المحتوى الرئيسى

رحيل شاهندة مقلد.. المناضلة «أم عيون جناين»

06/04 00:46

إيش حال الصحبة معاكِ يَنوّار البساتين»

بهذه الأبيات، خص الشاعر الراحل احمد فؤاد نجم بالذكر المناضلة شاهندة مقلد، في قصيدته الشهيرة «رسالة الى سجينات حبس القناطر» في العام 1981.

لم تكن تلك المرة الاولى التي تدفع فيها شاهندة مقلد حريتها ثمناً لمواقفها النضالية،

ولكن أيام السجن الطويلة في عهد انور السادات، لم تكن تساوي شيئاً قياساً الى الأثمان الكبرى التي دفعتها في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، حين اغتيل زوجها صلاح حسين على ايدي احد كبار الملاك في قرية كمشيش في المنوفية، او في عهد «الاخوان المسلمين»، حين تعمّد احد غوغائيي الجماعة إهانتها، بأن حاول تكميم فمها أمام قصر الاتحادية، لمنعها من اكمال هتافها: «احنا المصريين.. مش انتم».

بالأمس، طوت شاهندة مقلد صفحة مضيئة في تاريخ الحركة الوطنية في مصر، برحيلها الهادئ عن عالمنا، بعيداً عن الصخب الذي رافق مسيرة تلك المرأة الهادئة والحادة في آن واحد، فاحتضنها تراب كمشيش، حيث بدأت الحكاية.

ابنة عائلة مقلد، التي اختار لها والداها اسماً تركياً يوحي بانتماء طبقي ارستقراطي (شاهندة = سيدة الدار)، كانت مناضلة بالفطرة، تأسست على كتب الاشتراكية والماركسية، وامتلكت شجاعة طبقية تجسدت في تخليها عن حياة الرخاء، بصفتها «ابنة البيه المأمور» عبد الحميد مقلد وحفيدة عمدة كمشيش الشيخ علي مقلد والبكباشي محمد خالد، وانحيازها الى فقراء الريف المصري، وشجاعة نسوية تجسدت في قرارها الجريء طلب الطلاق من الضابط الشاب الذي اجبرها اهلها على الزواج به، لترتبط بابن خالتها صلاح حسين، المناضل اليساري، الذي كتب لها رسالة يصف فيها زواجهما قائلاً إن «الحب المنتصر غسل كل شوائب الرجعية». نقطة التحوّل الكبرى في مسيرة شاهندة مقلد كانت يوم اغتيل صلاح حسين في الثلاثين من نيسان العام 1966.

تصف شاهندة الواقعة، في مذكراتها التي صدرت بعد «ثورة 25 يناير»، على النحو التالي: «بعد ستة أسابيع من ولادة بسمة، وفي صباح يوم شم النسيم انطلق صلاح إلى القاهرة ليلتقي بممثلي فلاحي كمشيش في مبنى الاتحاد الاشتراكي، وصاغ معهم بياناً موجهاً إلى عبد الناصر يناشدونه الدعم لإقامة مستشفى محليّ ومركز ثقافي في منزل صلاح الفقي (احد كبار الملاك في كمشيش)، لأنّ المنزل سيكون خالياً بعدما شيّد صاحبه منزلاً جديداً له خارج كمشيش».

هذه العريضة، وبحسب ما تروي شاهندة، «تناولت تفاصيل أكثر مما كان مقرراً لها، لأن ما كتبه صلاح لم يقتصر على الجانب المطلبي، بل تعداه الى كشف فساد الجهاز الحكومي».

وتتابع: «اتصل بي صلاح بعدما فرغ من العريضة، وقال إنه سيصل إلى الدار مساءً. لكنه سيمرّ في كمشيش قبل ذلك ليبلغ الفلاحين بتفاصيل المركز الثقافي».

لم يعد صلاح حسين الى المنزل، فقد اصابه عيار ناري، اطلقه قاتل مأجور، يعمل لحساب عائلة الفقي، التي تنصلت من الجريمة، قائلة إن ما جرى ناجم عن شجار فردي، وهو ما ينفيه قول الرئيس جمال عبد الناصر في عيد العمال (1967) بأن اغتيال صلاح حسين كان «دليلاً مؤلماً على عدم تقدير الحكومة للخطر الذي يمثله أعداء الثورة».

بوفاة صلاح حسين قررت شاهندة مقلد استكمال المسيرة، وكان اول التحديات التي واجهتها الاعتراضات الأمنية على دفن زوجها في كمشيش، لكنها أصرّت وشاركت في حمل النعش، وهي تهتف: «صلاح فداكم يا ثوار.. واحنا نكمل المشوار»، لتتوالى بعد ذلك الحملات الامنية ضد فلاحي القرية، والتضييقات السياسية على إحياء ذكرى شهيدها.

اهم المحطات الرمزية في مسيرة شاهندة مقلد كانت في العام 1967، حين شاءت الصدفة ان تلتقي بأرنستو تشي غيفارا. يومها كان الرئيس جمال عبد الناصر يرافق الثائر الأممي الى منزل انور السادات في قرية ميت أبو الكوم، وكان على الموكب أن يمّر في كمشيش، فكان ان جمعت شاهندة فلاحي القرية عند احد الجسور، ورفعوا لافتة كتب عليها: «نحن معزولون عنك منذ سنوات يا جمال عبد الناصر... وممنوعون من الكلام معك... ونحن نمثل هنا قريةً ثورية ونقف إلى جانبك». وعندما توقفت سيارة عبد الناصر عند الجسر، اقتربت منه، وصافحته وضيفه، وسلمت الرئيس رسالة من الفلاحين، ثم خاطبت غيفارا بالقول: «نحن فلاحو قرية كمشيش الثورية»، فوقف «تشي» ورفع قبضته تحيةً لها، فأطلق الفلاحون عاصفة من الهتافات والتصفيق من دون أن يعرفوا هوية الضيف الثوري.

وطوال تلك الفترة، تحوّلت كمشيش الى قبلة الصحافيين والمفكرين، وكان من بينهم الفيلسوف جان بول سارتر الذي اتى الى القرية، برفقة المفكرة سيمون دي بوفوار، بعدما قرأ تحقيقاً على صفحة كاملة نشره الصحافي البارز اريك رولو في «لو موند».

ومع وصول انور السادات الى الحكم، ووقوفه المباشر إلى جانب الإقطاع وأسرة الفقي، بحكم القرابة، تعرّضت شاهندة مقلد للاعتقال في حزيران العام 1971، على اثر حملة امنية في كمشيش، وتقرر لاحقاً الافراج عنها، وإبعادها من قريتها في محاولة لحرمانها من خوض انتخابات الاتحاد الاشتراكي.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل