المحتوى الرئيسى

من الديكتاتور إلى الخليفة

06/03 00:16

تتفاوت الروايات السياسية العربية، بيد أن رواية أميركا اللاتينية أفرزت روايات كثيرة عن الديكتاتور كرواية حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر» ورواية «عشاء المأتم» لفاضل الربيعي.

سردت روايات عربية شتى أنساقاً متفاوتة من ممارسات الاستبداد الأقصى في منطقتنا العربية، وانتاب التفاوت منحى المساحة النصّية التي شغلت حيّزاً ضئيلاً في بعض الروايات، وامتدت المساحة في روايات أخرى إلى حد الاشتمال والاستغراق. وانتاب التفاوت منحى القيمة الفنية المتراوحة بين نصوص سطحية مباشرة، يمكن وسمها بأنها نصوص غير فنّية، أو نصوص غير قابلة للقراءة، ونصوص فنية متألّقة استطاع شكلها الفني المفارق إنتاجَ فروق في المعنى المرصود عبر مَورانه المتأبّي على الإدراج في البرامج السياسية لهذه الجهة أو تلك، والمتأبّي أيضاً على الضبّ والتعليب في حزمة الشعارات السياسية الرائجة.

ما يبرز في التعاطي مع النصوص التي تسرد ممارسات الاستبداد قوّةُ الإحالة على الواقع، ونهوضه مرجعاً غيرَ نصّي، يمنح النص قيمة من خارجه، أو يسلبه بعض قيمته، عبر قنوات مستعملة للربط بين النص وخارجه. ولذلك يقتضي تناولُ النصوص إسقاط إحالاتها على الواقع، وإسقاط الواقع نفسه من حسبان القيمة الفنية، مهما بدت وشائج اتصال النص بخارجه متينة، وقوية.

لقد كانت ترجمة «خريف البطريرك» لـ «ماركيز» عام 1981 عاملاً نصّياً في نشوء روايات عربية، سردت الحاكم العربي المستبد بأنماطه المتعيّنة على أرض الواقع السياسي. وكانت رواية حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر» في طليعة الروايات العربية التي سردت هذا النمط السياسي الماثل في مختلف ثنايا النص، وخصوصاً الفصل المسمى «ظهور اللوياثان» الذي اتخذ تسمية عربية دالّة: «عُبيد بن أبي ضبيعة الكلبي» بوصفها تسمية دالّة على ما تحيل عليه من حيوانات كريهة متوحّشة كانت مدخلاً، ومرجعية نصية لإنشاء عدد مفتوح من النصوص اللاحقة التي سردت الحاكم المستبدّ بأشكال فنية قصر معظمها عما سرده حيدر حيدر في «الوليمة» التي اتكّأتْ جزئيّاً على أرضية نصية أخرى، مستقاة من «موبي ديك» وقد عمد حيدر إلى ذكر مصدر المقبوس في صدر الرواية، فأتى ذِكر المصدر بمنزلة الإقرار الذكي الذاهب إلى أن لفظة «اللوياثان» مقتبسة من الرواية الأميركية، فاللوياثان هو الكائن المتوحّش الأضخم، والأكثر شراهة في التهام الضحايا.

تراتبت صفات التوحّش التي تسم المستبدّ تراتباً تنازلياً في سياق محاولة التعيين الواقعي لكثير من الأنماط السياسية التي تسنّمت حكم المنطقة، بدءاً من اللوياثان في عنوان النسق النصّي، مروراً بالضبع بصفتها المحلية التي تبرز الغدر والرائحة الكريهة في شتى الحكايات المحلية السورية التي تسرد الضباع ملتهمة الفطائس، وصولاً إلى الكلب بدناءته، وذلّه أمام مالكيه، وشراسته الفظيعة ضد الآخرين.

ومن هذا المنطلق النصي العربي المسبوق بمنطلقات نصية أخرى غير عربية ـ غالباً ـ نبتت صورة الحاكم الذي سعت الروايات اللاحقة إلى سلبه صفاته البشرية، وحصرتْه في أصوله المتوحّشة التي تطمس سواها، بفعل عدد من العوامل المؤاتية لاستنبات صفات التوحّش وجعلها عوامل طاغية مسيطرة. ففي «عشاء المأتم» للعراقي فاضل الربيعي، يقترح المؤلف تفسيراً سياسياً/ اجتماعياً لظهور مستبد الرواية، حين يُرجع الظهور إلى تحالف بين شرائح بدويّة وفلاحية تسلقّت قمة الترتيب الهرمي للجيش. بينما تكتفي «امرأة القارورة» للعراقي سليم مطر بسرد بعض الوقائع الدالة على صفات ذلك الحاكم: «كانت فِرق الإعدام رمياً بالرصاص تأخذ من أهل المقتول إعداماً ثمن الرصاصات التي قتلت ابنهم مقابل إيصال رسمي (موقع ومختوم) حسب الأصول».

إن معظم الروايات العربية المعنيّة بالإضاءة جعلت الحاكم المستبد منتمياً إلى المؤسسة العسكرية، والواضح في هذه النصوص تأثرُها بالرواية الأميركية اللاتينية التي سردت جنرالات القارّة بوصفهم تجسيداً للطغيان بشكليه الغبي والخبيث. وساند الروائيون العرب في تبيئة الجنرال/الديكتاتور وقوعُ معظم الدول العربية تحت حكم الجنرالات بغض النظر عن الفروق الموضوعية بين جنرال وآخر. ولذلك كانت رواية هاني الراهب «رسمت خطاً في الرمال» هي الأكثر أصالة، لأنها تجاوزتْ سرْدَ النمط العسكري الذي سقط في التهافت النصي العربي، لتسرد نمط «الخليفة» بوصفه مُنتجاً عربياً، وبوصفه الأشدّ استبداداً من مختلف المستبدّين الذين عرفتهم البشرية. فالخليفة يرفض أن يكون مجرّد ملك مطلق الصلاحية، ويصرّ على لقب الخليفة الذي يمكّنه من الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية، السلطة على الأرض، والسلطة على أبواب السماء، ويمكّنه هذا اللقب أيضاً من السيطرة على الماضي والمستقبل، فاللقب منفتح باتجاه الماضي الذي انحدرت منه التسمية، ويمكّنه اللقب المتمتّع بقداسة معهودة عربياً وإسلامياً من السيطرة على المستقبل، ولا تحتاج المسألة إلى تدبّر وتفكير عميق، فنحن الآن محكومون بقداسة خلفاء مضوا باسطين سلطانهم على مستقبلهم الذي يشمل عصرنا ويتجاوزه.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل