المحتوى الرئيسى

كسبتُ مقديشو ولم أخسر دمشق

05/20 14:04

عندما تكون مؤرخاً من دول الأطراف العربية (كالصومال مثلاً) يكون لديك فرصة التقاط صورة رباعية الأبعاد (4D) من شاهق المسافة الجغرافية والثقافية بين المركز والطرف.

مسافة يمكن ترجمتها إلى فقدان توازن هائل في علاقات الأشقاء العرب: كالتغطية الإعلامية الخجولة للأطراف والحراك الثقافي المعدوم بينهم، فهناك حالة من التنميط المستمر للأطراف تجعلها مادة استهلاكية للمركز من أجل الفكاهة والغرابة أو تعاطف وقتّي ينتهي بانتهاء الحدث، هذه المادة الإعلامية المقتضبة ترسم صورة مخالفة لواقع الطرف وتحوله إلى لوحة غامضة من جزيرة "واق واق عربية" في مخيلة الإنسان الذي يعيش في المركز.

فرشتُ فوقَ ثراكِ الطاهـرِ الهدبـا فيا دمشـق... لماذا نبـدأ العتبـا؟ "نزار قباني"

من المؤسف القول إن العالم العربي لم ينجح في التعرف على نفسه كما يجب، وللخروج من ميراث الأسى الإعلامي، علينا إعادة معرفة جميع الدول بطريقة متساوية حتى نستطيع أن نقول ذات يوم "كسبت مقديشو ولم أخسر دمشق"، كسبت زيلع وبربرة وبندر قاسم وبلدوين وكسلا وعلي صبيح وحضرموت وأسمرة ونواكشوط ودارفور وغدامس، ولم أخسر بغداد و ومكة والقدس والقاهرة والموصل والرباط.

وحتى يكسب المركز علاقته الطبيعية مع الأطراف المهمشة عليه أن يستمع إلى المقالات والمرويات القادمة من التخوم والمشبعة بالقصص والفن والتاريخ والسياسة والحياة الاجتماعية ومعارك الاستقلال. ويكون هناك حوار إنساني - إنساني، حوار إعلامي - إعلامي، عربي - عربي، مفعم بروح التعارف وليس مجرد مباريات كرة قدم لا تزيد على 90 دقيقة مشحونة بالقومية القُطرية.

المباحث التي تحتاج إلى حوار كثيرة؛ لذلك الحديث سيطول، ففي الصومال التي أنتمي لها هناك حلف ثابت بين البادية والساحل، البادية التي تمنح أبناءها تقاليد العشيرة وقوافل الإبل وكتاتيب حفظ القرآن الكريم (روح الداخل الحرة) والساحل بوابة البلاد نحو بقية العالم وتراث ممالك الطراز الإسلامية والانفتاح للمعرفة القادمة مع أمواج البحر (روح الخارج المنفتحة). هذا الحلف الجغرافي هو الصومال باختصار شديد. ولتقريب الصورة أكثر وأكثر سأبدأ الحديث عن فترة تاريخية هامة من فترات التاريخ الصومالي وهي الدولة الصومالية الحديثة -عضو الجامعة العربية- (1888 - 1860 - حتى 1960) مع الوعد باستمرارية المكاشفة الإعلامية بين طرفنا الصومالي والأشقاء في المركز.

تُعد من الفترات التاريخية المفضلة لدى بعض المؤرخين المعاصرين عند الحديث عن الصومال، فهم يربطون تاريخنا بقدوم المستعمر "السيد الأوروبي" إلى موانئ الشمال وبنادر الجنوب الذي رأى من واجبه إلحاق البدوي الصومالي بالحضارة الغربية؛ كيما يتسنى تجهيزهم بالسراويل القصيرة واللغات الإفرنجية والمدارس الحديثة (وربما لاحقاً) بمدرسة الأحد، في علاقة فوقية يتطوع فيها صاحب "عبء الرجل الأبيض" في مساعدة الأقل حضارة.

هؤلاء المؤرخون يتحدثون عن المنطقة كأنه لم يكن هناك شيء يستحق الذكر قبل قدوم المستعمر، وكمؤرخ صومالي أستعير تلك المقولة التوراتية الشهيرة "قبل أن يكون إبراهيم، أنا" Before Abraham Was, I am، كان هناك شعب بدوي قوي الشكيمة ساحله متحضر وفي أعالي تخومه سبع إمارات تاريخية ومدن عمرها ألفا عام". بطبيعة الحال هذه المدن لم تكن كلها صومالية فقد كانت مراكز حضرية شارك في نهضتها العمرانية والثقافية العرب الحضارمة والعمانيون والهنود الكجراتيون والفرس الشيرازيون والأشقاء من العفر والجبرت.

وقد برزت مناطق حضرية منها:

مملكة عدل - سلطنة مقديشو - سلطنة أوفات - سلطنة هرر - سلطنة فطجار، مملكة أجوران، الحضارة البنادرية، الحضارة النهرية، أمة الشعراء، رسومات كهوف "لاس غيل" الموغلة في القدم.. إلخ، كذلك كان هناك أروقة علمية في الحواضر الإسلامية الكبرى، كرواق الزيالعة في شرق المسجد الأموي بدمشق، ورواق الزيالعة في الأزهر الشريف بالقاهرة، وكذلك في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولهم نتاج طيب في الفقه الحنبلي والفقه الشافعي.

معرفة هذا الجزء من الصومال (وبقية دول الأطراف) التاريخي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والديني وغيرها من تفاصيل المجتمع، ما يملأ مجلداتٍ، ومقالات عديدة تستحق أن تخرج إلى العالم العربي والإسلامي بثوب جديد بعيد عن التسطيح والخرافة والتعصب، نحن هنا لا ندعو إلى تسويد الصحف بمسميات جديدة، الدعوة هنا إلى وضع كل شيء في مكانه، زيادة الجرعة المعرفية في المناهج الدراسية على سبيل المثال من الحلول المطروحة، وزيادة التغطية الإعلامية الهادفة، البعيدة عن التكلف والفوقية، والجوع ليس من مواطني الصومال بل مجموعة ظروف طارئة ومن يقرأ التاريخ يعرف أن الحروب الأهلية هي مزرعة الجوع والتشرد، وكأمة إسلامية عربية علينا الاعتبار من هذه الأحداث بدلاً من توزيع أكياس التنميط والاستهزاء الممزوجة بالدقيق، قال تعالى: (كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ).

وفي الختام هناك الكثير من المنعطفات التاريخية يمكن الحديث عنها، على سبيل المثال (حركة الدراويش ضد المستعمر 1899 - 1920 - الحركات الطلابية المطالبة بالاستقلال في الأربعينات - تقاسم شبه الجزيرة الصومالية بين خمس دول في الخمسينات، الحكومة المدنية في الستينات - توحيد الشطرين الشمالي والجنوبي 1960 - الحكومة الاشتراكية 1969- حرب الاسترداد الخاسرة 197، الحرب الأهلية 1991 - الشتات الصومالي "جارٍ").

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل