المحتوى الرئيسى

سمر طاهر تكتب: القطة الأم

05/24 10:12

حتى الحيوانات ممكن أن نسيئ فهمها؟!

كنت جالسة في حديقة النادي أتلمس بعض نسمات الهواء في نهار القاهرة القاسي حين رأيتها.. جاءت تحوم حولي تبحث ربما عن شيء تسد به جوعها.. يالها من قطة “مفجوعة” لم تنتظر حتى لأطلب طعاماً حتى تأتي لتقاسمني فيه.. بل أتت ربما شعوراً منها أنني مثلها جائعة وأنني على وشك شراء وجبة، هل تقرأ أفكاري؟! أو لعلها ظنت أن حقيبتي الكبيرة ممتلئة بما لذ وطاب أسوة بأمهات النادي اللواتي يأتين كل صباح بحقائب مكتظة من أجل ملاحقة أبنائهن بالسندوتشات والمكرونة الموضوعة بعناية في العلب البلاستيكية.

ظلت تحوم وتموء بطريقة مستفزة أنستني كل مبادئ الرفق بالحيوان، فنظرت لها شذرا لعلها تبتعد فلم تفعل.

ليست المرة الأولى التي أراها هنا بالتأكيد، فأنا أتذكرها جيداً، فحتى القطط لها شخصية.. وهذه القطة بالذات مستفزة جداً، لعلها شريرة أيضاً.. هي ليست ضخمة وليست مثل القطط السمان، لكنها أكثر استفزازا منهن ومنهم جميعاً.. نظرتها مخيفة ومواؤها يخترق القلب لقبحه.

تجاهلتها لدقائق فلم يكن معي أي شيء لإطعامها.. حتى ولو كان معي، فلن يتركني رواد النادي أقدم لها أي طعام بحجة أن ذلك التصرف يشجع القطط على الالتصاق بالرواد المحترمين.. ولم أكن قادرة حتى على التصدق لها بنظرة طيبة أو ابتسامة.. ولم يكن لتكفيها نظرة طيبة على أية حال، فهذه القطة قد جاءت من أجل الطعام ولا شيء سواه!

يأست هي وابتعدت قليلا، فتنفست الصعداء وراقبتها من بعيد، وهي تتجول وسط قطتين صغيرتين جداً لأول مرة أراهما في هذا المكان.. ربما صغيرتيها! لماذا تثير القطط الصغيرة كل هذه الشفقة في قلبي؟ لماذا الصغار دائماً أكثر براءة؟ أشعر أن هذه الكائنات لا يمكن أن تنتمي لهذه القطة الأم.. هل ستكبران لتتحولان لصورة منها؟ معقولة؟ لا، فأنا أظن أن شخصيتهما مختلفة عنها!

أوليس هذا هو نفس شعورنا تجاه الأطفال الصغار؟ هل نتصور أن يتحولوا لشخصيات غليظة القلب بعد سنوات من قدومهم للدنيا؟ أم أن الدنيا وهمومها قادرون على ذلك ببساطة؟

غيرت هذه الأفكار مزاجي إلى الأسوأ وحمّلتني “الهم”.. أنا التي جئت لألتمس بعض النسمات الرقيقة.. نصيبي كده!

قررت أن أطلب سلاطة، ربما تنسيني هموم الحياة.. دقائق وجاء الجرسون بطبق مليء بالألوان، وما إن وضعه، حتى عادت صديقتي اللدودة لتقف تحت الطاولة في جزء من الثانية.. معها هذه المرة القطتين الصغيرتين.. لم أعرف ماذا أفعل، فبدأت تناول السلاطة وتجاهلتهما.. لكن المواء يزداد، ولن يبرر لي “تقل دمها” تركها جائعة هكذا.

فكرت لثانية، ونظرت فلم أر أحد من رواد النادي يلاحظني، فقمت ووضعت لها قطعة من الطماطم على مقربة من طاولتي، فجريت عليها لتتشممها.. لم تشتهيها، وكنت متيقنة من ذلك، فتلك ليست تجربتي الأولى معها، فهي تحب الطعام الشهي، وليست نباتية على ما يبدو.. لكن ليس باليد حيلة، وعليها أن تأكل “إذا كان عاجبها”.. أتتني مجددا فأخبرتها أنه ليس معي شيء آخر.. لم ترضخ لكلامي، فحاولت أن أثبت لها وجهة نظري، فوضعت بجانب قطعة الطماطم بعض الخس، ربما تحسسها ميوعة الخس بأن للطماطم طعماً!

جريت لتتشممه وبدا عليها الإحباط، لكن من الواضح أن نظريتي صحيحة، حيث إنها بدأت بالفعل في لعق الطماطم.. يبدو أنها جائعة لدرجة الاستسلام لما هو متاح.

بدأت أنا أيضاً أتناول طعامي في محاولة للتشاغل عنها وعن قصتها، لكن مواءها المزعج أبى أن يتوقف.

نظرت لأستطلع الأمر، ففوجئت بواحدة من القطتين الصغيرتين تحاول الاقتراب من الطعام الملقى على الأرض، بينما الثانية تراقب الموقف وتتمنى المشاركة، لكنها أقل شجاعة من شقيقتها.. سارعت القطة الأم بإخافة ابنتها الشجاعة بمواء مخيف مصحوب بحركة تهديد.. جعلتها تتراجع عن فعلتها.

عند هذا الحد لم أعد أتحمل، فالقطة شريرة فعلاً لدرجة أنها تمارس شرها على طفلتها الضعيفة التي ترق لرؤيتها القلوب الغليظة.

ازداد همي، ولم أقو على تجاهل الأمر، فظللت أنظر لأتابع الموقف الانتهازي من القطة الأم.. وقررت أن أضع قطعتين صغيرتين من الطماطم على مقربة، وألفت نظر الصغيرتين إليهما، ربما عوضتهما عن قسوة أمهما!

فعلت ذلك رغم أن بعض الجالسين قد بدأ في مراقبتي وأنا أخترق قواعد النادي التي تنص على عدم إطعام القطط مجدداً.. لكن ما باليد حيلة يجب أن أصلح غلطتي!

فور وضعي للطعام في المكان الجديد، سارعت الأم كالفهد منقضة عليه لتوقف الصغيرتين عن الاقتراب.. إنها تفرض نطاق سلطتها على كل الطعام الملقى في أي مكان، طالما هي موجودة.. أكاد أسمعها تقول: “هذه منطقتي واللي عايز يجرّب يقربّ!”

مثل المحتل الذي يوسع رقعة مكاسبه بالوقاحة، فلا الصغيرتين قادرتين على الاقتراب من طعامهما، ولا حتى التفكير في الاقتراب من ما تبقى من طعام الأم.. هل تستحق حتى لقب أم؟ هل القطة فعلاً “أكلت عيالها” كما يخبرنا المثل الشهير؟ هل القطط لا تعرف حنان الأمومة؟

الأمر الآن يزداد سوءا بقدوم قط ضخم سمين يمشي على مهل، ويقترب من منظقة نفوذها.. هيأت أنا لنفسي أنه ربما والدهما.. على الأقل استسغت ذلك الخاطر، فاجتماعهم معاً يذكرني بمنظر أسرة في لحظة حياتية عادية. ما إن اقترب الأب (كما سأسميه)، حتى صرخت الأم صرخة أوقفته مكانه في الحال.. في هذه اللحظة العجيبة التفتت حولي بسرعة لأرى إذا كان هناك من يشهد ما أشهده من موقف يثير الدهشة، فوجدت الكل يتابع هذا المشهد المصغر من قانون الغاب، أو ربما من مسرح الحياة.. وما القطط إلا صورة مصغرة للسلوك البشري، لكن بلا تنقيح يذكر.

“معلمة”! هكذا قلت لنفسي.. فرغم نحافتها، إلا أنها تثير الإعجاب بقوتها.. سارع القط الضخم رغم هيبته بالرضوخ لها، واستلقى على الأرض يراقبها بدون أن يبتعد، وكأن الأمر لا يعنيه.. ربما حفاظا على كرامته.. “برنس في نفسه”.

فجأة.. قام رجل في منتصف العمر كان يراقب في صمت، ولكن الموقف استفزه لدرجة أنه نهض وركل بقدمه بقوة في الهواء، فخافت القطة الأم على الفور وسارعت بالهرب.. نظرت حولي لأجد نظرة سعادة من معظم الجلوس.

“سأفسرها –ذكورياً- بأن الرجل لم يأخذ أي موقف من الأم، وهي تخيف صغيرتيها، لكنه انتفض هو والجميع عند رؤية القط الضخم يهان.. عيب الرجالة تتهزأ من الستات، حتى لو في عالم القطط.. افتراض متحيز، لكنني أتبناه بسعادة”

وللحق.. فلقد فرحت أنا أيضاً رغم قسوة ما حدث.. ليس ثأرا لكرامة القط الذكر بالطبع.. ولكن لأن القطة فعلا “مفترية”، لكن الرجل لقنها أن “الكبير فيه اللي أكبر منه”.

بدأ القط الضخم في تناول الطعام، وكذلك القطة الصغيرة الشجاعة فعلت للحظة على استحياء، ثم سرعان ما لحقت بأمها مع شقيقتها الجبانة.

يبدو أن الوضع مستتب الآن، فقد آن للعدالة أن تأخذ مجراها.. التفتت حولي لأبحث عن القطة الأم.. هل ستستسلم ببساطة للإهانة وفقد المكتسبات؟

وجدتها بالفعل منزوية.. هي وصغيرتيها، وقد استسلمت لالتصاقهما بجسدها على غير المعتاد، وفجأة تخلت عن صلفها وانسابت بهدوء لتتمدد وتترك جسدها لهما طواعية لتنهلا منه حليبا يشبعهما.. الصغيرتان ترضعان الآن!

يا له من مشهد خارق، حيث يتخلى كائن عن كبريائه وجزء من طاقته، وحتى مساحته الشخصية طواعية لآخرين كي ينهلوا منه بغير استياء، فالمخلوقة الشرسة منذ دقائق مضت، لم تكن سوى قطة جائعة تحتاج للطعام من أجل إنتاج حليب لإرضاع صغيرتيها بعد قليل.. مشهدان لا يفصل بينهما سوى بضع دقائق، لكن شتان بين ذلك وذاك.. أو هما وجهان لعملة واحدة، لكن ليس من السهل على ذي النظرة السطحية العابرة أن يدرك ذلك.

القطة اختارت أن تأخذ بأنانية، لأنها تعلم أن وقت العطاء قادم لا محالة.. ولن ينفعها أحد إذا جاء وقت الرضاعة ولم يكن في جعبتها حليب يسد جوع صغيرتيها.. بفطرتها ساعدت نفسها أولاً.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل