المحتوى الرئيسى

أحمد جابر يكتب غسان كنفاني ومعضلات المقاومة وجرس إنذار مبكر (3-5)

05/24 15:45

تعتبر دراسة حال المقاومة الفلسطينية وظروفها والأزمات التي تتعرض لها ومعضلاتها الأساسية، وأجبا مهما ودائما لا يقتصر على مرحلة معينة وإنما هو مطلوب في كل مراحل النضال الفلسطيني المستمر، والذي يزداد تعقيدا، وبالضرورة فان الدرس الأساسي الذي يقدمه لنا التاريخ، تاريخ الثورة الفلسطينية بالذات هو أن تعقيد الواقع يفرض تعقيدا مماثلا في الوسائل والاستراتيجيات ويلقي بظلال كثيفة من أعباء التكيف اللازم، ونجد أن معضلات المقاومة تتناسب طردا أفقيا وعموديا، مع تعقيد الواقع وظروف الصراع.

من هنا تستمد هذه الدراسة أهميتها، لأنها معالجة مبكر لمعضلات مبكرة أيضا رصدها غسان ووضع أفكارا لتجاوزها، معضلات أرى إنها تكاثفت وتعاظمت اليوم بعد ما يقارب النصف قرن على استشهاد غسان، ومحاولته الشجاعة وغير المألوفة آنذاك لتوجيه نقد ثوري وجوهري، للممارسات الشائعة والتقصير المشبع بالإهمال في تجربة المقاومة الفلسطينية.

تأتي أهمية هذه الدراسة أيضا بأنها تمثل وجهة نظر الجبهة الشعبية في المعضلات التي تواجهها المقاومة، معضلات واجهتها الجبهة بذاتها وما زالت تواجهها، يقدمها غسان باعتباره منظرها الأول وأحد أبرز قادتها ومفكريها الأيدلوجيين.

هنا نحن وجها لوجه مع غسان القائد السياسي ومنظر حرب العصابات كما لم نعرفه من قبل وكما لم تقرؤه أجيال جاءت بعده لم تقرأ سوى ربما نزر يسير من أدبه، بينما بقيت كنوزه الفكرية والسياسية في زاوية الإهمال والنسيان. هل كان هذا بفعل فاعل، أم أن غسان الأديب هزم غسان السياسي في معركة الشهرة والأضواء. أظن أن قراءة هذا النص وإعادة الاعتبار إليه لا يقتصر فقط على ضرورة رد الاعتبار للرجل حامل الجرس، الذي وقف وحذر من القادم مشخصا وممحصا في السياقات التنظيمية والعسكرية والسياسية، بل إن إبراز هذا النص هو إعادة اعتبار للفكر الثوري الأصيل الذي مثلته الجبهة ودورها ومكانتها، وهو دور يجب أن تعود الجبهة للتصدي له واضعة تجربتها تحت مبضع النقد الثوري الذي وصفه غسان بأنه نقد يصحح الممارسات ويعيد تكييف النظرية مع الواقع بحيث تترك أثرها في هذه الممارسات بشكل أصيل وثوري لامفتعل وشكلاني.

كتبت هذه الوثيقة التي  جاءت في 47 صفحة مطلع السبعينيات ربما في عام 1972 أو 1972 ويطرح غسان  في هذا النص الرشيق واللافت بلغة سياسية أيدلوجية ناضجة وغير مترددة، المعضلات التي واجهتها المقاومة الفلسطينية من وجهة نظر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

في المقدمة ينظر غسان لجبهته، وأهمية انطلاقها والدور التاريخي المنوط بها، شارحا بتؤدة وصبر ما تعرضت له منذ نشأتها من هجمات أيدلوجية وسياسية وأمنية انتهت بانشقاقات مدبرة، وهي هجمات حفرت عميقا بما لايمكن إنكاره في مسار الجبهة الشعبية، وأظن أن الجبهة كان من الممكن أن تتلافى الكثير من ضعفها واضطراب سلوكها السياسي (أحيانا) لو التفتت بجدية وبما يليق وبلا تهاون إلى هذه المعضلات التي يطرحها رجل من (عظم رقبتها) وأبرز منظريها وأيدلوجييها بعد الانطلاقة وناطقها الرسمي.

في هذا النص يشرح غسان انطلاق الجبهة من تنظيم أساسي هو شباب الثأر وأبطال العودة وجبهة تحرير فلسطين، انسحبت جبهة التحرير في انشقاق غير مدرج رسميا، بسبب رهاب الماركسية من جهة وبسبب طموحات أحمد جبريل العسكرية الذاتية.

وكذلك يرصد غسان خروج مجموعة أخرى اعتبرت نفسها يسارية بشكل لا يتسع له وعاء الجبهة ومجموعة ثانية  ظنت إنها قادرة على جعل الجبهة امتدادا للتنظيم الطليعي الناصري أو نسخة عنه، واختار تنظيم أبطال العودة الاندماج كليا بتنظيم شباب الثأر في كانون أول 1967، ما يعني أن شباب الثأر، الفرع الفلسطيني للقوميين العرب كان هو الأساس والقاعدة التنظيمية التأسيسية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

يرصد غسان اشتراك قوس واسع من القوى في الهجوم على الجبهة الناشئة باعتبارها شكلت تهديدا خطيرا للسائد فلسطينيا وعربيا، فاشترك في الهجوم أنظمة يسارية ويمينية وتنظيمات فلسطينية من اليمين والوسط واليسار، ومؤسسات حزبية ودولية ليبرالية وماركسية وتروتسكية، وتكامل ذلك بحصار إعلامي شديد خبرته الجبهة كثيرا لاحقا، لدرجة أن صحيفة كالأهرام تنسب خطف الطائرة الأمريكية حينها لمنظمة التحرير متجاهلة تماما وجود الجبهة الشعبية رغم أن أطرافا أساسية في المنظمة كانت تعارض الجبهة بشكل علني بل وفج. كما يرصد التهم التي وجهت للجبهة وهي تهم تعكس طبيعة الجهات التي أطلقتها وتدعو للدهشة لفرط تناقضها وعدميتها: فالجبهة الشعبية يمينية حينا، وفاشية، تخريبية وهدامة، سارقة جهود الثوار، يسارية متطرفة، إقليمية، عروبية، ماركسية فوضوية، قومية شوفينية، رجعية، ملحدة وامتد قوس هذه التهم كما يرصد غسان من الرباط إلى الكويت.

وقد منعت صحيفة الجبهة من دخول سوريا والسعودية ومصر والجزائر والمغرب وتونس وأحيانا الأردن، ونشاطها محصور أو مراقب عدا في عدن وعمان وبغداد، كل هذا بينما هي تقود أعظم مقاومة في حينه، في قطاع غزة بقيادة محمد الأسود جيفارا غزة، وكان لها حينئذ 500 مقاتل في سجون العدو وهو رقم كبير جدا بمقاييس تلك الأيام، وهي التنظيم الفلسطيني الوحيد صاحب الاستراتيجيا المعلنة ومعسكر الأعداء كما سنتها الجبهة في وثيقتها الأهم الاستراتيجيا السياسية والتنظيمية.

هذه المقدمة التي يكرسها غسان كمنشور دعائي لحزبه وجبهته كان لابد منها لإصدار سيل التحذيرات اللاحقة في صورة نص تحليلي غير مسبوق في الأدبيات الفكرية للمقاومة الفلسطينية، وكمدخل ضروري للدخول إلى موضوع الدراسة: المعضلات التي تواجهها المقاومة الفلسطينية من وجهة نظر الجبهة الشعبية.

بداية يحذر غسان، كتأسيس منهجي، من الخطأ الذي يقع فيه أي عمل نقدي يستهدف المقاومة، من عصبوية أو تجن أو مذهبية جامدة أو الوقوع في فخ الانتقائية.

وكأن غسان يعيش معنا هذه الأيام حيث فعلا نعيش مأزق النقد الذي حذرنا منه مبكرا، والدرس هو أنه لا يمكن عزل موضوع النقد عن بيئته و دوافعه وتشابكاته وتشكيكاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وظروف الواقع المعاش، لعل هذا المنهج الذي ألزم نفسه به وطالبنا الالتزام به يجعلنا نتساءل بعد نصف قرن على كتابة النص: لماذا ضاعت البوصلة وأين بالضبط فقدنا القدر على السؤال أو على إطلاق الأسئلة الجيدة بخصوص مقاومتنا وشعبنا وأحوالنا عامة؟ لماذا لم نستمع لغسان السياسي والايدلوجي كما فُتنا بغسان الروائي وكاتب القصص والصحفي المشاكس والعبقري المصاب بالسكر والذي يستعد لمواجهة سيارة مفخخة؟

يرى غسان صراحة انه لابد من رفض الأساس النقدي الذي لا يؤدي إلى جعل الممارسة قادرة على تصحيح النظرية، تصبح الممارسة عنده ليست فقط دليلا على صلاح النظرية أو عدمه بل أيضا مفتاح معيرة - إن صح التعبير- للنظرية وتكييفها مع واقع شديد التكثيف والتغير بدلا من تفسير الواقع ولي عنق الحقائق الموضوعية لتوائم النظرية.

يقدم لنا غسان نظرية ثورية ليس فقط للتعاطي مع النظرية، وإنما أيضا لتحديد منهج علمي للنقد صار يسمى لاحقا (نقد بناء) دون أن يفهم أحدا السياق التأسيسي لفكرة النقد البناء، في زمن لاحق صار النقد ينصب على الممارسة وتحولت النظرية إلى مذهب جامد لا يأتيه الباطل، منع لاحقا أي نقد يستهدف صميم النظرية لأن نهجا من هذا النوع سيقود لتصحيح ممارسات اعتبرت نتاجا لفهم النظرية، ما يعني تهديد مصالح فئات معينة

بالتركيز على التجربة التنظيمية باعتبارها حسب ماوتسي تونغ الجسر الذي يربط بين النظرية والممارسة وحسب لينين فان المسائل السياسية المنبثقة عن الرؤى النظرية والممارسات لا يمكن فصلها ميكانيكيا عن المسائل التنظيمية والعكس صحيح باعتبار أن المسألة التنظيمية ليست مسألة ميكانيكية لكنها طرف في علاقة جدلية بين النظرية والممارسة لأن التنظيم حين لا يكون وليد نظرية ثوري ينتهي إلى صيغة تآمرية، وقد شهدنا تجارب من هذا النوع في سياق الثورة الفلسطينية، وإذا لم يكن التنظيم جسرا يربط النظرية بالممارسة فسينتهي إلى تجمع عصبوي معزول، ويلاحظ غسان أن إهمال المسألة التنظيمية قاد إلى النتائج الباهظة الثمن في التطورات السياسية العربية خلال نصف قرن.

يعود غسان ليذكرنا أن النظرية ليست معتقدا جامدا بقدر ماهي دليل عمل، ملاحظاً وجود خطين في الساحة الفلسطينية، طرف يشدد على عدم ضرورة النظرية الثورية وتبهيت أهميتها وآخر يشدد على بري رأسه لتلائم القبعة الماركسية الجاهزة، هذا أدى إلى ممارسة عسكرية سياسية عشوائية من جانب وإغراق في التنظير باسم اليسار على ساب الممارسة الثورية الحقيقية لدى الطرف الثاني، أجزم أن كل من عايش الثورة الفلسطينية بفصائله وقادر على النظر بموضوعية سيعرف عم يتحدث غسان، وسيشير بإصبعه ليضع حزبه أو تنظيمه في الخانة المناسبة في الجدول وان كان هذا نسبيا وليس دائما كما يرى غسان نفسه. بل أظن أن كل كادر حزبي عربي في مكان في الساحة العربية لن يجد هذا التحليل غريبا وسيمعن النظر جيدا ليدرس المآلات التي وصلها حزبه ويحاول جاهدا أن يلمس على الخط الزمني الخاص به أين انحرفت أو أين تعطلت البوصلة بالضبط؟

بعد تحليل الواقع العربي يطرح غسان سؤالا استراتيجياً ما زال حاضرا بقوة سؤال لم تحسمه المعركة ولم تحسمه حركة المقاومة الفلسطينية، لاحين كتب نصه ولا الآن: هل الثورة الفلسطينية هي المدخل إلى الثورة العربية أم أن المطلوب لقضية تحرير فلسطين وجود مدخل ثوري عربي؟.

نعلم جميعا علم اليقين الآن أن الإجابة على السؤال أخذت مناحي متطرفة بكلا الاتجاهين بل أدت إلى خيارات تحريفية بالكامل شكلت خيانة للسؤال وقضيته، بين انزياح لفكرة (يا وحدنا) الإغلاقية الركيكة، وبين إتكالية انتظارية مريرة بانتظار نضج الواقع العربي أو البدء بتثويره قبل وكشرط لعملية التحرير، دون إدراك تكامل العملية وتوحد سياقها، ما جعل القضية الفلسطينية والتحررية العربية على حد سواء تدفع أثمانا باهظة نستمر في دفعها حتى الآن، ففكرة يا وحدنا أدت في سياق تحريفي خطير وانتكاسي إلى أوسلو والاتكالية جعلتنا نراهن على أنظمة ديكتاتورية فاشلة تحت شعار مقاومة عربية حاضرة في المشروع الصهيوني، أو ثورة عربية أدت إلى ارتهان كامل للمصالح الصهيونية،  وهانحن نحصد النتائج.

حذر غسان من كارثة محدقة رآها وتحققت للأسف على أهمية الممارسات العسكرية القتالية المستمرة التي تخوضها المقاومة تبرز قضية تنظيمية تتلخص في ضرورة تجنب الصخرية أو الصنمية في بناء التنظيم لأن هذا التنظيم مطالب الآن بصورة خاصة بأن يتسلح بحيوية تنظيمية تتلازم مع الأخطار المتوقعة المحيطة به.

ويضيف غسان في تصريح خطير " بحجة النشاط الدعاوي فتح بعض التنظيمات أبوابه على مصراعيها أمام الصحافيين والفضوليين فسجلت ملايين الأمتار الثمينة الموزعة في كل مكان عن أساليب التدريب وحجم الدوريات وتسليحها من أدق التفاصيل للعمل المقاوم" ويضيف " "بحجة النضال الأممي الذي تشبثت به بعض الفصائل صار بوسع المدعوين من "الأمميين" أن يمضوا أشهرا في معسكرات المقاتلين يسجلون كل شيء"، هذا التحذير يتجلى الآن في تبرع الفصائل ذاتها وتحت راية الإعلام الحربي بنشر الفيديوهات لمعسكرات التدريب والأسلحة والعمل في الأنفاق، بما يشكل هدية مجانية لاستخبارات العدو.

يعيد غسان تعريف القاعدة العسكرية، زمن الوجود العلني المسلح، ويتساءل عن ماهيتها وكيف فقدت وظيفتها التي هي بتعريفه: شكل تنظيمي مكلف بأداء دوره عمليا لوضع النظرية موضع التنفيذ" نعرف كيف انحرفت الفكرة وكيف أصبح حال القواعد العسكرية بعد استشهاد غسان في ذهاب متطرف نحو أقصى حذر منه حينها.

بعد المعضلة التنظيمية يقودنا غسان إلى المعضلة لعسكرية التي تعيشها المقاومة الفلسطينية فيلا زمنه، واضعا النقاش العقيم بين السياسي والعسكري وبين القاعدة العسكرية والتنظيم ومحيطها المدني في بؤرة الضوء وتحت مكشاف الحقيقة اللاذعة بما تستحقه التجربة من نقاش وتمحيص.

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل