المحتوى الرئيسى

..وبدأت المعركة الأخيرة فى الانتخابات الأمريكية

06/02 22:10

يخوض الأمريكيون كل أربع سنوات أطول وأكثر الانتخابات تكلفة على مستوى العالم، حيث يصل ما يتم إنفاقه على المرشح الذى يحظى بالرئاسة فى النهاية ما يفوق بليون دولار. غير أنه بالإضافة إلى ارتفاع التكاليف والتعقيدات المعتادة لهذه الانتخابات بصفة عامة، فإنه من المنتظر أن يكون سباق البيت الأبيض بين كلينتون وترامب هذا العام متدنيا من حيث تبادل الاتهامات الفاضحة وفتح الملفات المشينة مقارنة بأية انتخابات سابقة. فأيهما لن يتراجع عن اللجوء إلى أى وسيلة شرعية كانت أم غير شرعية لتصويب ضربات تحت الحزام لغريمه اتساقا مع المذهب الميكيافيللى المعروف أن الغاية تبرر الوسيلة، متجاهلين أخلاقيات الانتخابات، مما قد يظهر كلاهما بمنظر غير لائق للرئاسة.

وتعتبر انتخابات هذا العام ثورة بمعنى الكلمة، وحتى لا يختلط الأمر على القارئ بالنسبة لهذا التعبير، فإننى أسارع بالتوضيح أن الثورة الأمريكية ليست مطلقة وليست فوضوية ولكن فى إطار ما يُعرف بالضوابط والتوازنات التى تحكم النظام الأمريكى ككل وفى ظل قواعد القانون التى يحتكم إليها الجميع. فالشعب الأمريكى من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ثار على المؤسسة الحزبية وعبّر عن رفضه لها، ورفض استمرار استغلال أصحاب الجاه والمال تيسير الانتخابات بالشكل الذى يخدم مصالحهم الشخصية ووصولا إلى مزيد من النفوذ والسيطرة. وخرج الشعب للإعلان عن ثورته وفضح المؤسسة السياسية فى واشنطن. وفى هذا السياق، كان كل من ترامب المرشح الجمهورى وبرنى ساندرز الاشتراكى أكثر يقظة من غيرهم وأيقنا من أين يؤكل الكتف، فأثارا الحماس فى نفوس الشعب الأمريكى الذى استجاب لهما لما شعر به من ظلم ارتكب فى حقه طوال العقود الماضية.

وثار الاثنان، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، على امبراطورية السوق ورفضا ما يمثله الحزبان من استغلال وسلطة. وكان أول من لفظه الشعب هو جيب بوش، المرشح الرئيسى للحزب الجمهورى، وهو الابن والأخ لرئيسين سابقين، واستبقى الناخب الجمهورى البليونير الأمريكى من خارج مؤسسة الحزب. ويسود ذات المنطق فى كواليس الحزب الديمقراطى، حيث تواجه كلينتون هى الأخرى، مرشحة الحزب، مشاكل من منافسها برنى ساندرز، الذى يرفض التسليم. وقام ساندرز بجمع الأموال من رجل الشارع البسيط ومن خلال تبرعات من فئة العشرين دولارا للفرد، بما يؤكد ترابطه مع فئات الشعب المختلفة. على عكس ما قامت به كلينتون التى لجأت إلى أصحاب الجاه والمال وكبار السياسيين لجمع التبرعات لحملتها.

ويتعين علينا هنا أن ننبّه إلى التغييرات المرئية وغير المرئية التى تحدث فى الولايات المتحدة والتى سيكون لها أعظم الأثر على مستقبلها بل ومستقبل النظام العالمى ككل، حيث تشير الإحصائيات الأخيرة لزيادة السكان فى الولايات المتحدة إلى تغيير جذرى فى التركيبة السكانية على حساب العرق الأبيض، الذى سيشهد تراجعا فى تعداده خلال الفترة من العشر إلى العشرين سنة القادمة. وستصبح الولايات المتحدة دولة «أغلبية الأقليات»، بما سيتبعه من تغيير فى الفكر والاهتمامات والسياسات الأمريكية. ومع ذلك فمن الواضح أن التغيير فى المؤسسات أبطأ من التغير على أرض الواقع، فما زال العرق الأبيض يسيطر ويستأثر بالسلطة وينفرد بالثروة ويغتنم الفرص دون غيره من الأعراق، بما يدفع إلى عدم توازن المجتمع الأمريكى والتوزيع غير العادل للثروات بين المجموعات العرقية. والسؤال الأساسى الذى يطرح نفسه اليوم هو عمّا إذا كانت الولايات المتحدة على استعداد إلى احتضان واقع التنوع الأمريكى لبناء مجتمع أكثر شمولا واندماجا. ومن الظاهر أن الولايات المتحدة على غير استعداد بعد لاحتضان واقعها الجديد.

ومع ذلك، فإننا نشهد تزايد عدد المنظمات غير الحكومية والحركات الثورية أمثلة «حركة ساندرز» و «حركة حقوق المهاجرين» و«حركة حياة السود تهمنا» و«حركة الحقوق المدنية للسود» و«حركة احتلال وول ستريت» وغيرها، التى ترفض استمرار الاستغلال والمتاجرة فى حقوق الأقليات، وبدأت هذه الحركات فى ممارسة بعض الضغوط ــ وإن كانت على استحياء ــ لإحداث التغيير. وقد لا تأتى انتخابات هذا العام بجديد، ولكن الثورة بدأت حتما من جانب هذه الحركات ولن تنتظر طويلا حتى تأتى بثمارها. فإن هذه التجمعات والحركات السياسية تسعى إلى تغيير وجه المجتمع الأمريكى ويرتفع صوتها فى المطالبة بحقوق الأقليات وبناء مجتمع أمريكى أكثر شمولا وعدالة والكف عن تقسيم المجتمع الأمريكى وفقا للعرق والهوية الأمريكية. فإن عاجلا أم آجلا على الساسة فى واشنطن أن يستجيبوا إلى مطالب الأقليات. ومن الأهمية بمكان أن يصبح الخطاب السياسى خطابا عاما موجها إلى جميع الأعراق لا تفرقة بين العرق الأبيض والأسود أو المهاجرين اللاتينيين والآسيويين.

وعلى نحو ما قام به الناخب الأمريكى من ثورة على المؤسسة الحزبية، فإن تصريحات ترامب لا تقل ثورية، ضاربا عرض الحائط بجميع تقاليد الحزب الجمهورى وسياساته الداخلية وتوجهاته الخارجية. ويعد ترامب باستعادة «السلام العالمى» وإرساء الاستقرار بدلا من المحاولات اليائسة لبناء الدول على شاكلة الديمقراطيات الغربية، والقضاء على الدولة الإسلامية، واحتواء «الإسلام الراديكالى». وفى الوقت نفسه، يطالب بالانسحاب من منظمة حلف شمال الأطلسى، إذا ما لم يلتزم الحلفاء بالمشاركة فى التكاليف، وتوجيه الانتقاد اللاذع لإدارة بوش الابن والمحافظين الجدد وكذا إدارة أوباما لخوض حرب العراق، والهجوم على ليبيا، والتقاعس فى سوريا، معتبرا ذلك كله بمثابة «كوارث» فى السياسة الخارجية فى حق الولايات المتحدة.

ويبدو أن العرق الأبيض سئم ضعف الإدارة الحالية واستسلام أوباما للتطرف الإسلامى، على نحو ما يزعمون. ويصور ترامب نفسه أنه «رامبو» الرجل الأمريكى الخارق الذى لا يضاهيه أحد فى قوته، وسوف تعمل هذه الشخصية الفذة على حماية حدود الولايات المتحدة من الغزاة المكسيكيين وسوف يعمل على استرجاع الوظائف التى فقدتها بلاده إثر اتفاقيات تجارية غير متوازنة واستعادة القوة الأمريكية وجعل الولايات المتحدة عظيمة من جديد. ويقدم ترامب رسالة متطرفة فى كراهية الأجانب وإعادة السيادة المنفردة للولايات المتحدة.

بيد أنه علينا التنبيه بأن ما يخططه ترامب بالنسبة لسياسته الخارجية لن يذهب به بعيدا، فإن ترامب عاجز عن إلزام حلفائه الأوروبيين بالمساهمة ماليا فى الحلف الأطلنطى، حيث إن الدول الأوروبية تدرك اليوم أن استمرار الحلف الأطلنطى ليس إلاّ لخدمة الإمبراطورية الأمريكية فى الأساس. كما أن ترامب عاجز عن زيادة عدد القوات أو إدخال أنظمة الأسلحة الجديدة لمحاربة الدولة الإسلامية فى ضوء عدم توفر الموارد المالية اللازمة وتفاقم عجز الميزانية والدين الأمريكى.

والتناقض كبير فى الانتخابات الأمريكية هذا العام. فبينما تقدم كلينتون نفسها على أنها تمثل الاستمرارية فى السياسة الأمريكية، وإن تميل أكثر يسارا فى محاولة مستميتة لاستمالة ناخبى ساندرز، فإن ترامب يقدم نفسه ــ على النقيض من ذلك ــ أنه سوف يعيد للولايات المتحدة مجدها السابق بعد أن سلبها إياه أوباما وإدارته المترددة. فإن كلينتون تبنى سياستها على الاندماج وليس الانعزالية، فهى ترى أن التحديات التى يواجهها العالم اليوم تتطلب التدخل والقيادة الأمريكية. ويرى مؤيدو هيلارى أن سياستها تختلف عن تلك التى تنتهجها إدارة أوباما على اعتبار أنها تميل أكثر إلى التدخل المنفرد دون استجداء توافق شركاء الولايات المتحدة. فكلينتون على استعداد لمواجهة العدوان الروسى فى أوكرانيا وإيفاد قوات وأسلحة لتعزيز القوات الأوكرانيّة، والعمل على قلب نظام حكم الأسد وإنشاء منطقة حظر للطيران، والتصدى للدولة الإسلامية عسكريا، ومنع روسيا من بسط نفوذها فى الشرق الأوسط من جديد عن طريق الأزمة السورية. وترى كلينتون أن إدارة أوباما قامت بتبديد كل هذه الفرص مما أدى إلى استفحال الوضع فى المنطقة. ففى ذلك كله هى أقرب من ترامب إلى أوباما. ويبقى الأمر متوقفا على من هو الأقدر على إقناع الشعب الأمريكى بتوجهاته فى نظام يقوم على الضوابط الحازمة والتوازنات.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل