المحتوى الرئيسى

الرحلة رقم 735

05/19 22:33

 أسبوع واحد فَصَلَ بين رحلتى إلى سوريا ورحلتى الجديدة إلى تركيا، الرحلة رقم (735) التى لم تخفف الأسى أو الوجع، فما زلت أشعر بألم الخذلان؛ كل ما نشأت عليه وتعلمته ينهار تباعاً ولا أستطيع ترميم أى شىء، وعليّ الآن إما أن أتواطأ مع لعبة الحياة والخرائط الجديدة أو أن أتحول إلى مجرد ذاكرة صغيرة تختزن الماضى وتنزوى كمومياء فى متحف مهجور.

فى طريقى إلى مطار القاهرة، كنت ما زلت ممتلئة بالتفاصيل السورية ورأسى أخذ نصيبه من المناحة السنوية لذكرى النكبة ومئوية معاهدة سايكس بيكو، فرحت أحدق فى لافتات الشوارع كأنى أخطو فى مدينة أخرى؛ أو ربما كنت أحاول أن أبصر فى الصور والأضواء المهتزة ما يغيب عن الحاضر، حين تجاوزت بيتى بأمتار قليلة تعثرت عيناى بأسماء المحلات: «شاورما أبومازن، مناقيش أنس الدمشقى، فلافل سورى، حلو الشام و..». وخلف ظِل الواجهات، الكل طيب وساخر وموجوع بالحنين؛ الكل يسير بخطى متسارعة ومتباطئة ولا أحد يسير عكس الريح.

لم أهتم بموعد الإقلاع والهبوط، ولم ألتفت إلى تعليمات المضيفات، فقط ألقيت نظرة من الأعلى إلى القاهرة ثم تاهت نظرتى بين السحب حتى اقتربت الطائرة من اسطنبول، للمرة الأولى لا يعنينى أن أبحث عن مدخل لاسطنبول، ولا أتكئ على ما سكن الذاكرة من كتابات فلوبير، جوته، لامارتين، جيرار دى نيرفال، أندريه جيد عنها أو حتى مشاكسات أورهان باموق معها، ولما اقتربت الطائرة ورأيت المشهد الكلاسيكى لمدينة تتماهى فيها الطبيعة مع قباب المساجد والقلاع القديمة، تذكرت صديقاً تطوع ذات مرة ليقلنى فى سيارته وأخبرنى أن أنتظره عند المسجد فى «أمينونو»، لأكتشف أننى فى شارع ازدحم بالبشر والمساجد ولم أعرف كيف توسم فيّ صديقى أننى أستطيع أن أحدد مسجداً بلا اسم فى مدينة الألف مئذنة والـ 15 مليون مواطن.

كانت النقطة التى بدأت بها هذه الرحلة هى الحزن الذى انعكس على بعض الوجوه وبدا كمزاج عام يشبه موسيقى اسطنبول القديمة، وكذا كان الترقب والانتظار لشىء غامض؛ سيطر على الهاجس السياسى لوهلة فسألت سائق التاكسى عن رد فعل الشارع حول استقالة داوود أوغلو رئيس الوزراء وعن الانتخابات البرلمانية، فاكتفى بجملة مقتضبة: نريد حياة هادئة!، إجابته البسيطة اختصرت اللحظة الراهنة التى تعيشها تركيا، المعارك مع الأكراد تتزايد فى الجنوب الشرقى، وقلق آخر على الحدود مع سوريا والعراق، ونزوح سورى يغير فى خارطة المجتمع؛ نحو 2 مليون سورى على امتداد تركيا، ما يكرس الحزن كمفهوم ثقافى يعبر عن معاناة جديدة، كما عبر الرجل الخمسينى؛ وهو من عرب تركيا وحسب موقع turkiyearaplari.org فإن عدد العرب فى تركيا استناداً إلى الإحصاء السكانى لعام 2010، بلغ 8٫317٫545 عربياً بمعدل 11٫82% من حجم السكان، طوّح الرجل بعض الأسطوانات الموسيقية فى الهواء محطماً إياها وهو يصرخ: ما فى داعى لها، سوريا بيخلصوا عليها. ثم شرح لى أنه ووالده وجده وُلدوا فى تركيا لكنهم أورثوا لأولادهم الحنين للجذور، صاروا أتراكاً لكنهم يتحدثون العربية ويحافظون على تقاليدهم القديمة ويستمعون إلى الأغانى العربية كالتى حطمها منذ قليل، غير مُصدّق شلال الدم الذى انفجر فى سوريا وباب الشتات الذى انفتح على آخره، ولعل منطقة زيتينبورنو Zeytinburnu، والتى تمركزت بها أياماً شاهد على ذلك، فالمنطقة صناعية محاطة بمراكز تجارية مهمة مثل مارتر، عدد سكانها يتجاوز 300 ألف أغلبهم تركمان يعملون فى الصناعة النسيجية الصغيرة والمتوسطة، وأصبحت نقطة تمركز للوافدين السوريين الذين أقاموا ورشهم الخاصة والمطاعم والمقاهى، أمام أحدها وقف شاب حلبى يسألنى عن الأحوال فى مصر ثم غنى:

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل