المحتوى الرئيسى

سلوك مختلف فى التظاهر

05/22 21:38

بنهاية الحرب العالمية الثانية وقف علماء النفس أمام فداحة نتائج تلك الحرب والتى أهمها على الإطلاق مقتل ما يقرب من 50 مليون إنسان بحسب بعض التقديرات، بين مدنيين وعسكريين من مختلف الفرق المتحاربة، فى عالم لم يتجاوز عدد سكانه 2.5 مليار نسمة آنذاك، فى حرب وجه فيها الإنسان إبداعات عقله نحو ابتكار وسائل للموت برعت فى القتل حتى أدت إلى تغيرات عديدة فى جوهرها مثلت انتقالا إلى عصر جديد للحروب أكثر دموية.

حمل التاريخ «أدولف هتلر» وزر تلك المأساة الأكبر فى تاريخ البشر، وأصبح العقل البشرى يستحضر صورته حين تذكر تلك الحرب أو ضحاياها، وعلى الرغم من أنه لا يوجد ما يشير إلى أن هتلر قام بفعل القتل بنفسه، حيث لم تقتل يداه إنسانا واحدا، إلا أن رجال هتلر والمؤمنين بمبادئه من شعبه، عرفت الدماء الطريق إلى أياديهم بغزارة، وكان السؤال هو كيف تحول الإنسان إلى وحش يقتل هذا الكم من البشر من دون رادع أخلاقى ربما هو ما يميزه حقا عن الوحوش.

وجد جانب من الإجابة عالم النفس الأمريكى «ستانلى ملغرام» فى تجربة أجراها فى جامعة «ييل» الأمريكية عام 1961، وهى التجربة التى استندت إلى امتلاك بعض الأشخاص سلطة استخدام آلية للعقاب بالصعق الكهربى حتى 450 فولت، قابلة للتدرج فى ظل وجود قائد لهم له صفة رسمية، وكانت النتيجة أنه بمجرد صدور الأمر من الشخص ذى السلطة بتنفيذ العقاب، استخدم الأشخاص محل التجربة أقصى درجات العنف والتى تمثلت فى الصعق بتيار كهربى قوته 450 فولت، وعلى الرغم من صرخات المعذبين فى الغرفة المجاورة (لم تكن حقيقية) ، إلا أن مقدار الألم ذلك لم يشفع فى 65% من حاملى المفاتيح الكهربية حتى فى خفض مقدار التيار الكهربى، على الرغم من وجود امتعاض منهم هم ذاتهم قبل أن يصدر الأمر الذى أعفاهم من المسئولية القانونية.

إذا، فنحن أمام نتيجة مفادها أنه بمجرد ظهور من يتحمل النتيجة القانونية عن أفعال البشر، سواء كان شخصا أو مجموعة أو حزبا أو غير ذلك، فإن العنان يطلق أمام عدوانهم، بل يمتد الأمر ليصل إلى اختفاء البعد الأخلاقى وتلاشيه تماما طالما هناك من يتحمل عقبات أفعالهم، فخضع العديد من الألمان إلى التأثير الاجتماعى المعلوماتى، أى تقبل المعلومات الواردة من القيادات العليا آنذاك بوصفها حقائق تشكل المزاج العام والسلوك الجمعى لغالبية الألمان، حتى وإن كان هناك رافضون لتلك المواد التى يتم تسويقها فإن البطش الشديد الواقع على مناهضى النازية وقتها كان كفيلا بجعل تلك المناهضة أمرا سريا داخل المعارضين، وهى النتائج التى قادت جميعها إلى نهاية واحدة، إلى ظاهرة الامتثال، أو ما يمكن وصفه بسلوك القطيع، وهو ما أطلق العنان للنازيين للتوحش، فى حين كانت تنظر إليهم أمتهم باعتبارهم مواطنين شرفاء يدافعون عن هوية ألمانيا ونقاء عرقها ويستعيدون كرامتها المهانة فى فرساى بعد الحرب العالمية الأولى، وعلى الرغم من وجود من يؤمنون بأفكار ومبادئ النازية إلى يومنا هذا وليس فقط فى ألمانيا، فإن تفعيل القانون ومناعته يمثل مانعا قويا فى إعادة إنتاج شخص ما يتحمل المسئولية القانونية لهؤلاء.

فى إحدى التجارب التى قام بها مجموعة من الباحثين فيها يتعلق بالامتثال، وجد أن الشخص قد يمارس نفس سلوك الجماعة حين تقع تحت تأثير معين، فعلى سبيل المثال إذا ما كان المؤثر هو صوت صافرة ينتج عنه حركة جماعية، فبعد عدة محاولات فإن الشخص سوف يمارس الأفعال ذاتها التى تمارسها الجماعة حين تخضع لنفس المؤثر، أى صوت الصافرة، من دون أن يجد إجابات منطقية تفسر ذلك السلوك، وفى ظل عالم أصبح شديد التواصل ببعضه البعض، نتيجة التطور الهائل لتكنولوجيا الاتصالات، أصبح المؤثر والفعل كلاهما لا يقتصر على مجموعات اجتماعية محدودة، بل تجاوز ذلك ليكتسب طابعا عموميا، وبالنظر إلى ظاهرة مثل التحرش التى أصابت المجتمع المصرى، فإن ضمان وجود غطاء قانونى لها عند استخدامها كآلية سياسية لمنع النساء من التصويت أو ترهيبهن عند مشاركتهن فى فاعليات سياسية، والتى تضمنت إخلاء من المسئولية القانونية وتجنب العقاب لمرتكبيها، مما أدى إلى توسع الظاهرة وتجاوزها النطاق السياسى حتى أضحت آفة من آفات المجتمع المصرى التى تعانى منها المصريات، وكذلك جرائم العنف الطائفى التى يتم تسويتها فى جلسات صلح عرفية خارج إطار القانون، من دون رادع أو عقاب فعال، جعلت فى نفوس مرتكبيها حالة من الطمأنينة بأن ممارسة الاعتداء تلك خارج إطار المحاسبة القانونية، فلم تمنع تكرارها وتصاعد حدة وتيرتها.

إلا أن الأمر حين يصل إلى تسويات سياسية عن طريق شحذ فئات مجتمعية لتعبر عن نفسها باستخدام العنف ضد فئات أخرى مع وجود الغطاء السياسى الضامن لعدم المساءلة القانونية، وهى الطريقة التى انتهجتها جماعة الإخوان المسلمين فى أحداث الاتحادية فى ديسمبر 2012، وكذلك باستثناء التظاهرات المؤيدة للنظام الحالى من تطبيق قانون تنظيم التظاهر، بل امتد الأمر إلى محاصرتهم لنقابة الصحفيين والتعدى عليها تحت مرأى ومسمع من جهات إنفاذ القانون، فإننا هنا أمام واقع خطير قد ينتج عنه ثنائية سياسية إحداهما تمارس القمع، والأخرى يتم انتهاكها منهجيا فى ظل عدم حيادية للقانون، وهو ما قد ينتج عنه اقتتال أهلى سوف يجعل من الجميع ضحايا إن حدث.

فى السادس من أكتوبر عام 1992، حدث الطلاق السياسى المخملى بين التشيك والسلوفاك، فذهبت إلى ذاكرة التاريخ جمهورية تشيكوسلوفاكيا بعد 74 عاما منذ تأسيسها كفيدرالية تجمع بين السلوفاك والتشيك عام 1918، فأصبحت الجمهورية الواحدة جمهوريتين، من دون معارك عسكرية، أو أهلية أو حتى استفتاء تصويتى للانفصال، كل ما حدث هو اتفاق بين الحزبين الحاكمين آنذاك وهما الحزب المدنى الديمقراطى اليمينى فى تشيكيا وحزب الحركة من أجل سلوفاكيا الديمقراطية القومية، وعلى الرغم من علاقات المودة التى تجمع بين السلوفاك والتشيك، فإن العقل الجمعى للسلوفاك قد خضع آنذاك لامتثال مفاده أن التشيك ينظرون بدونية إلى السلوفاك نظرا للثقل الثقافى والسياسى والعددى لهم، بينما خضع التشيك لامتثال مفاده أن الانفصال هو خيار سلوفاكى فى الأساس، فى حين أن ترتيبات الانفصال وتنفيذه لم تتجاوز مكاتب الأحزاب السياسية المعبرة عن كل فريق.

وفى موقع آخر من العالم، وتحديدا فى السودان، حيث تختلف كل المعطيات السياسية والثقافية والاجتماعية عن الحالة التشيكوسلوفاكية، وكذلك الميكانيزمات المتبعة، إلا أن النهاية واحدة، وهى الانفصال، فبعد استقلال السودان عن الاحتلال البريطانى والحكم المصرى، شعر الجنوبيون بتهميش حاد، عززه التفاوت الثقافى والاجتماعى، مما جعل الامتثال للدعوة للانفصال ينتشر على مدى سنوات عدة، تخللها اقتتال أهلى، ونزاع سياسى أدى إلى وجود طرفين مستقلين نفسيا، قبل أن يحدث الانفصال الفعلى فى فبراير 2011.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل