المحتوى الرئيسى

عقدة أوديب.. النكسة مسرحيا

06/06 13:59

تحل هذه الأيام الذكرى التاسعة والأربعون للهزيمة الأكثر سوءا والأطول جرحا في حياة عرب القرن العشرين، والتي ما تزال آثارها مستمرة حتى اليوم، إذ لا تزال هناك أراض محتلة، وعرب لاجئون مشردون في المخيمات وأرض الشتات، والأسوأ من كل ذلك أن مسببات الهزيمة الأساسية ما تزال قائمة.

وجد المسرحي المصري علي سالم (1930-2015) في عقدة أوديب ومسرحية "سوفوكليس" الشهيرة ما ينفع في تلمس أسباب هزيمة يونيو/حزيران 1967، وألّف عام 1970 مسرحية بعنوان "كوميديا أوديب.. وانت اللي قتلت الوحش" استقى فيها من أسطورة أوديب صورة رمزية للصراع العربي الإسرائيلي.

في تلك الأيام البعيدة لم يكن علي سالم قد غادر مرحلته اليسارية الرافضة للصهيونية إلى مربع التطبيع معها والدفاع عن السلام مع غزاة طيبة، ولذا أبدع في تشخيصه لحقيقة العدو المتربص، والعيوب التي تسلل منها حتى ضرب ضربته الكبرى. 

لم يلتزم علي سالم بتفاصيل الأسطورة القديمة عن بلدة طيبة القديمة، وعن ابن الملك الذي سيقتل أباه ويتزوج أمه، ويتسبب في كارثة على شعبه وأسرته وعلى نفسه، لكنه اهتم بجزئيتين أولاهما "الوحش" الذي يرمز للعدو وللخطر الذي يتربص بشعب طيبة ويمنع عنها الغذاء، وثانيتهما مدينة طيبة الغارقة في السلبية، فهي أنموذج للوطن العربي الغارق في أوهام الانتصارات والعاجز عن مواجهة تحديات العدو/الوحش.

الوحش في المسرحية ليس هو ذلك الكائن الغريب الذي يتلاعب بالشعب ويقتل رجالات طيبة الذين يعجزون عن حل اللغز الذي يلقيه عليهم، بل هو التحدي الحضاري الذي يستهدف العقول والكفاءات ويستدرجها إلى القتل والمعارك دون استعداد منها، وطالما نبههم الحكيم الأعمى تريزياس: "اللغز دا حجة.. الوحش هدفه واضح جدا... يا أهل طيبة اسمعوا.. الوحش غرضه واضح جدا.

اكل الأذكياء اللي في البلد واحد واحد، وبعدين الأغبياء اللي فاضلين مش ياخذوا وقت، حا يأكلهم بالجملة".

والسلبية اكتشفها المؤلف في عجز الدولة عن مواجهة الخطر الخارجي والارتقاء إلى مستوى التحدي الحضاري، وفي العيوب الذاتية التي يحملها نظام الحكم الفردي المخابراتي، والطبيعة البوليسية للعلاقة بين فئات الشعب والدولة.

كما وجدها في أفراد الشعب الغارقين في اللهو والمرح، المهملين لواجبهم الجماعي في مواجهة الخطر، وركونهم إلى الفرد/البطل الذي يتطوع كل حين وآخر لملاقاة الوحش، ويوهمهم بأنه خلصهم منه قبل أن يكتشفوا أن الوحش ما يزال حيا ويهدد حياتهم.

في المسرحية تتجسد ملامح من الصراع العربي الإسرائيلي، ففي عام 1956 أُوهِمت الأمة أنها انتصرت على "الوحش الإسرائيلي"، وصار "أوديب" الزعيم الملهم للشعب لأنه قتل الوحش نيابة عن الشعب العاجز، وأخلد الناس للدعة والاطمئنان أن هناك من يحميهم، ويقوم بالواجب عنهم.

وتنشغل المدينة في تمجيد الحاكم المنتصر الذي رفعته الدعاية الحكومية إلى السماء، وتكرست عبودية الحاكم، ونُسجت حوله الخرافات؛ فهو من نسل الآلهة كما اكتشف فجأة الكهنة والعلماء ورجال الأمن القومي.

وينسب كل فخر ومجد للملك العظيم، وتسخّر الثقافة والمناهج التعليمية ورسائل الدكتوراه والعلوم والفنون والأغاني والمسرحيات والإعلام؛ لتمجيد الحاكم البطل الذي قتل الوحش.

ومع كل ذلك فإن أجهزة المخابرات -وتحت شعارات الديمقراطية وحرية الرأي لكل المعارضين- تكتم على أنفاس المواطنين، وتحصي عليهم أنفاسهم، وتلاحق كل من يشكك في عظمة أوديب الملك سليل الآلهة، أو يشكك في إنجازاته، أو في أنه قتل الوحش وانتصر عليه، أو حتى يطلب معرفة اللغز الذي قيل إن أوديب نجح في حله فقتل الوحش.

وفي الأخير يفيق الشعب على كارثة متجددة، فالوحش ما يزال حيا، ويطالب الشعب أوديب بالتصدي له، لكن الأجهزة الأمنية تعترض خوفا على حياة الفرعون سليل الآلهة، فيخرج الشعب بارتجالية لمواجهة الوحش، فينهزمون شرّ هزيمة. وفي حوار أوديب مع رئيس الحرس عن سبب الهزيمة تبدو المشكلة والحل:

"    - مفيش حد يعرف. حاجة واحدة بس اعرفها: اتهزمنا، أبو الهول هزم شعب طيبة، ما قدرناش نقف قدامه، ماكناش عارفين بالضبط بنحارب مين أو بنحارب إيه! في طاعون اصاب شعب طيبة، مرض غريب، الإنسان هنا فيه حاجة غلط، والمسؤول عن الغرض ده هو بالضرورة المسؤول عن صنع الإنسان هنا!

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل