المحتوى الرئيسى

حيوةٌ أخرى (قصة قصيرة) | المصري اليوم

06/01 01:37

اليوم عيد ميلادى، والحمد لله طلعت الشمس فى موعدها. وسوف يكون اليوم حارّاً لأنه فى منتصف الصيف، ومغبّراً لأن الهضبة القريبة من منزلى لا تكف فى النهارعن نفخ التراب فوق أسطح البيوت القاهرية، المتناثرة تحتها بغير نظام ولا تخطيط. سألتُ أبى أيام شبابى عن السبب فى أن شوارعنا كلها مائلة المسار، والبيوت متكومة كأن مكنسة جمعتها معاً بغير نظام ولا تخطيط، فقال بلسان الأصالة إن هذا من النعم الكبرى، لأنه يجعل الناس قريبة من بعضها البعض، ثم سكت لحظة وأضاف بعد تأمُّلٍ عميقٍ: وعلشان الناس تتعّظ يا بنى، وتعرف إن الفوضى هى الأصل.. الذى يحيّرنى جداً منذ صحوتُ من نومى، أن اليوم «جمعة» مع أن أمى المرحومة أخبرتنى فى طفولتى عدّة مرات، بأنها ولدتنى يوم «ثلاثاء»، فما الذى جاء بالثلاثاء إلى الجمعة! هذا فعلاً، هو العجب العجاب.

لا أذكرُ فى أى يوم من أيام الأسبوع كانت تأتى أعياد ميلادى السابقة، لأننى لم أكن أنتبه إليها أو أحتفل بها. لكننى اليوم منتبهٌ وسوف أحتفل، لأننى بلغت الخامسة والأربعين وقد أوصانى المرحوم أبى وأكّد عليَّ، أن أترقّب بلوغى هذه السنّ وأحتفل بهذا اليوم حين يأتى.. سألته عن سبب ذلك فقال بحكمة السبعة آلاف سنة، إن الأربعين هى سنُّ النضج والاكتمال التام والنبوة! سألته عن علاقتنا نحن بالنبوة، فأجابنى بأننا الأتباع. وسألته عن سبب تأخير الاحتفال بعيد ميلادى إلى الخامسة والأربعين، ما دامت السنُّ الحاسمة هى الأربعين، فأجابنى بأننا يجب أن نتأخّر خمس سنوات بعدها، لأننا: ناس غلابة.. وسألته عن شكل الاحتفال بهذا اليوم حين يجىء، فأجابنى بما معناه أننى يجب أن أفعل يومها كل ما أريده وأتمناه، ولا أحرم نفسى من أى شىء. لهذا كنت منذ عدة سنوات أترقّب مجىء هذا اليوم، لأذهب إلى ساحة سيدنا الحسين وأنعم بوجبة لحمٍ مشوىٍّ بأحد المطاعم التى هناك، وهذا ما سوف أفعله ظهر اليوم.

فعلاً، أجمل ما فى الحياة هو تحقيق الأمنيات.

طبعاً، سوف يستغرب الناسُ هنا أن دكان البقالة سيكون اليوم مغلقاً على غير العادة، وطبعاً لن أخبرهم بالسبب لأننى أحب أن يبقوا فى الوهم الذى يعيشون فيه، فهم يظنون أن الدكان لم ينغلق منذ ورثه جدى عن أبيه فى بداية الخمسينيات، ثم ورثه عنه أبى، ثم أورثنى إياه. هم لن يتذكروا أن جدى أغلق الدكان يوم بلوغه الخامسة والأربعين، وذهب لزيارة قريته المطمورة بنواحى «أبوالمطامير». وأن أبى فعل الشىء نفسه حين جاء يومه، فحقَّق أمنية عمره وجلس طيلة اليوم على النيل يأكل مع أمى الذرة المشوى على الفحم.. لم يتغيّر شىء، لكن الناس تنسى فتظن أن الأمور تتغيّر، وهى الثابتة على المنوال ذاته.

طبعاً هناك تغيير واختلاف فى الظواهر، لكن الأشياء فى الحقيقة لا يمكن أن تتغيّر. فمن هذه الظواهر السطحية، مثلاً، الأسماء.. هذا الحى الذى نسكن فيه ولا نفكّر فى الرحيل عنه، نسميه الآن «مصر القديمة» وكان اسمه من قبل «مصر عتيقة» وكان اسمه قبل القبل «الفسطاط». أسماؤه تغيّرت، لكن حالته واحدة على الرغم من مرور الزمان وتغيير الأسماء. وهناك مثالٌ آخر: الناس هنا تنادينى «عم جودة» وكانوا ينادون أبى «الحاج جودت» والذين من قبلهم كانوا ينادون جدى «أبوجودت» مع أن اسمى الصحيح واسم أبى وجدى، هو اسمٌ واحد لم يتغيّر: عبدالموجود.. ولم تتغيّر طبيعتنا، فمادام الموجود موجوداً فنحن عبيده.

كنتُ فى شبابى قاصراً عن إدراك أسرار هذه الحكمة، فسألتُ أبى عن السبب فى أن أبيه اختار له اسمه، فقال إن هذا كان بتوفيق من الله. وسألته إن كان قد خطر بباله أن يسمينى اسماً آخر، غير اسمه هو واسم أبيه، فقال: استغفر الله.. الله يرحمه رحمة واسعة هو وأمى، ويرحم جدى رحمة واسعة هو وجدتى، ويرحمنى حين أموت وحدى. لابد أن أدعو لنفسى لأننى للأسف لم أنجب ولداً يشبهنى، ويرث من بعدى هذه الشقة الحقيرة ودكان البقالة الذى تحتها، وحين يكبر ويفهم يتذكّرنى ويدعو لى بالرحمة.. نعم، كان يجب لهذا السبب أن أُنجب، لكن الأمر لم يكن بيدى. منّك لله يا نوسة.

هل يجب أن أتزوّج بعدما بلغت هذه السنِّ، فأعوّض ما فاتنى؟ منك لله يا عزيزة.. أنتِ التى تسبَّبتِ فى عقدتى تجاه الزواج والنساء! فقد لجأتُ إليك تحت وطأة إلحاح أمى، بعد طلاقى بفترة، وطلبتُ يدك للزواج يوم جئتِ ساعة العصر لشراء ربع كيلو الجُبن البراميلى، فقلتِ ساخرة:

- يعنى عاوز إيدى، بس؟

- لأ طبعاً، عاوز كل حاجة فيكِ. إنتِ فاهمة وأنا فاهم.

- طب هات الجبنة، وخلّص.

- يا شيخ أنا ناقصة عفانة.

طيب يعنى يا عزيزة، الله يصبّحك بالغمّ. أنا طلبتك للزواج بأدب، وكان يمكنك أن ترفضى طلبى بأدب ولا داعى لإظهار معدنك. خصوصاً أننى، والله على ما أقول شهيد، لم أكن أيامها أعرف قصة غرامك مع فتحى سواق «البوكس» الذى لعب بك سنوات وسنوات، حتى صرت اليوم عانساً لن يطلب أحد يدها. حتى الكلاب لن تطلب قدمك لتعضَّها.

لكن مأساتى الكبرى كانت طبعاً مع طليقتى «نوسة» التى كنا فى المدرسة الابتدائية غير المسوّرة نناديها باسمها الرسمى: سعدية. أحببتها منذ أيام المدرسة، ولما تركناها فى السنة نفسها لأجلس فى الدكان مع أبى لأتعلّم البيع، وتجلس هى فى البيت مع أمها لتنتظر أى عريس. لم أتوقّف عن التعبير لها عن حُبى، وكنتُ أُذيقها قطعةً من الجبن الرومى كلما جاءت لتشترى من الدكان شيئاً. ما كانت تشترى إلا الأرز السائب وقطعة الجبن القديم الغارق فى «المِش»، يعنى لم تكن زبونة مهمة.. لكن الحب كان يصنع أيامها المعجزات.

أذقتها مرة ثلاث مراتٍ متتالية، ثلاث حبّاتٍ من الزيتون التفاحى الذى لم أعد أبيعه منذ زمن، لندرة الطلب عليه بسبب غلوّ ثمنه. يومها انبهرتْ بطعمه ونظرتْ إلىَّ بطرف عينيها نظرةً لا تُنسى، فظننتُ أنها صارت تحبنى. لم أكن أعلم أيامها، والله على ما أقول شهيد، أنها متعلّقة من عرقوبها بالضابط الذى تذهب كل يومين لتنظيف منزله.. يوم غازلتها بالزيتون فاستجابت، سارعت بإظهار أننى جادٌّ فى العلاقة، وبعيداً عن أنظار أبى ومسامعه حكيتُ لأمى ما جرى بالتفصيل، دون أن أُخفى عنها أى شىء. اعترفتُ لها بما قدّمته لحبيبتى وحكيت كيف نظرتْ نحوى بعدما أكلت الزيتون، فاستمعت أمى لكلامى باهتمامٍ عميق، ثم ظهرت على وجهها ملامح الألم وامتلأت عيناها بالدموع، لكنها لم تسكبها. وبعد لحظة من التأمُّل العميق، تقليداً لأبى، تكلمتْ ببطء فقالت: حيث كده يا عبدالموجود يبقى لازم تتجوِّزها، بنات الناس يابنى مُش لعبة.

أبوها «سويلم السبَّاك» وافق على الزواج من فوره، وأخذته نوبةٌ من الضحك ثم قال: خير البر عاجله.. بعد الزواج بساعتين أخبرتنى «نوسة» بأن أبيها تسرّع كعادته وهى لم تكن موافقة، فقلت لها ما كانت تقوله أمى دائماً: قدّر الله وما شاء فعل.. مطّت شفتيها وقالت قبل أن تشدَّ فوقها اللحاف الشتوى الجديد: مفيش فايدة.

عشتُ معها أربع سنوات سوداء اللون مالحة الطعم، يوم الدخول بها فوجئت قبل نومها بأنها ليست بتولاً، فتسرّعتُ وأعربتُ لها عن استغرابى من هذا، فقالت: انت شكلك كده موضة قديمة، ومُش فاهم أى حاجة!.. قلت فى نفسى: ربما تكون محقة، وفوق كل ذى علمٍ عليم. ولم أعد من بعد ذلك للكلام فى هذا الموضوع، حتى لا تعتقد زوجتى أننى غير فاهمٍ، وعنيد.

وبعد يومين من زواجنا، أصرَّت على الذهاب لتنظيف بيت الضابط. احترتُ فى الأمر فسألتُ أبى، فرفض ذهابها قائلاً: خلّيها تنضّف بيتنا الأول.. ازدادت حيرتى فسألت أمى، فرفضت قائلةً: لما تبقى تنضّف نفسها الأول.. وسألتها أن تصرف نظرها عن الذهاب إلى حيث لا نريد، فرفضت، وأضافت فى آخر كلامها الكثير: شوف بأه، قُدامك حل من اتنين مالهمش تالت، تسيبنى أروح أو تطلقنى.

طبعاً، كان لا يمكن أن أطلّقها بعد زواجنا بيومين، لأن ذلك قد يؤثر على سمعتها بين جيراننا وأشقائنا الأشقياء الذين يكرهنا معظمهم، فوافقتُ على ذهابها.. كانت تعود منهكة وراضية، ولما سألتها عن سبب حرصها على الذهاب إلى هناك مع أنها لا تحصل على أى أجر، مطّت شفتيها وهى تقول: إيه الفلوس والكلام الفاضى ده، عموماً دى حاجة عمرك ما هاتقدر تفهمها أبداً!.. استغربت كلامها وشعرت بأن فى الأمر سراً، فسألتها بلطف:

- و ليه بأه، مُش هاقدر أفهم؟

- علشان انت غبى، عادى يعنى.

- طيب يا نوسه، اكسبى فىَّ ثواب انتِ، وفهّمينى.

- يابنى أنا لازم أروح أخدمه، أصل دى ثوابت. جدتى كانت بتخدم البيه جده، وأمى كانت بتخدم البيه أبوه، يبقى أنا بالعقل كده لازم أعمل إيه؟

ومضت الأيام بحمد الله كالمعتاد، وبعد أن مات أبى ولحقت به أمى فى العام التالى، أخبرتنى «نوسة» بأنها تريد الطلاق! رددتُ عليها بالعبارة المعتادة، المشهورة، فاندهشتْ لحظةً ثم استعادتْ عقلها الذى ذهب حيناً، وقالت بحنق: يعنى إيه أبغض الحلال عند الله، أمّال الناس دى اللى عمّاله تتطلّق كل يوم، كل دول مُش عارفين إنه أبغض الحلال! دول بالصلا على النبى كده بيتطلّقوا أكتر ما بيتجوّزوا..

رجوتها أن تصبر حتى نُرزق بولدٍ يحمل اسمى ويرثنى من بعدى، فصرخت فيَّ قائلةً: إحنا لوقعدنا كده ألف سنة، عمرنا ما هانخلّف أبداً!.. لم أستطع إقناعها فوعدتها بالطلاق الهادئ، إذا أخبرتنى بالسبب الحقيقى الذى يدعوها لهدم أسرتنا التى تعيش كالمعتاد فى سلام وأمن. وقد قدّرتُ صراحتها، وشعرتُ فعلاً بالفخر بها حين أخبرتنى بكل وضوح، بأن الضابط الذى تخدمه حصل مؤخّراً على ترقية، وسوف ينتقل للعمل بعيداً عن القاهرة وقد يبقى فترة، وطبعاً ليس من السهل فى هذا الزمان الردىء أن يجد امرأةً مخلصة مثلها تخدمه، وتُعد له كل يوم «السَّلَطة» التى يحبها، وتلبى احتياجه الجارف للتسلُّط.. فاقتنعتُ، وطلقتها.

شىء عجيب. لماذا أتذكر الماضى الذى ذهب وانقضى، يوم عيد ميلادى الوحيد؟ ليس الوحيد طبعاً لأن خمسةٌ وأربعين عيداً مرّت عليَّ قبله، لكنها ستكون المرة الأولى التى أحتفل فيها، والأخيرة.. فعلاً، يجب أن أنسى الماضى كله والحاضر والمستقبل، فلا يشغلنى شىء إلا الاحتفال بيوم العيد السعيد. العيد يعنى السعيد، ولهذا تعوّدنا أن نقول «عيد سعيد» وأن نقول «فرحة العيد» وأن نقول عن اليوم النادر الذى نسعد فيه «النهار ده عيد».

جارنا الأستاذ عبدالسلام صابر عبدالسلام صابر إلى مالا نهاية، مدرس اللغة العربية فى مدرسة مصر القديمة الابتدائية، ويتفاخر بأنه يُعطى دروساً خصوصية لتلاميذ مدرسة مصر الجديدة. اكتشفتُ أنه لا يفهم شيئاً، وأدركت سبب سخرية التلاميذ منه. الرجل الحمار جاء صباح أمس يشترى تموينه اليومى، أقصد السجائر الخمس، فأردتُ أن أُلاطفه فى الكلام لعل العبوس المحبوس فى وجهه يهرب لحظة، فأخبرته وأنا ابتسم ابتسامتى المعتادة بأن غداً عيد ميلادى، فازداد وجهه عبوساً وغاظنى حين ردَّ علىَّ بما لم أفهمه.. قال: عيد بأية حال عدت يا عيد؟

- يعنى إيه يا سى عبدالسلام، عيد يعنى الحال السعيد طبعاً.

- العيد مُشتق من العودة، مُش من السعادة.

- يعنى هات السجاير يا جودة، عاوز امشى.

- خُد، مع إنى كنت حابب أفهم كلامك الغريب ده.

- وعلشان إيه تفهم! خلّيك كده مبسوط.

بعد استمتاعى بالبقاء فى السرير ساعاتٍ، سعيدات، قمتُ نشطاً إلى الحمّام كى أستعدّ للاحتفال بيوم عيد ميلادى الوحيد، السعيد. يا سلام، الاستحمام تحت «الدش» فى الصيف شىء جميل، ولابدّ فيما بعد أن أداوم عليه ولو كل فترة.. بعد استحمامى لبست أحسن ما عندى من ملابس: القميص والبنطلون، وانطلقتُ من البيت دون أن أنظر ناحية الدكان حتى لا أضعف فأفتحه، فأكون من الخاسرين لأهم يومٍ فى حياة الإنسان. المرحوم أبى قال لى، إن المرحوم أبيه قال له، إن المرحوم جده سمع من أبيه أنه قال «أهم يوم فى حياة الإنسان هو عيد ميلاده الخامس والأربعين».. وما دام الأجدادُ الأجلّاءُ القدماءُ قد قالوا قولاً، فهو بالقطع صحيح.

اتجهتُ مسرعاً إلى كورنيش النيل وألقيتُ عليه نظرة الأسى الواجبة، ثم استدرتُ بوجهى إلى الخلف ونظرت إلى هضبة المقطم الجرداء بالأسى الموروث، ثم أسرعتُ الخطو حتى شعرت بأننى اقتربت من مستشفى قصر العينى، وقفتُ على الرصيف المقابل للكورنيش ورفعت بثقةٍ يدى وأنا أنادى:

جلستُ فى التاكسى مستريحاً كالملوك والأمراء، وحمدتُ ربى على نعمة الراحة والمال الذى لم يجعلنى أتردّد فى النداء. طبعاً، الفلوس حلوة. فور ركوبى بالمقعد الخلفى كالأثرياء الواثقين بما يملكون، نظرتُ يساراً لأرى النيل النجاشى وحين انحرف السائق بالتاكسى يميناً ليدخل شارع قصر العينى من أوله، نظرتُ يميناً حتى أتحاشى النظر إلى المستشفى.. بعد سنوات، سوف يحين الوقت ويتسع فأنظرُ إليها ومنها وفيها، كثيراً، فهى المكان الذى كان ذهب إليه جدى عندما مرض فظل محجوزاً فيه حتى مات، وحين مرض أبى حجزوه هنا شهراً حتى حانت لحظة وفاته، وبعد سنوات سوف أمرض ويأتون بى فأحتجز هنا حتى.. لا.. لن أفكّر الآن فى الموت، وإنما فى الحياة.

بعد عبورنا المستشفى رحت ألتفتُ براحتى يساراً ويميناً، واخلتستُ نظرة إلى كوبرى الملك الصالح. وفجأة، رأيتُ الملك الصالح نجم الدين أيوب مقبلاً على صهوة حصانه، وحوله مماليكٌ كثيرون، وخلفهم العبيد! ما هذا الذى أرى، وأين ذهبت البيوت والناس؟.. بعد هذه اللمحة الخاطفة، عادت الأشياء من حولى إلى طبيعتها وارتدَّ الزحامُ الخانق وقت الظهيرة. الحمد لله. لما وصل السائق بنا إلى ميدان التحرير، لم أجد الميدان! كان المكان مغموراً بالماء والطين اللزب الذى كانوا قديماً يسمونه: اللوق.

أين الناس؟ وما هذا الشجرُ المتباعد عن بعضه والغاب الكثير؟.. انحرف السائق يميناً فعادت الأشياء ثانيةً إلى طبيعتها، ونظرت إلى ظهر السائق فوجدته يدخّن سيجارة فأدركتُ على الفور أنها ملفوفة بالحشيش.. لم أستطع السكوت، وشعرت بأن ثورتى لابدَّ لها أن تنفجر، فصحتُ فيه بكل قوتى:

- انتَ بتشرب حشيش، إيه، ما بتختشيش!

- يعنى انت عارف السيجارة اللى ف إيدك، ولّا هاتعمل عبيط.

- دى سيجارة عادية، خُد شوف بنفسك.

هى تبدو عاديةٌ فعلاً، لكننى أصلاً لا أعرف شكل الحشيش. الظاهر أنه يخدعنى، وإلا فما الذى طاح بعقلى مرتين متتاليتين فجعلنى أرى شيئاً غير موجود، بالقطع هناك شىء غير طبيعى فى السيجارة، جعلنى غير طبيعى. أعطيته السيجارة التى توشك على الانتهاء، وقلتُ له بحزم: طيب خلاص، أنا هانزل هنا، كام حسابك.

- الحساب يوم الحساب، روح مشوارك شكلك اتأخرت كتير.

تركنى السائق عند مطلع كوبرى العتبة، فكنتُ مضطراً لصعوده واستكمال السير على قدميّ. عموماً، المسافة صارت قريبة ولا داعى لركوب تاكسى آخر، فالسائقون صاروا اليوم خطيرين ويحسن اجتنابهم. عند منتصف الكوبرى نظرتُ إلى ناحية جامع السيدة زينب، فلم أجد غير الجامع لكنه صار أصغر، وليس حوله إلا بعض البيوت العتيقة المتناثرة. ما هذا؟ السيارات الكثيرة لم تعد موجودة، والشوارع. الكوبرى أيضاً اختفى، والبيوت، وأنا.. هذه نتيجة الركوب مع سائق يدخّن الحشيش فى عزِّ النهار، بلا خشية من شىء.

صبرتُ حتى انقشع عنى المشهد الغريب الذى كان كلمحٍ بالبصر، وأسرعتُ حتى نزلتُ من الكوبرى عند وكالة الغورى، ومشيتُ بعد ذلك هادئ البال حتى نزلت النفق المحفور أمام الجامع الأزهر، فامتلأتُ بالطمأنينة. صعدت من النفق مع الصاعدين، فوجدت أمامى المطاعم التى أسعى إليها، لكننى لم أجد عندى رغبةً فى الطعام، فقلتُ لنفسى: لا بأس، سأتجوّل فى الأنحاء حتى أجوع، فيكون أطيب المأكول ما يأتى بعد الجوع.

سرتُ فى شارع أخبرونى بأن اسمه «المعز» فاستغربتُ الاسم. أليس الله هو المعزُّ، وهو أيضاً المذل! فكيف يسمون الشارع بهذا الاسم.. وصلتُ إلى نهاية الشارع فوجدتُ بوابة كبيرة من الأزمنة الغابرة، وحولها سورٌ عالٍ لا معنى له، وتحتها مقبرة صغيرة الحجم خلف ضلفة البوابة الخشبية الكبيرة، التى كانت يوماً مطعّمة بقطع النحاس. مكتوب على القبر إنه مدفن سيدى «الذوق» فأدركت من فورى معنى قول الناس: الذوق ما خرجش من مصر! وأردتُ أن أتأكَّد مما أدركته، فسألت أحد العابرين فأجابنى بعد أن ضحك بسخريةٍ، قائلاً بلسان أهل اللهو: الناس بتقول إن الشيخ ده كان هايسيب مصر، فمات قبل ما يطلع من بابها.. سكت لحظة ثم أضاف: بسّ أنا عندى رأى تانى، هوَّ كان عاوز يدخل فمات عند الباب، ومفروض الناس تقول: الذوق ما دخلش مصر، هه هه ها.

هذا يومٌ ملىء بالعجائب. سأعود من حيث أتيتُ وحين أصل إلى المطاعم سيكون الجوع قد عضَّ معدتى، فأهنأ بأكلتى. ولكن لا بأس لو دخلتُ إلى هذا الجامع، فغسلتُ وجهى ببعض الماء، ثم أواصل المسير.. قرأتُ على البوابة أن هذا المسجد اسمه «جامع الحاكم» ولكننى عندما دخلته لم أجد أحداً يصلى فيه، وليس به ميضأة فيها الماء الذى أريد أن أغسل به وجهى. أسرعتُ بالخروج كمن يهرب خائفاً من شىء لا يعلمه، ولحظة خروجى شعرتُ بأننى أعرف هذا المسجد الذى لا يسجد أحدٌ فيه، أو أننى جئتُ إليه سابقاً، فطردتُ عنى الوساوس بهمسى إلى نفسى بأن أمى جاءت بى إلى هنا وأنا صغير. عادى يعنى.

المقهى المواجه للجامع الذى لا يجتمع فيه أحد، يفرش الكراسى أمامه ويتيح الجلوس. فرأيتُ من المناسب أن أرتاح قليلاً مع كوب شايًّ وعدة أكوابٍ من الماء البارد، فجلستُ وليتنى ما فعلت، فما كاد «القهوة جى» يضع أمامى الصينية التى فيها كوب الشاى وزجاجة الماء المثلّج المذهل شكلها فى هذا القيظ، حتى أقبلت نحوى من داخل الجامع امرأةٌ تشبه الأجنبيات. من أين جاءت؟ فقد كنت قبل قليل بالجامع ولم أرها بداخله، وجلستُ أمامه ولم أرها تدخل إليه. ولماذا تقبل نحوى مبتسمةً كأن بيننا معرفة؟

لأننى مهذّبٌ أو فى الحقيقة مرتبك، فقد أدرتُ وجهى للوجهة الأخرى حتى أتحاشى النظر إليها وهى مقبلة. لكنها ظلتْ تتقدم نحوى حتى وقفت قبالتى وهى تقول بلهجة السوريين التى سمعتها فى المسلسلات التليفزيونية عدة مرات: كيفك، ما توقعت إنى أشوفك اليوم. إيش، جاى تزور مولانا؟

- مولانا مين يا ستّ، أنا ماعرفش أى حاجة.

- ليش بتنكر حالك منى؟

- حال إيه يا ولية انتِ، أنا لا عندى حال ولا مال. أنا بالعربى كده راجل غلبان.

- كيف يعنى غلبان! انت أكيد بقيت من الأجاويد.

خفق قلبى بشدة واستولى عليًّ الرعبُ، إذ كيف عرفت هذه المرأة أن اسمى «جودة» فهل تعرفنى حقاً أو تعرف شخصاً يعرفنى، أم هى تحتال عليَّ لغرض فى نفسها.. هى على كل حال جميلة، وليس عندى مانع أن تحتال عليَّ امرأةٌ مثلها. وعموماً، ليس معى إلا مائة جنيه فى جيبى، وعيونها الخضراء هذه تساوى أكثر من ألف جنيه. فما بال بشرتها البيضاء وشعرها الحريرى الأصفر البادى بوضوح من تحت الطرحة وثوبها الأنيق وصوتها الرقيق. يالله، فى داهية المائة جنيه والوجبة المشوية والاحتفال باليوم العظيم، كل هذا لا يساوى ساعة جلوس مع حورية كهذه.. لا يصحّ أن أتركها تنظر فى عينى بهذه الطريقة الساحرة التى تسلب الألباب، ولابد أن أتكلّم حتى لا تملُّ منى فتتركنى وتذهب عنى. وليكن ما يكون:

- لامؤاخذة يعنى يا هانم، انتِ إزاى عرفت إن اسمى جودة.

- جودة! إيش هادا.انت اسمك اللى بعرفه من أيامنا، أبوالجود عبدالموجود بن عبدالموجود.

- صح، بس مفيش حكاية أبوالجود دى.

- بلكى فى ها الحيوة، لأ. بس لما كنا مع بعض، كان الكل يسميك أبوالجود.

- إيه ده، هوَّ احنا كنا مع بعض.. فين يعنى؟

- نعم ياختى، فسطاط إيه.. أنا ساكن فى مصر القديمة، بس صحّ، هيَّ زمان كان اسمها الفسطاط فعلاً.

- أنا فى هادى الحيوة، بعيش فى السويدا مع أهلنا الدروز، وبَييّ من الأجاويد.

- أبوى، وهوّ اللى خبّرنى إنى إذا جيت زرت مولانا الحاكم، ها التقى فيك.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل