المحتوى الرئيسى

بن علي يلديريم يعيد «الأمانة» إلى أردوغان

05/21 01:02

كما تسلمها قبل حوالي العشرين شهراً، ها هو احمد داود أوغلو يسلّم «الأمانة» إلى اسم آخر. غداً «ينتخب» المؤتمر العام لـ «حزب العدالة والتنمية» رئيسه الثالث في تاريخه بعد داود أوغلو، ومن قبله رجب طيب أردوغان.

استطلاع اتجاهات الرأي داخل «حزب العدالة والتنمية» حول الشخصية المفضلة لخلافة داود أوغلو لا تُخفي هزلية الإخراج. غداً ينتخب المؤتمر وزير المواصلات بن علي يلديريم، لأن الأكثرية الساحقة وبفارق واسع فضّلته في استطلاع الرأي الحزبي على كل من وزير العدل بكر بوزداغ ونائب رئيس الحكومة نعمان قورتولمش ووزير الطاقة برات البيرق.

أراد الحزب أن يعطي صورة عن ديموقراطيته في تناقض واضح مع استطلاع الرأي الذي أجراه لمعرفة من سيتولى زعامة الحزب بعد أردوغان. حينها نال رئيس الجمهورية عبدالله غول 96 في المئة من الأصوات، ولم ينل داود أوغلو سوى واحد في المئة. ومع ذلك كان القرار الأعلى بأن يكون الواحد في المئة هو زعيم الحزب.

يغادر داود أوغلو، ليس لذنب اقترفه في العلاقة مع أردوغان، بل لأن الأخير يريد رئيساً جديداً للحزب ينسجم معه مئة في المئة، وليس حتى 99 في المئة. حتى عبدالله غول، الذي يملك حيثية قوية جداً داخل الحزب، كان يتحفظ على بعض السلوكيات الأردوغانية، لكنه كان دائماً ما يوافق كرئيس للجمهورية على كل القرارات والقوانين التي يصدّرها رئيس الحكومة أردوغان. ومن هذه المصادقات قوانين تتعلق بقمع الحريات وإلغاء الفصل بين السلطات.

المفارقة أن الذين يقع عليهم غضب «الرئيس» لا يعودون إلى الحزب، أو لا يواصلون ممارسة العمل السياسي بشكل قوي. كانوا يُوضَعون على الرفّ ولا ينزلون عنه أبداً. هذه كانت حال عبدالله غول وبولنت أرينتش، وهكذا ستكون حال احمد داود أوغلو الذي سينصرف، مع بقائه نائباً، إلى استكمال كتابة بعض الكتب.

غداً تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ «حزب العدالة والتنمية». وقد تكون أيضاً جديدة في تاريخ تركيا.

عزل داود أوغلو كان، كما يعرف الجميع، بسبب تحفظه على تعديل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي. غداً سيأتي بن علي يلديريم متعهداً مسبقاً بالطاعة العمياء للزعيم الأوحد. سيعمل ليل نهار لدفع التعديل في قنواته الدستورية أو الشعبية. أي أن يلديريم (أي الصاعقة) يعرف مسبقاً مهمته المقبلة.

في حال نجحت خطة أردوغان في تعديل النظام السياسي، فإن يلديريم سيدخل التاريخ كونه آخر رئيس للحكومة في تركيا، وكونه آخر رئيس لحزب منفصل عن موقع رئاسة الجمهورية. فالنظام الرئاسي الذي يخطط له يلحظ أن يكون رئيس الجمهورية رئيساً للحزب، وفي حال طُبِّق النظام الرئاسي الأميركي نموذجاً، فإنه لن يكون هناك منصب رئيس الوزراء.

وعلى هذا يتوقع المراقبون أن تكون فترة يلديريم في موقعه بحجم الفترة التي ستفصل عن إقرار النظام الرئاسي. أما إذا لم تنجح خطة أردوغان، ولم يقر النظام الرئاسي فإن السيناريوهات ستتغير بشأن بقاء يلديريم في موقعه، أو تعيين آخر أكثر انصياعاً له، وربما أكثر قرابة عائلية.

لا يأتي يلديريم من خلفية فارغة، فهو من مؤسسي «حزب العدالة والتنمية»، وكان وزيراً للمواصلات على امتداد 12 عاماً حتى العام 2014 عندما ترشّح لرئاسة بلدية إزمير، في مغامرة أرادها له أردوغان في قلعة العلمانيين، لكنه فشل فيها. لكن أردوغان سجل له قبوله هذه المغامرة الفاشلة، فحفظ له الجميل بتعيينه غداً رئيساً للحزب.

ويلديريم معروف بوضعه خططاً لمشاريع عملاقة على صعيد البنى التحتية، من المطارات والجسور والأنفاق والطرقات. بل ارتبطت هذه باسمه. مع ذلك، فهذه المشاريع لم تكن السبب لاعتماده من قبل أردوغان، الذي اصطفاه لإخلاصه ولوقوفه إلى جانبه في كل الموضوعات الخلافية بين أردوغان وداود أوغلو، فعمّد ولاءه بالممارسة العملية. كذلك فإن يلديريم هو من كبار رجال الأعمال الأتراك، ويملك أسطولاً من 27 باخرة، وبذلك يكتمل التحالف بين عائلة أردوغان والبورجوازية التركية المحافظة، خصوصاً بعدما بات رجل الأعمال ومنتج الطائرات بلا طيار سلجوق بيرقدار صهر أردوغان لابنته سمية، وبعدما أصبح برات البيرق، رجل الأعمال المعروف ووزير الطاقة الحالي والمحتمل أن يصبح وزيراً للاقتصاد وممسكاً بملف الاقتصاد التركي صهر اردوغان لابنته إسراء.

عمر تشيليك، القيادي في «حزب العدالة والتنمية»، والذي أعلن ترشيح يلديريم لرئاسة الحزب كان واضحاً جداً بقوله إن «زعيمنا» هو رئيس الجمهورية، وإنه «لا توجد مسافة حتى ميلليمتر واحد بين الحزب وبين رئيس الجمهورية»، في مخالفة صارخة للدستور الذي يحكم العلاقة بين رئيس الجمهورية والأحزاب وكل المؤسسات الأخرى.

قضي الأمر، والحديث عن رئاسة أردوغان لنظام رئاسي بحكم القوة لم يعُد انتهاكاً للدستور، وهذا شكل أساساً لانتشار الحديث عن مواصفات رئيس الحزب والحكومة الجديد، وان يكون «منخفض» المواصفات، أي ضعيف الشخصية. وبما أن «القضية» التي تحدث عنها يلديريم بعد ترشيحه لرئاسة الحزب بات محسوماً لواؤها، وقبل أسبوعين وأكثر لأردوغان، فقد انصرف قادة الحزب إلى التلهي بشواربهم، نعم بشواربهم. إذ انتشرت ظاهرة عجيبة فاجأت الرأي العام التركي خلال الأسبوعين الأخيرين، وهي أن العديد من المرشحين المحتملين لخلافة داود أوغلو قد أطلقوا شواربهم. من هؤلاء وزير العدل بكر بوزداغ ونائب رئيس الحكومة يالتشين آقدوغان ووزير الاقتصاد مصطفى أليتاش ووزير الثقافة والسياحة ماهر أونال. وعندما تحرّت الصحافة عن السبب كان الجواب مقتضبا «إنها تعليمات أردوغان!».

لن تنتهي المهمة المقدّسة غداً بشعار»نعم لاستمرار المهمة المقدسة»، فما ينتظر «حزب العدالة والتنمية»، كما تركيا، كثير من التطورات. بعد انتهاء المؤتمر غداً سوف يذهب داود اوغلو ليقدم استقالته، وليتم من بعدها تكليف رئيس الحزب الجديد مهمة تأليف الحكومة. البعض يرى أنه قد تحصل مفاجأة بأن يكون رئيس الحكومة شخصية غير التي ستنتخب لرئاسة الحزب، وذلك من منطلق أنه إذا لم تصح خطة أردوغان لتعديل النظام الرئاسي يكون أردوغان أمام شخصيتين منفصلتين، ما يشكل المزيد من ارتباطهما به واستبعاد احتمال أن يتمرد أحد عليه.

بعد تكليف شخصية لرئاسة الحكومة، في العادة تكون رئيس الحزب نفسه، فإن أولى أولويات الحزب هي إقناع «حزب الحركة القومية» بتأييد اقتراح تعديل الدستور في البرلمان. لكن هذا التأييد غير كاف، إذ يحتاج التعديل إلى 367 صوتاً، بينما مجموع أصوات «الحركة القومية» هو 40 نائباً يضافون إلى نواب «العدالة والتنمية» الـ317 ليبقى العدد دون ذلك. هذا الاقتراح هنا يمكن أن ينجح في حالة واحدة، وهو انضمام بعض نواب «حزب الشعب الجمهوري» إلى تأييد الاقتراح. ولكن كل هذه السيناريوهات ضعيفة، وتحتاج إلى معجزة.

يبقى مخرج واحد لـ»العدالة والتنمية»، وهو اكتساب تأييد 14 نائباً من نواب «الحركة القومية» ليصل العدد إلى 330 نائباً، على اعتبار أن رئيس البرلمان من «العدالة والتنمية» ولا يحق له التصويت. وحينها يمكن لاقتراح التعديل أن يتحول إلى استفتاء شعبي.

في حال فشل هذه السيناريوهات، فلن يكون أمام «حزب العدالة والتنمية» سوى الذهاب إلى انتخابات مبكرة، قد تكون في السنة المقبلة. والهدف منها فوز الحزب بثلثي المقاعد، أي 367 نائباً أو 330 مقعداً. ويتبع الحزب خطة شيطانية لبلوغ هذا الهدف:

أولاً، إضعاف «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، من خلال رفع الحصانة عن العديد من نوابه (وتم التصويت بنجاح أمس على ذلك)، من بينهم رئيس الحزب وأبرز قياداته بحيث يذهب لاحقاً إلى انتخابات نيابية، وهو مفكك الأوصال وضعيف فلا ينجح في تجاوز نسبة العشرة في المئة فيبقى خارج البرلمان ليرث «حزب العدالة والتنمية» مقاعد النواب الأكراد، لكونه الحزب الثاني في المناطق الكردية.

ثانياً، العمل على كسب تأييد «حزب الحركة القومية» لتعديل النظام السياسي، من خلال تصعيد الحملة على «حزب العمال الكردستاني» ورفع الحصانة عن النواب الأكراد، فيحصل مقترح التعديل الدستور على 330 نائباً على الأقل.

وإذا لم ينجح «العدالة والتنمية» بهذه اللعبة، فإنه يعمل على بذر الشقاق داخل «الحركة القومية»، وهو ما يحصل الآن بحيث ينقسم الحزب أو يذهب إلى انتخابات نيابية مبكرة أيضاً مشرذماً مفككاً، فيفشل بدوره في تجاوز نسبة العشرة في المئة ليبقى خارج البرلمان. وفي هذه الحالة، يقتصر تمثيل الأحزاب في البرلمان على حزبين كما كان الحال في العام 2002، وهما «العدالة والتنمية» و «الشعب الجمهوري»، ولتكون أكثرية ساحقة تتجاوز الثلثين للأول، فيمرر من التعديلات الدستورية ما لذ له وطاب.

في حال دخلت تركيا في هذا المسار فإنها ستكون أمام تحولات جذرية. إذ ستكون عودة إلى ما كان عليه الوضع في عهد أتاتورك وحتى العام 1945، قبل أن يتعدل الدستور، وتعتمد تركيا نظام التعددية الحزبية. وفي هذه العودة إلى ما قبل 1945 دلالات متعددة ومخاطر ومخاوف على التعددية السياسية، خصوصاً في ظل وجود شخصية طاغية مثل أردوغان تريد إحياء النزعة العثمانية في الداخل بعدما فشلت في الخارج. إذ إن النظام الرئاسي سيعني «نظاماً سلطانياً» بغلاف جمهوري. ولكن هذا النزوع إلى الاستبداد السياسي، المعطوف على نزعة دينية، قد يدخل البلاد في توترات سياسية واجتماعية، خصوصاً أن زعيم «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو كان حذّر من أن إقامة نظام رئاسي لن يمرّ من دون إراقة دماء. وعاد الثلاثاء الماضي ليؤكد أنه «لن يمرّ إلا على أجسادنا، بل مستعدون لبذل دمائنا منعاً لذلك، وسأكون أول من يكون مستعداً لبذل دمه».

وهذه التحذيرات لا تأتي فقط من المعارضة، بل من المقربين من الحزب، ومن هؤلاء نائب رئيس الحكومة السابق بولنت أرينتش الذي ألغت جامعة طورغوت اوزال مشاركته في مؤتمر تعقده لتكون ردة فعل أرينتش عنيفة، معتبراً أنها ممارسات لنظام قمعي، قائلاً «إن كتب التاريخ مليئة بالأمثلة عن النهايات الحزينة للأنظمة القمعية، ولمن يسير على هذه الطريق من الاستبداد».

نجح أردوغان في تعزيز قبضته على «حزب العدالة والتنمية»، وعلى تطويع القضاء وتدجين العسكر ومصادرة الحريات الإعلامية وانتهاك الدستور، بممارسة صلاحيات ليست له، وعلى اختزال كل شيء بشخصه، بل على تمرير «عرس سلطاني» لابنته سمية وسط السقوط اليومي لعشرات الجنود الأتراك والدم الذي يغطي الشوارع في المدن الكردية.

ربما يذكّر هذا بالاحتفالات الصاخبة التي أقامها شاه إيران محمد رضا بهلوي في العام 1971، لمناسبة الذكرى الـ2500 لتأسيس الإمبراطورية الفارسية، قبل أن يسقط بعد ثماني سنوات بثورة تاريخية، مع فارق أن تركيا قد لا تنتظر كل هذه السنوات على قاعدة أن «كثرة الدقّ تفك اللحام».

قال رئيس الاستخبارات التركية الأسبق جواد أونيش إن ذهاب الأكراد في العراق إلى استفتاء على الاستقلال قد يجعلهم يدفعون ثمنا له، ولذا عليهم أن يكونوا أكثر دقة ورويّة وحساسية.

وقال إنه من المبكر النظر إلى استقلال كردستان من زاوية المصالح التركية. فعلى تركيا أن تحدد بدقة أي سياسة ستتبعها تجاه استقلال أكراد العراق قبل أن تحل مشكلة أكرادها. وعليها أن تنتج سياسات تأخذ في الاعتبار التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط وسياسات القوى الكبرى وأوضاع الأمر الواقع.

ورأى أونيش أن هناك رغبة بإعادة رسم خريطة المنطقة بعد مئة عام من «اتفاقية آسيا الصغرى»، المعروفة باسم «سايكس ـ بيكو»، خصوصاً أن «الربيع العربي» والفوضى في المنطقة شجعا على ذلك.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل