المحتوى الرئيسى

مئة يوم على رحيل عاصر الكتب.. ''لما الإنسانية فقدت الديب''

05/30 15:49

مرّ مئة يوم على رحيل الكاتب والروائي علاء الديب، غير أن تفاصيله باقية بين أحبائه وتلاميذ وما أكثرهم، يخطر ببالهم فيبتسموا، تلمع العيون كلما تذكروا موقف مشترك بينهم، جمّع الديب حوله من الرفاق ما يشدّ من أزره، حين تُكثر الكروب من حوله، وتجمعوا هُم حوله لأنه كان نبيلًا، لسان حق لا يهوى، "دا ضمير جيلنا".. كما قال عنه الكاتب الراحل جمال الغيطاني ذات مرة، تمكّن الديب من أن يُذيب تضاد البشر من حوله، مع تباين الآراء والتوجهات، والأعمار المختلفة، لم يهمه شيء سوى الإنسانية؛ فقد كانت همه الأول والأكبر.

عاش الديب لسبعين سنة، ثُم أتبعهم بسبع أخرى، ظلّ خلالها يذوق الأدب، يضعه على لسانه، يجسّه، وما إن يستطعمه حتى يطيب مستكينًا. اشتهر بعموده الأنيق "عصير الكتب"، بالإضافة إلى أنه كان روائيًا. من أشهر أعماله ثلاثية "أطفال بلا دموع، قمر على المستنقع، عيون البنفسج"، لكن الديب لم يكن مُجرد ناقد وروائي، ما ميّز سيرته هو تواصله مع كل من حوله، لذا تحدثنا مع عدد من أصدقائه، حاولنا الغوص في أعماق الديب من خلالهم، حتى نصل لصورة، لن نقول مكتملة عنه، ولكنها تنقل زوايا وأوجه مختلفة للروائي والناقد الفذ الذي ترك عالمنا بجسده باقيا بيننا بروحه وكتاباته.

في وقت بعيد كتب الديب سلسلة مقالات عن الشيخ محمد أبو زهرة، أحد مشايخ الأزهر، تلك السلسلة لاقت صدى كبير في بيت بصعيد مصر، كُتب الشيخ أتخمت بها مكتبة الوالد عبد الرحيم، وتردد اسم الديب بين الإخوة، فالتقطته أذن حمدي المتأهب لدخول الأزهر، وقتها بدأ بقراءة مقالاته رغم صعوبتها عليه، ثُم قرأ "زهر الليمون" لمّا كبر، أحسّ حمدي عبد الرحيم "إن الراجل دا قريبي.. ويومًا سنلتقي".

شيخي.. هو اللقب المحبب لعبد الرحيم يُطلقه على صاحب زهر الليمون، وهو صحفي كرئيس قسم الثقافة بعدد من الجرائد، يُناديه به في مقال كتبه عنه بمدونته، شعر الصحفي أنه مريد في حضرة الشيخ، أهدى روايته "سأكون كما أريد" للديب منوهًا بأنه "شيخ الطريق وصاحب المقام"، يقول عبد الرحيم إن هناك تشابه بين المشايخ العظماء والديب في البساطة والصراحة والتواضع، وفي المحبة والفهم دون قساوة.

تعتبر الكلمة لدى الديب عزيزة، في ذلك هو مقل في أعماله الأدبية. في الإسكندرية كتب الديب رواية "أطفال بلا دموع"، كما يقول صديقه الفنان جميل شفيق، تشاركا لحظات الإبداع تلك "هو يكتب وأنا أرسم، ونوري لبعض.. أخد وعطا"، وامتلك الديب في أعوامه الأخيرة عمل روائي غير مكتمل عن الإسكندرية.

التقديس للكلمة هو أثر باق عند الديب، لازمه منذ أن كان يكتب بمجلة صباح الخير، يوم الأحد هو المخصص لطباعة العدد الأسبوعي للمجلة، ينقل رشاد كامل، رئيس التحرير الأسبق، الصورة التي رأى عليها الناقد، ذلك الوقت بزمن الثمانينيات. حينها شغل كامل منصب سكرتير التحرير، يجد صاحب القاهرة منكبًا على مكتبه، بجانبه سجائره الكليوباترا، يكتب مقال عصير الكتب الذي يستعرض فيه عمل أدبي جديد، يستفسر عن انتهاء الديب من مقالته، يُشير إليه أنه على وشك الانتهاء. يصف كامل في حديثه علاقته بالديب "كان معذبًا كبيرًا"، ثُم يلحقها بـ"أنا فاكر وقت كتابته لوقفة قبل المنحدر، كان بيكتب على آخر دقيقة، قالي وقتها تعبير جميل: "أنا لو أطول لآخر دقيقة أخش المطبعة عشان أصحح جملة".

قبل كتابة المقالات الأدبية، عمل الديب بالتحقيقات الصحفية، شجّعه على ذلك رئيس تحرير مجلة "صباح الخير"، فتحي غانم. امتاز بروح أدبية وفلسفية طغت على كتاباته. لم تطل الفترة التي كتب خلالها الديب التحقيقات، بعد النكسة تحديدًا ركّز فقط في عموده "عصير الكتب"، لكن ثورة 25 يناير استطاعت تأليب روح ذلك الصحفي من جديد، يحكي سيد محمود، رئيس تحرير جريدة القاهرة، أن التغيير جعله يعود مجددًا للصحافة "بمعنى أنه لما يكون عاوز معلومة يتصل بالمصدر، يعرف منه".

أثناء الثورة، لم يستطع الديب الذهاب لميدان التحرير بسبب مرضه، لذا جلب الثورة إلى بيته، يُتابع محمومًا الأخبار، متنقلًا بين القنوات والصحف، تحدّث إليه الصحفي عبد الرحيم مساء جمعة الغضب، وصل إليه صوته منفعلًا بسبب مشاهدته للفيديو الشهير للسيارة الدبلوماسية البيضاء، تدهس المتظاهرين "قالي إنه مش قادر يتخلص من صوت طقطقة العظام"، كذلك نقل ابناه سارة وأحمد إليه مشاهداتهما للميدان.

تحوّل منزل الديب لجزء من احتفالية ثورية قائمة "في 25 من كل شهر كان بيحتفل بالثورة" يقول محمود، خلال تلك المناسبة التي حددها الديب، جمّع صاحب أيام وردية النشطاء حتى مشايخها للنقاش وتبادل الرؤى، كما يذكر عبد الرحيم أيضًا، تدور حول أفكار مثل كيف يُمكن الإبقاء على الثورية بأوجه أخرى غير المظاهرات، لم تظلّ تلك الاجتماعات حاضرة بعد ذلك، مع انصراف الناس ما بين احباط، سفر أو سجن، لكن أفضل ما فعلته الثورة هي امداد الديب بعلاقات من نوع جديد، حيث اتسعت صداقاته لتشمل شبابها.

لم يكن الديب مُجرد ناقل للمعلومة، لكنه مزج روحه بها، في أحد أعماله الصحفية تظهر بعض من ملامح شخصيته الرومانسية، يكتب في شهر يونية 1964 عن القرنة بالأقصر، تلك القرية التي اصابتها الشهرة حينما حاول المعماري حسن فتحي، في الأربعينيات، أن يحقق حلمه بمعمار جديد بها، لكن أهلها تركوها وصعدوا الجبل، فبدأت في الانهيار، هي قصة حزينة تُمثل كيف يتهدم الحلم، لكن الديب كان له تحليل آخر، يقول "الحلم نفسه لم يكن نابعًا من الواقع، كان يفكر في اقامة قرية جميلة، أكثر مما يفكر في حياة جديدة لللناس، ولم يكن يفكر في صناعة واقع جديد، لم يكن هو وحده من يفكر هكذا، كنا جميعًا نفكر بنفس الطريقة لأن الفلاح لم يكن قد عبر عن نفسه بعد"، يبدو للقارئ أن الديب وضع رأيه الخاص في التحقيق الصحفي، لكن مجلة صباح الخير التي كانت تمتاز بالتمرد في ذلك الوقت، استوعبت كيان الديب.

في مقال منشور للناقد شعبان يوسف، يقول عن الديب، "منذ البداية بدت ملامح أسلوبية حادة في كتابات علاء الديب، هذه الملامح التي تجنح إلى الحس الشعري الفادح، أقول الفادح لأن عالم الكتاب كان فجائعيًا إلى حد كبير، ولم تكن الحياة أو التعبير عنها، نزهة عند الكاتب".

ثُم يعطي مثالا بأحد تحقيقاته الأولى، نُشر له في 1 يونيو 1961، تحقيقا عن انتشار المخدرات بين طلاب الجامعات، حيث قال في مبتدئه: "كثير من النوافذ هذه الأيام تظل مضاءة حتى الفجر، وكثير من الوجوه الشابة المرهقة، يبدو عليها الإجهاد والإعياء، ذقونهم نابتة وعيونهم حمراء وأعصابهم متوترة، إنهم الطلبة الذين تعصرهم الامتحانات هذه الأيام، الشوارع في الليل فارغة، والكورنيش يمشي عليه السجائر والسواح، والطلبة في البيوت يحاولون تعويض الوقت الذي راح".

انتهى الديب من كتابة مقالاته النقدية بمجلة صباح الخير مع الألفية الثانية. المُطالع لكتاباته يعلم أنه لم يكن من سمته الانتقاد الحاد "دايما يقول فيه واحد قام من النوم وشرب وبدأ يكتب مبيقولش إني هعمل عمل فاشل، مبيكونش دا في نيته، بتخونه السكة، بس أكيد في نقط كويسة في العمل اللي كتبه، عشان لما يقرا يستفيد"، يقول كامل. كما يرى أن وظيفة النقد لدى صاحب عيون البنفسج هي إيجاد "شبابيك جديدة، عشان يدخل منها هوا نضيف".

التبشير بالعمل الجيد هي مهمة الديب التي ارتآها لنفسه، يُقاوم الكتب السيئة بالجيدة، فلم يكتب عن عمل ليذم فيه، فكان يستعرض العمل الأدبي واضعًا خطوط وملاحظات حول قوة الكتاب نفسه، اشتهر الديب بعمود "عصير الكتب"، ذلك الاسم الذي اشتهر به في كتابته بصباح الخير ثم بجريدة القاهرة الثقافية بعد ذلك، لكنه لم يصطحبه معه بعد الثورة، فأصبح له رُكن بالأهرام أسماه "صفحة جديدة"، رغب في ضخ الدماء الشابة داخل الجريدة العجوز، فخصص ذاك الركن للكتاب الشباب، يُبشرهم بهم ويباركهم.

هي ميزة انسانية اتفق عليها أغلب أحباء الديب، يُحب البحث وراء الكتابة الأدبية الحقيقية، ليهنئ صاحبه عليها، كان يعلم مكانته جيدًا، هو ما حدث للطبيبة النفسية، بسمة عبد العزيز، حيث تلقّت أول اتصال منه،عام2012، "فوجئت بيه بيقولي أنا هكتب عن رواية الطابور، وبقرأ فيها بقالي يومين". كانت تلك الرواية الأولى للفنانة التشكيلية، بعد كتابين، أحدهما كتب عنه الديب قبلًا. اعتبر الديب الطابور عملا أدبيا هاما. لم تكن تلك التهنئة بسيطة بالنسبة لبسمة عبد العزيز، تعلم جيدًا أثر كلمات هذا الكاتب عليها، تتذكر حينما انتقلت لمنزل آخر، فاكتشفت أثناء نقل المكتبة أنها قد اشترت كتابه "وقفة قبل المنحدر" أكثر من مرة. "كنت اشتريت كتابه خمس مرات من غير ما آخد بالي"، ثم دعاها الديب عبر الهاتف لزيارته في بيته بالمعادي.

"أدعو كل بيت وطنى.. للاحتفاظ بنسخة منه. يكفى أن يكون عندك: صور نادرة الجمال لأغلب الشهداء ، وصور للميدان، والمظاهرات والمسيرات ولكوبرى قصر النيل، صور فى الحقيقة: لزمن الثورة، ورائحتها، والمذاق الفريد الذى سيظل خالدا لتلك الأيام: صور من القاهرة والسويس ومن الصعيد"

تلك الفقرة بعض مما كتبه الديب عن العدد الحادي عشر، لمجلة أمكنة، وختم مقاله، المنشور في سبتمبر 2014، بانتظاره للعدد التالي له، لكن قدره لم يتسن له البقاء، أمكنة كانت السبيل بين الديب والمسؤول عنها علاء خالد، حيث أشار لها لأول مرة، في عددها الثاني بمقاله في جريدة القاهرة وقتذاك، من هنا بدأت العلاقة تتوطد، وكلما نزل عدد جديد يتصل بخالد ليبارك له.

أما الصحفي سيد محمود فيسرد كيف بدأت علاقته بالديب، مع بداية الألفية الثانية، دعاه الصحفي إبراهيم منصور للقدوم معه إلى حفل عيد ميلاد الديب، فقال له "تعالى أعرفك على علاء، هاخدك هدية في عيد ميلاده". ذكريات كثيرة تجمع بين الديب ومحمود، لم يكن فيه الروائي حاضرًا بجسده، بل بكتاباته، زمن مرّ على طالبين يجلسان داخل مكتبة الهيئة العامة للكتاب بميدان الجيزة، يتصفحان روايته "زهر الليمون"، لتصير "مانيفستو" حياة محمود وياسر عبد اللطيف صديقه في جامعة القاهرة.

ذهب محمود لمنزل الديب، لكنه لم يتمكن من الحديث معه، لازدحام البيت بالأصدقاء، لكن خلال يومين سمع الصحفي صوت الديب عبر الهاتف، يعرب عن سعادته بمقاله الذي كتبه عن روايته "أيام وردية"، التي نشرت حديثًا في ذلك الوقت، من هنا تحوّلت العلاقة لصداقة من لحم ودم، طالما كان الديب هو المُبادر، كاتب لا ينظر من علِ، بل يقوم بمدّ التواصل بينه وبين من يرى أن بداخلهم بذرة الإبداع.

التواصل هو شيمة أصيلة عند الديب، حينما بدأ يكتب، عن مجموعة قصصية تُدعى "عدودة"، نشرت عام 2015، رغب في التواصل مع كاتبتها "هند جعفر"، أصابته الحيرة بسبب وجود كاتبتين بنفس الاسم، "دور يا سيد هي أنهي واحدة فيهم".. بدأ الصحفي في البحث حتى وصل إليها، تحدث إليها ليعرف عنها أكثر، كتب الديب في عموده "صفحة جديدة" بالأهرام حينها: "في مجموعة هند جعفر جرس صادق تحب أن تنصت إليه، أعتذر عن الإطالة ولكن هذا أول تعرفي وفرحي بقلم جديد، هند من مواليد الاسماعيلية 1985 تعيش في الاسكندرية، تعمل وتدرس الفلسفة والمخطوطات في مراكز البحث والتراث بمكتبة الأسكندرية".

رأى كامل أن علاقات الديب خلت من جو "الشللية"، عماد علاقاته كان الإنسانية، ولا شيء غيرها. " السياسة أصلها بتروح وتيجي، انما الانسانيات لو راحت مش هترجع تاني، ودي كانت ميزة علاء"، يقول كامل.

في السادسة صباحًا استيقظ علاء خالد على رنة هاتفه، رأى اسم الديب متوهجًا على الشاشة، على الناحية الأخرى قال الديب "أنا مقدرتش أنام كنت سهران على الرواية"، لم يتمكن الصبر من الديب ليؤجل حديثه إلى موعد مناسب. هنّاه على روايته "ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر... كأنه بيكمل علاقته مع العمل، ويكملها في الاتصال، يكسر أي مواعيد عشان يوصل الاحساس دا".

كما فعل الديب مع خالد، جرى مع بسمة، حيث رأى في قلم الطبيبة روح الأدب، لم يرغب لها الاستمرار في الكتابات الجافة، كلما التقاها يسألها عن العمل الجديد التي تعكف عليه، فترد "أنا بشتغل على كتاب عن الأزهر"، ولأن المجاملة ليست مجالًا بينهما فيقول "سيبي الهباب دا، أنا مستني الرواية"، تُحاجيه أوقاتًا "أنا مش روائية"، فيعاجلها بالقول "الرواية الأولى بكل مساوئها بتقول إنك بتكتبي أدب، متضيعيش وقتك". 

ظلّ الديب للحظات الأخيرة يسألها عن الرواية الجديدة، أسف يرن بصوت بسمة "بعد كتاب ذاكرة القهر بدأت في كتاب الأزهر، واضطريت أركن الرواية"، في الزيارة الأخيرة له بالمشفى أسرعت بسمة للقياه، بيديها تحمل كتابها الأخير "خطاب الأزهر وأزمة الحكم"، لتوه خرج من المطبعة، حين رؤيته للكتاب "ابتسم ابتسامة مش هنساها، ورفع ايده كأنه بيعمل تعظيم سلام"، هكذا تقول الطبيبة. 

رغم ما عُرف عن الديب من عزلة، إلا أن منزله ظلّ مفتوحًا للأصدقاء، كما كان يتبادل الزيارات مع خالد، يزوره خالد بمنزله، وحين يسافر الديب للإسكندرية، يتقابلا بفندق الكريون، في الجناح المقابل للبحر يشرع الديب ببصره ناحيته "ليه كرسي جمب الإزاز، هو متأمل على طول وجاهز كمان لاستقبال الناس". 

أما الزيارة الأولى لبسمة، فتصف ما احتواه صدرها من بعض التردد "طبعًا كون إني رايحة أزور حد بحجم علاء الديب حاجة تخض، وبفكر أقول ايه ولا مقولش ايه"، فلمّا عبرت بضعة خطوات وصارت بداخل البيت، رأت الودّ المصاحب لاستقبال الديب "كان أكتر ما أكون قاعدة في بيتي"، فيما خلت الزيارة من أي تكلف أو تحفظ "شحنة انسانية قليل جدا لما أشوفها عند حد، زي ما يكون حد أعرفه من ساعة ما اتولدت".

أصبحت الفنانة التشكيلية تزوره قبل ذهابها لعملها بمستشفى العباسية، في زياراتها تنوي الجلوس لنصف ساعة "ألاقي إني قعدت ساعة أو ساعتين"، يحتسيا سويًا القهوة بالشُرفة، وبينهما حديث يطول، جزء من تلك الأريحية كان سببها بيت الديب، الفيلا الصغيرة التي امتلكها والده "حب الله" في عهد عبد الناصر، امتازت بهدوئها، بعيدًا عن صخب المدينة، وفضّلها الديب في أوقات عزلته.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل