المحتوى الرئيسى

العشق الممنوع بين الإرهاب والاستبداد

05/21 13:34

الحرب أهم مبررات الاستبداد، فالعدو الخارجي المتربص بالوطن يُمثل فزاعة تستعملها السلطة المستبدة لتُخرس كل صوت مُعارض في الداخل، ولتتهم من يرفع صوته بنقد أدائها بأنه عميل للعدو ويُهدد أمن البلاد.

أبرمت مصر اتفاقية سلام مع عدوها التاريخي في الشمال الشرقي من حدوها، جرى توقيعها في الولايات المتحدة الأميركية العام 1979؛ ورغم كل الانتقادات التي وُجهت للمعاهدة بشأن ما تضمنته من تنازلات عن جوهر السيادة على أغلبية سيناء بقبول نزع سلاح منطقة شاسعة منها، وهي المسماة (ج)، ثم تقييدها لعدد وعتاد القوات في المنطقة (ب)، ويشكلان معاً أغلبية سيناء؛ بالإضافة إلى ما أدى إليه -من وجهة نظر البعض- تفاوض انفرادي، ومن ثمّ شق الصف العربي..

بغض النظر عن ذلك، فلسنا في مقام تقييمه، فإن الاتفاقية نزعت، في مصر على الأقل، فزاعة الحرب ليتطلع الشعب إلى ما بعد الحرب متسائلاً عن التنمية التي قيل إنها تأخرت بسبب الحرب، والعدالة الاجتماعية التي زُعم أن الحرب لم تُعطِ وقتاً لإنجازها، والحرية التي جرى تبرير تقييدها، بل تغييبها، بضروريات الحرب.

كانت السلطة في ورطة أمام مطالب شعبها، واضطرت أن تفتح ثقباً صغيراً في جدار الاستبداد، لتجري انتخابات شبه نزيهة في 1984، ثم 1987، وكلاهما نشأ عنها مجلس للشعب جرى حله بحكم من الدستورية العليا قبل اكتمال مدته. وعادت السلطة بعدهما لإغلاق الثقب وترميم جدار الاستبداد كاملاً تحت ذريعة جديدة وهي محاربة الإرهاب.

مثّل الإرهاب المُنقذ الذي اصطنعه الاستبداد ليكسر به مطالب الشعوب في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة. فعاد تزوير الانتخابات على مدى واسع تخطى استبدال الصناديق إلى استبدال النتائج المُعلنة، فكان يُمكن للقاضي الواحد أن يُعلن نتيجة دائرة انتخابية، ثم بعد رنين تليفون غرفته يعود لإعلان أخرى مُناقضة.

وبدأت عملية تدمير ما تبقى من أسس العدالة الاجتماعية، فبيعت الشركات العامة وجرى تفكيك المصانع الوطنية تحت عنوان الخصخصة وتوسيع قاعدة الملكية، والتي كانت بمثابة توسيع قاعدة الفساد، ليشمل دوائر أوسع من تلك الضيقة التي تحلقت حول السلطة منذ بداية الانفتاح في نهاية السبعينات ونهاية فترة حكم السادات.

وبدلاً من معالجة مشكلات القطاع الخاص ووضع ضوابط لتوظيف الأموال، جرى خنق أية محاولة خارج نطاق المؤسسات الحكومية لتكوين قاعدة اقتصادية شعبية، بحيث لا يجد الناس سوى كنز أموالهم في البنوك التي تُسيطر عليها السلطة، لتقوم هذه السلطة نفسها، والتي هي أمينة على أموال الشعب، بتسهيل الاستيلاء على أموال المودعين عن طريق السماح بعمليات اقتراض هائلة لحاشيتها من رجال الأعمال المصطنعين، والتي يجري تحويل أغلبها لبنوك أجنبية.

وعلى التوازي أجرت السلطة عملية تطهير واسعة للمجتمع من الأفكار الثورية أو تلك التي تؤسس لمفاهيم الحرية والعدالة، وأفسحت المجال للأفكار المهادنة التي تجذب الشباب إلى الانحلال أو على النقيض إلى البحث عن الغيبيات أو الغرق في الشكليات والإجراءات والطقوس والانزلاق بعيداً عن الأفكار الإيجابية والمقاصد والتصورات التي تُسهم في بناء المجتمعات وتؤسس لدول محترمة.

أمكن لحسني مبارك أن يقبض على السلطة ثلاثين سنة بأدوات تمثلت في ثلاث: أولها المخابرات العامة التي تعمل لحماية ما يُسمه الأمن القومي، رغم أن هذه الفترة ذاتها شهدت أكبر سطو على معنى الأمن القومي، بحيث لم يكن لمصرييَّنِ أن يتفقا على معنى أو حدود للأمن القومي؛ كما لم يُكمل جاسوس واحد مدته بالسجن، بينما سُجن أو قُتل أو أُخفي عشرات بل مئات ممن حاولوا حماية الأمن القومي الحقيقي، كسليمان خاطر والفريق الشاذلي وغيرهما.

والثاني، كان قطاع أمن الدولة، والذي تحوّل من جهاز للمعلومات إلى ميليشيا مُسلحة تقتحم البيوت في الليالي الحالكة وتقتل المُشتبه فيهم دون محاكمة وتُعذب من تعتقلهم في أقبية سجونها الخاصة بذريعة متابعة التطرف الديني والإرهاب؛ بينما نفس الفترة شهدت نمواً غير طبيعي -تحت رعاية نفس الجهاز- لأفكار ومدارس دينية واردة غيّرت طبيعة المجتمع المصري السمحة، واستعملها المجلس الأعلى للقوات المُسلحة لاحقاً كمخلب قط لضرب ثورة يناير وكسر تطلع الشعب للحرية وللعدالة.

أما الجهة الثالثة، فكانت شبكة فساد واسعة شكّلها مبارك على مهل من بعض رجاله وأصدقائه القدامي، ثم أصدقاء ابنيه في وقت لاحق؛ كان يُشترط فيهم الولاء لشخصه ولابنيه، والجهل بأصول العمل الاقتصادي، ليتحولوا إلى مجرد وكلاء وسماسرة لشركات متعددة الجنسية مقابل رشى وعمولات يحصلون على حصتهم منها، بينما النصيب الأكبر يذهب لعائلة الأب الروحي في تلك المافيا.

تحولت مصر إلى جزيرة قمع وبحيرة فساد وساحة للجهل وترويج الأفكار الزائفة في ظل فزاعة الإرهاب التي استعملها النظام، بينما من قتلهم أو سجنهم أو أخفاهم أضعاف مضاعفة لمجمل كل حوادث الإرهاب المزعومة.

عاد النظام للحكم بانقلاب 3 يوليو 2013، وعادت معه كل أدواته، لكن الأهم أنه عاد بنفس الفزاعة بشكل أكثر فجاجة وبطريقة تُذكر بالمسرح العبثي، الذي يصرخ فيها الممثل على خشبة المسرح بأن العدو يُحاصر المدنية ويحرق بيوتها، وأن الدمار أصبح ينتظرها عند الصباح، بينما لا يرى المتفرجون ولا يسمعون سوى حفيفاً لموسيقى تصويرية يتيمة؛ ومع ذلك تلتهب أيديهم بالتصفيق.

أدركت السلطة الانقلابية أن مُبرر وجودها وسبب بقائها -إن قُدر لها بقاء- هو اصطناع الإرهاب، فاختلقته أو على أقل تقدير شجعته في سيناء وفي الفرافرة وفي الدلتا وفي الصعيد، بتفجيرات وعمليات اغتيال لجنود وضباط، بل والنائب العام. فمعلوماتها التي تتسرب من بين أصابع مُحققيها وصحفييها المقربين، تُظهر أن خلف كل عملية ضابط يُقال إنه مُتقاعد أو متبنٍّ للفكر الإرهابي أو فارٍّ من الخدمة، لكنه دائماً ضابط؛ ومع ذلك فإنها تُصر على اتهام كل من يُعارضها بأنه يُسهم في تأجيج الإرهاب وله صلة بالإرهابيين وساهم في عملياته، إلى غير ذلك.

لا يُمكن لأي مُتابع مُنصف إلا أن يرى أصابع تلك السلطة خلف استنهاض الإرهاب، وأحيانا خلفاً العمليات التفصيلية، ومع ذلك فإن بعض الجوقة يصرخون بأن الإرهاب يُحاصر السلطة التي تحاول أن تُنقذ البلاد من بين فكيه، وينتفض من الحماس بعض المتفرجين وتلتهب يداه من التصفيق، رغم إنه لا يرى إلا المسرح والجوقة ولا يسمع إلا موسيقى تافهة تحاول أن تصوّر له حالة الخطر التي لا تمس أبدا جوهر السُّلطة.

لا يُمثل الإرهاب وسيلة لأي شعب في التخلص من الاستبداد، على العكس فإنه يُنقذ الاستبداد من استحقاقات تولي السلطة ومن مطالبة الشعب له بالإصلاح والشفافية وإغلاق السجون وفتح الجامعات وهدم الحصون وإقامة المشافي والمصانع. إنه يدعي الانشغال في حماية الشعب من الإرهاب، وهو في سبيل ذلك ينكل بالشعب ويقتل أبناءه، ولا يجرؤ أحد أن يطالبه بمحاكمة أبناء السلطة المتورطين في القتل، لأن ذلك -وفقاً لدعايته- يُساعد الإرهابيين.

أصبح الإرهاب ضرورة لبقاء سلطة القمع والاستبداد، وأصبح ضمان استمرار عمليات الإرهاب أهم ما يؤرق تلك السلطة، ليس مهماً لِمَ، وأين، وما هي الضحية التالية، المهم أن يستمر حتى تضمن سُلطة القمع بقاءها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل