المحتوى الرئيسى

د. أمل الجمل تكتب: عن جوائز “كان” وعلاقتي بالأفلام التي تشبه علاقتي بالبشر

05/24 10:13

اعترف أن علاقتي بالأفلام تشبه كثيراً علاقتي بالبشر، فهناك أفلام تبدو مبهرة أو أخاذة عندما ألتقيها للمرة الأولى، مع ذلك ورغم كونها جيدة لكنها لا تحتاج إلى لقاء آخر وكأنها قالت كل ما يمكن قوله بوضوح تام وكشفت عن كل خباياها، ويتملكني يقين أنها ستُصبح مع المشاهدة الثانية مفرغة ومسطحة تماماً، فأدرك أن الإعجاب الأولي كان خادعاً بسبب الزخارف الجمالية النابعة أساساً من التصوير والإضاءة وحركات الكاميرا التي تسرق العين وتُلهي العقل عن التركيز في مواطن ضعفها.

هناك نوعية ثانية من الأفلام تبدو بسيطة وإن كانت غامضة قليلاً، ويبقى عطرها طويلاً معي بعد خروجي من دار العرض وتستحث بداخلي الرغبة في المشاهدة الثانية وربما الثالثة لاستكشاف المزيد من جمالها المتواري في الأعماق وكأنها تخبئ أشياءً إنسانيا أو جمالية لم أنتبه إليها في اللقاء الأول، وهذه النوعية تشبه النبيذ المعتق كلما مضى عليه الزمن نحبها أكثر. وهناك أفلام لا تكف عن الثرثرة وإثارة الضجيج وتكون – ظاهرياً – بمثابة عبئاً ثقيلاً على المتلقي إن لم يُشحذ أسلحته ويستعد نفسياً لتلقيها، إنها تحتاج منا أن نمارس طقوساً خاصة قبل أن نلتقيها، فعلينا أن نتخلص من كل مشاغلنا ومشاكلنا ومتاعبنا، فحتى نصبح على مستوى التلقي والعمق والوجع لابد أن نكون في حالة من الاسترخاء تسمح باستقبال جمالها الضاغط والمرهق حتى نكتشف جوانبها الإنسانية.

النوعية الأولى ينتمي إليها في تقديري وبعد مشاهداتي للمسابقة الرسمية “الكانية” – التي تضمنت 21 فيلما – ثلاثة أفلام تصادف أنها جميعاً تدور حول شخصيات نسائية وهي فيلم “شيطان النيون” للمخرج نيكولاس ويندنج ريفن، وفيلم “المتسوقة الشخصية” للمخرج أوليفيه أساياس، وفيلم “هي” الذي قامت ببطولته الممثلة الفرنسية المبهرة إيزابيل أوبير من إخراج الهولندي الكبير بول فيرهوفن الذي عاد إلى “كان” بعد غياب طويل منذ فيلمه “غزيرة أساسية” عام 1992.

الشريط الأول “شيطان النيون” يدور حول فتاة مبهرة في جمالها تحلم بأن تُصبح عارضة أزياء، وبينما يبدأ الحلم في التحقق إذ تحتل مكان الأخريات وتصبح على القمة، فتدور حرب شرسة من الأخريات للتخلص منها والحفاظ على أوضاعهن. قوة الفيلم منبعها الأساسي الإبداع في التصوير والتشكيل بالضوء والألوان واتخاذ من الوحشية والرعب أوضاعا جمالية استثنائية للتعبير عن الغيرة والانتقام والعشق، لكن لا شيء آخر.

أما فيلم “متسوقة شخصية” للمخرج الفرنسي أوليفيه أساياس، والذي نال عنه أفضل إخراج مناصفة فيدور – في إطار من الرعب والتشويق – حول فتاة تعمل متسوقة شخصية لامرأة ثرية جدا، وهى تمقت مهنتها وترغب في أن تكون شخصاً آخر، لكنها مضطرة للعمل بها، وهى على تواصل روحي مع أخيها الذي توفي منذ فترة قريبة، حتى تبدأ في التمرد والإفصاح عن رغبتها وتجاوز الممنوع عليها، فرغم المتعة بالأداء التمثيلي وبالإخراج، لكن مشاهدة واحدة تكفي، وسيتم نسيانه سريعاً.

أما الفيلم الثالث (هي)، فتدور أحداثه حول امرأة شديدة الصلابة لديها رغبة في الانتصار والتوفق على الأخريات، وإثارة غيرتهن، وفي نفس الوقت قادرة على عدم الخضوع للمجتمع من حولها، مثلما لا تضعف رغم تعرضها للاغتصاب الوحشي من شخص ملثم، وتمقت والدها السجين بسبب جرائمه البشعة التي قتل خلالها عشرات من بينهم الأطفال، وإن كانت الأحداث تدور في قالب كوميدي يصعب أن يحتفظ بتأثيره ومفعوله مع المشاهدة الثانية، إذ يُصبح مثل النكتة التي تسمع مرة واحدة فقط، كما أنه بسبب الاستعانة كثيراً بلقطات تحريك– ورغم محاولة توظيفها في إطار العمل – لكنها أفقدت العمل كثيراً من سينمائيته، وجعلتني أشعر أنني أمام مسلسل تليفزيوني.

أما النوعية الثانية التي أشرت إليها في مقدمة مقالي، فينتمي إليها فيلم “بكالوريا” الذي نال جائزة الإخراج مناصفة، فمخرجه كريستيان مونجيو القادم من رومانيا، والذي سبق له الفوز بالسعفة الذهبية عام 2007 عن فيلمه اللافت جدا “4 أشهر و3 أسابيع ويومان.. هنا يتناول في شريطه الأحدث “بكالوريا” علاقات مرتبكة متوترة على حافة الانهيار في أسرة مكونة من الأم المريضة وابنتها المتفوقة على وشك امتحان البكالوريا، والتي تستعد للسفر إلى إنجلترا في منحة دراسية لتفوقها، والأب الطبيب المعروف بنزاهته والمشهود له بسمعته الطيبة، والذي يبدو فيه شيً من خصال الأمومة، إذ يساعد زوجته وابنته في إعداد الطعام لهما وإنهاء أشيائهما، مثلما يفعل مع والدته المريضة، لكن مع تطور الأحداث نكتشف تصدع العلاقة بين الأب وابنته أساسا بسبب معرفة الابنة بخيانة الأب، وإفصاح الابنة تدريجيا عن رفضها لأن تترك رومانيا والسفر إلى منحة إنجلترا لتعلقها بقصة حب في موطنها وارتباطها بأصدقائها.

كل هذا قد يبدو عادياً للبعض، لكن الأسلوب الذي لجأ إليه المخرج لسرد حكايته غير عادي بالمرة، وهو عمل سينمائي من الدرجة الأولى، خلاله يقدم لنا تفاصيل، بينما يسقط أخرى ويخبئ كثيراً من الحقائق، ويُبقى أموراً كثيرة غامضة – تماما كما هي الحياة – بحيث لا نعرف من قام بمهاجمة الابنة أمام المدرسة وحاول اغتصابها، ولا نعرف من قام بالوشاية بالأب وبمحاولته بفعل أشياء غير قانونية لينقذ ابنته في الامتحان حتى لا تضيع منها المنحة، ولا نعرف على وجه الدقة كيف اكتشفت الابنة خيانة أبيها، وأموراً أخرى عن نفوس معقدة لبعض رجال الشرطة وفساد بدواخلهم. إنه فيلم به كثير من الالتباس والغموض الجميل.

النوعية الثالثة التي لا يصح أن يشاهدها المتلقي بعد مشاهدة مجموعة أفلام بالمهرجان، أو وهو مرهق لأنها تحتاج إلى جهد وطاقة كبيرة أثناء تلقيها مثل فيلم “إنها فقط نهاية العالم” للمخرج الكندي الشاب إكزافييه دولان، وهو المخرج الذي امتدحه النقاد قبل عامين ووصفوه بالعبقري عندما نال الجائزة الكبرى للجنة التحكيم مناصفة قبل عامين مع العملاق جان لوك جودار، لكن هذا العام انشق النقاد حول فيلمه، حتى إن بعضهم خرج من دون أن يكمل مشاهدة الفيلم بسبب كثرة الحوار، أو الثرثرة على حد وصف البعض.

إكزافييه الذي يعد أصغر المتسابقين في “كان”، إذ يبلغ عمره السابعة والعشرين، نال عن شريطه الجديد – الذي أغضب النقاد – “إنها فقط نهاية العالم” It’s Only the End of the World”  الجائزة الكبرى للجنة التحكيم.

تدور أحداث الفيلم التحفة – المقتبس عن عمل مسرحي – حول كاتب شاب يعود إلى دياره وأسرته بعد غياب 12 عاما ليُعلن لهم عن اقتراب موعد وفاته، لكنه طوال الفيلم لن يستطيع أن يخبرهم وأثناء ذلك سنرى شيئاً أو أشياء من جملة الأسباب التي جعلته يهرب منهم ولا يعود إلا عندما يكتشف أنه على وشك الموت، كأنه جاء لوداعهم، وهو منذ البداية ينظر للعالم وللناس من حوله بنظرة رجل يمتص كل تفاصيل الحياة ويعيشها بكثافة كبيرة لا تحتمل.

من بين كل الأفلام المعروضة والتي شاهدتها في “كان” أغواني ستة أفلام بإعادة المشاهدة، كان في مقدمتها فيلم “إنها فقط نهاية العالم”، وشريط أصغر فرهادي، لإدراكي من متابعة أعماله السابقة أن هناك كثيرا من التفاصيل التي ينهض عليها العمل، والتي يصعب تلقيها دفعة واحدة مع المشاهدة الأولى، ثم فيلم “بكالوريا” وفيلم “باتريسون” لجيم جارموش، فرغم بساطته الشديدة، لكنه يغوي بإعادة المشاهدة لتأمل شاعريته المرهفة، وهو أحد فيلمين – إلى جانب البرازيلي “أكواريوس” كانا يستحقان جائزة.

كذلك فيلم “سيرانفادا” من الأفلام المهمة والتي تستحق مشاهدة ثانية. أما أكثر الأفلام التي جاءت مخيبة لآمالي بمهرجان “كان” السينمائي التاسع والستين، كان فيلمي “شون بين” الوجه الأخير”، وفيلم الأخوين داردين “الفتاة المجهولة”، والسبب سطحيتهما الشديدة والاكتفاء بكل ما هو شكلي من دون وجود جوهر حقيقي أو مضمون قوي.

جاء حصول كين لوتش بفيلمه “أنا دانيال بلاك” على السعفة الذهبية مفاجئاً لي، خصوصاً في ظل وجود أفلام أقوى على المستوى السينمائي مثل “بكالوريا” و”باتريسون”، و”إنها فقط نهاية العالم”، و”أكواريوس”، لأنه رغم قوة مضمون فيلم لوتش، لكن السيناريو يُؤخذ عليه عدد من الملاحظات والهنات التي تتعلق أساسا بشخصية البطلة التي تمثل الشخصية الثانية بالفيلم، فهناك تعسف في تطوير دورها للوصول إلى نتيجة محددة، ومع ذلك يمكن التغاضي عن ذلك، لأن شريط “أنا دانيال بلاك” يتضامن مع قضايا الفرد وهموم الطبقة الكادحة من خلال مناقشة الظلم الاجتماعي والوضع السيء والبائس الذي تعاني منه هذه الطبقة.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل