوم على وعد بخلق سينما لبنانية طازجة، فهو انطلاقة ذكية لاتكاءة درامية تستطيع قول ما هو أبعد من الحكاية ذاتها.

ولعل يعقوب يؤمن تماماً بـ«فن اللعب». سنراه ممعناً في استعادات تكاد لا تنتهي على مدى الفيلم، يظهر فيها الشاعر طلال حيدر يلقي قصيدته مرة بعد أخرى، لتتحوّل الحالة السينمائية هذه المرة من إلقاء قصيدة إلى ترنيمة تتردد بين جنبات المهجور لمبنى كنسي، يقف الشاعر فيه وحيداً مع أوراق خريق ذابلة وفقاعات هواء تتطاير في أفق الشاشة. وكذلك عندما ينتقل بالسيروم من غرفة المشفى، ويأخذ إبرته من وريد كريسيان غازي، ليغرزها في أوردة الأمكنة المهجورة، في تصاعد درامي ينتهي بالموت «عم يشكشك وراقو ع شريط الزمان».

لا ليس هو الهباء، بل هم المبدعون الذين يتحوّلون إلى شذرات من الشعر والموسيقا، لا يقدر حتى الغياب على طيّهم، ولا يستطيع أخذهم، حتى لو فارقوا الحياة في منتصف الفيلم، كما فعل كريستيان غازي. هم الذين قاوموا زمن الخيبة العارم بالكلمات والصور الفيّاضة، فمضوا وبقيت.

لا اكتفاء في «وحدن» بالتوثيق وحده. هذه ليست مهمة هذا الفيلم أبداً. تلك مهمة تستطيعها برامج وتحقيقات وأفلام تلفزيونية كثيرة، ليس «وحدن» من بينها، وإن تقاسم معها لقمةً من رغيف التوثيق. «وحدن» مهجوس بالاشتغال على الفعل والقول الدرامي الذاهب إلى البعيد. إلى القول في حال لبنان (إقرأ العربي). ما كان عليه قبل خمسين عاماً، وما صار إليه اليوم. سؤال المبدع اللبناني (العربي) وهو يقضم أظافر الانتظار، دون أن يكون على وعد بأي شيء قادم.

الغبار الذي يأكل سيناريوهات جورج نصر؛ من أخذ لبنان إلى مهرجان كان السينمائي في «إلى أين؟» عام 1957، وأدخله جورج سادول تاريخ السينما العالمية. المنفى الاختياري الذي ذهبت إليه صاحبة «لأن الجذور لا تموت» (1980)، المخرجة نبيهة لطفي، التي وجدت في مصر مستقراً. الاحتراق الذي أتى قصداً على أفلام كريستيان غازي، صاحب «مائة يوم لوجه واحد» (1971)، والذي «لم تفهم السينما اللبنانية عليه»، كما سيقول غازي، وكأنها وصيته الأخيرة، أو مرثيته لنفسه، وهو على حافة الرحيل المتحقق خلال «وحدن».

ما يجعل «وحدن» فيلماً متميزاً حقاً ليس الفكرة والتقاطتها ونباهتها فقط. بل الاتساق والتوازن على صعيد البناء والسرد البصري والسمعي، واختيار المخرج فجر يعقوب لأسلوبية لا تبتعد عما عهدناه في أفلامه السابقة، ولكنها تترقّى إلى مستويات جديدة، تشكل مداميك أخرى فيما يبنيه فيلماً بعد آخر، وقصيدة تلو أخرى، ورواية رواية، مع العناية الفائقة بالاختيارات الموسيقية (إينيو موريكوني، شوبرت، بيتهوفن)، والتي تتحول إلى قطبات إبداعية نابضة في نسيج الفيلم، ونابعة من روحه.

يكتب فجر التعليق، ويؤديه بصوته، في مزج ما بين الفصحى والعامية، ويعشّق أحداث الفيلم بتفاصيل وقصص راهنة، تحدث خلال مراحل تصوير الفيلم، مثل حضور صديقته السينمائية والصحافية البلغارية، وما تسعى إليه من قصص الحروب ومآسيها من سوريا إلى بيروت، وتغيّر القيم الثقافي في  هذه الأخيرة. وحكاية تخلّفه عن الموعد مع كريسيتان غازي، ليكون اللقاء التالي وداعاً أبدياً، وجولان المخرج فجر يعقوب خلال تصوير فيلمه «وحدن»، لعل أجملها تلك اللقطة الباهية في الباص، في ظهور شخصي للمخرج، لم يبدُ نشازاً في نسيج الفيلم.

لا يفارق فجر يعقوب، وهو الفلسطيني السوري، موضوعه الفلسطيني. إنه حاضر من خلاله شخصياً، قضيته ومأزقه، وعبر أساه البادي على ملامحه. وكذلك من خلال قصيدة «وحدن» (ألحان زياد رحباني، غناء فيروز)، التي يليق بها بأن تكون نشيد الفدائي المجهول، ولقطات من «مائة وجه ليوم واحد» الذي حاول كريستيان غازي، في وقت مبكر من عمر السينما العربية، صناعة فيلم يمزج ويزاوج ما بين الكفاح المسلح والصراع الطبقي، ولقطات من فيلم «ليس لهم وجود»، فيلمها اللبناني الوحيد الذي رصدته نبيهة لطفي لمخيم تل الزعتر. وحكاية طرد جورج نصر من هيولوود لأجل القضية الفلسطينية، عندما طلُب منه أن يظهرهم «مجرمين» في مشروع فيلمه السينمائي المُقترح هناك، فقال للمنتجة الأميركية: «أنتم المجرمين».

وقبل ذلك ومعه، إثارة سؤال هذا الاهتراء، المُستمر في لبنان (والعالم العربي) منذ قرن. الذي لن تكون القضية الفلسطينية إلا أول ضحاياه.

ألم ينبهنا كريستان غازي منذ اللحظة الأولى في «وحدن» إلى ذلك الاهتراء!؟ ألم يحدثنا طلال حيدر عن العين «اللي كانت ناطرة النصر اللي جايي ع بكرا»… والتي «دمّعت».

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل