المحتوى الرئيسى

المسرح.. ديمقراطية

05/27 22:30

فى مقالها المنشور بجريدة المصرى اليوم (بتاريخ 24 مايو 2016) والمعنون «إلى وزير الثقافة»، تفضلت الناقدة السينمائية القديرة والوزيرة السابقة الدكتورة درية شرف الدين بالتعبير عن إعجابها بالنشاط المسرحى الزاخر والباهر فى بريطانيا، زارت الدكتورة درية بريطانيا أخيرا وشاهدت هناك بعض العروض المسرحية التى جعلتها تتحسر على حال مسرحنا وما آلت إليه الأمور هنا (وهى بالتأكيد محقة فى ذلك).

وكان من ضمن ما أثار انتباه الدكتورة «هذا الإقبال الواسع وهذه الطوابير الممتدة لحجز مقعد لمشاهدة العروض المسرحية سواء من الإنجليز أو من السائحين الذين يتوافدون على لندن بأعداد هائلة وعلى مدى العام. فى قاعة المسرح الواحدة يتحدد ثمن التذكرة حسب المكان والاتجاه وزاوية الرؤية، فى الصف الواحد يختلف السعر ويمكنك أن تستمع إلى عدة لغات ولهجات وترى العديد من الجنسيات وتنتهى العروض المسرحية غالبا فى العاشرة مساء ولا تمتد حتى الفجر كما يحدث عندنا».

رصدت بعينيها بعضا من مظاهر هذا النشاط المسرحى الكبير، ومنه عرجت الدكتورة إلى مصر، لتعرض جانبا من أزمة مسرحنا وتطرح من وجهة نظرها ما تراه حلا أو ما يمكن أن يساهم فى دفع حركة هذا المسرح إلى الأمام أو إعادة الحيوية والعافية إلى مسرح بدأت محاولات تأسيسه وتأصيل حضوره فى التربة العربية منذ أواسط القرن التاسع عشر تقريبا. وناشدت الدكتورة درية فى ختام مقالها وزير الثقافة بأن يدعم بعض الفرق الناشئة كى تمارس نشاطها وتستمر فى فعالياتها «وتلك دعوة لوزارة الثقافة ووزيرها المستنير الأستاذ حلمى النمنم لدعم ذلك العمل المسرحى العالمى الذى يمكن أن يمثل إحياء للفن المسرحى الحقيقى فى مصر خاصة المسرح الموسيقى الذى انطفأت أنواره أو تكاد، ويُمثل استرجاعا ودعما لمواهب مصرية عالمية خُسارة أن تضيع».

أهم وأبرز ما لفتنى فى هذا المقال الذى حاولت نقل فكرته الرئيسية دون إخلال أو هكذا أظن، مجموعة من الملاحظات تتعلق أولا بطرح مقارنة تبدو ظاهرية بين المسرح البريطانى أو الحركة المسرحية فى بريطانيا (وأوربا والغرب عموما) وبين حركتنا المسرحية من حيث النشاط والازدهار والرغبة المشروعة بل اللازمة والضرورية فى بث الروح والحرارة فى هذا المسرح. وثانيا وحسبما فهمت اختزال الفارق بين المسرحين أو السياقين المسرحيين المصرى والبريطانى فى مجموعة من الإجراءات الفوقية (إذا جاز التعبير) والتدخلات الرسمية وطلب الدعم من وزير الثقافة لدعم فرقة ناشئة أو أخرى.

وثالثا، وهذا هو الأهم من وجهة نظرى، أن مقال الدكتورة درية رصد ببساطة وسلاسة ومتعة بعضا من فعاليات الحركة المسرحية البريطانية، وذكرنى ذلك بتقليد بل بسلوك كان يمارسه أكبر وأعظم مثقفينا فى العقود السابقة من الكتاب والنقاد والصحفيين، الذين كانوا يسافرون إلى أوروبا، وخاصة بريطانيا، فينقلون لنا بعيونهم ويرسمون بأقلامهم صورة حية وحيوية لمظاهر النشاط الثقافى والفنى، وفى القلب منه المسرح، بحماس وتوهج ورغبة محمومة فى نقل كل مظاهر هذا النشاط إلى القارئ العربى.

ولو عدنا بالذاكرة قليلا إلى الرحلات المخصوصة التى كان يسافر فيها لويس عوض إلى أوروبا فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى لمشاهدة المسرحيات والكتابة عنها، أو ما كان يكتبه على الراعى وعبدالقادر القط، أما آخر عهدى (فى حدود ما أعلم) ممن كانوا يكتبون بحرارة وحيوية عن العروض المسرحية التى كانوا يشاهدونها فى الخارج فكان المرحوم ألفريد فرج فى مقالاته التى كان ينشرها فى الأهرام حتى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، كانت تلك المقالات هى الومضة الأخيرة فى مثل هذا اللون من الكتابة التى شهدت ازدهارا عظيما ثم تراجعا سريعا فأفولا محزنا وأخيرا غيابا تاما (حتى تذكرت ذلك من خلال مقال الدكتورة درية) وهو فى كل حال انعكاس صادق لتراجع الاهتمام بالوعى الثقافى وانحساره من دائرة الكتابة والنشاط العام إلى اقتصاره على الدوريات والصحف المتخصصة، ولهذا حديث آخر وشجون مقيمة!

المهم، أن ما كنت آمله من الدكتورة درية وهى تعرض لهذه المقارنة واستثارة هذه الشجون، الحديث عن الشرط الصحيح واللازم والضرورى لخلق حركة مسرحية عفية (حتى ولو كانت ناشئة).. تعلمنا من أساتذتنا الكبار (وعلى رأسهم أستاذنا الجليل الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجى) أن الفن ضرورة، وأن المسرح وازدهاره وحضوره وتأثيره مرتبط إلى حد كبير بحركة المجتمعات نحو الديمقراطية ونزوعها إلى احترام التعددية والاختلاف. المسرح حياة، حوار، دراما وفعل، اشتباك بين آراء وأصوات ووجهات نظر، يحملها الممثلون ويعبرون عنها ويجسدونها على خشبة المسرح. «الحوار» هو روح المسرح وجوهره، بكل ما يستلزمه من إتاحة ومساحة للتعبير عن الرأى واختلاف الرؤى وتباين النظر، وبما يعبر عن صراع.

وإذا كان المسرح البريطانى، وغيره من مسارح أوروبا وأمريكا، قد وصل إلى هذه المرحلة المبهرة التى تتحدث عنها الدكتورة درية بإعجاب شديد، وترصد بعضا من مظاهرها، من حيث كم العروض وعدد المسارح وإقبال الجمهور، فبالتأكيد هى تعلم أن هذه المرحلة سبقها قرون من انتقالات وتحولات ضرورية ولازمة فى المجتمعات الأوروبية نحو الحرية والديمقراطية، هذا أولا، وثانيا لأن هذا الازدهار ببساطة ويسر لم يحدث لأن الدولة أو الحكومة أو السلطة عموما قد قررت أن يزدهر المسرح فيزدهر المسرح! لم يكن الأمر بضغطة زر أو قرار وزير بل أظن أن الأمر كان أعقد من هذا بكثير، بل أظن أن دارسى المسرح ونقاده ومؤرخيه يؤكدون لنا أنه لولا رفع قبضة السلطة يدها عن كل مناحى الإبداع والابتكار فى هذه المجتمعات ووقوف دورها حد الدعم والتهيئة والمساندة لا التدخل والتوجيه لما كان هناك مسرح ولا يحزنون.

فى عالمنا العربى، كانت حركة الجماهير نحو الديمقراطية فى القرن التاسع عشر (من أواسطه إلى منتهاه) من أكبر العوامل التى ساعدت فى انتقال هذا الفن من أوروبا إلى مصر ولبنان ومنهما إلى غيرهما من البلدان العربية، وشهدت الثقافة العربية فى تلك الفترة ميلاد المسرح وظهوره عقب الاحتكاك الثقافى الحقيقى بأوروبا من خلال البعثات الثقافية التى كان أهم وأخطر ما تعلمه مبعثوها أو تشربوه أو تأثروا به وكان نواة لوعى مغاير هو إدراك طريقة الحياة الديمقراطية هناك.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل