المحتوى الرئيسى

"عتبة ""الألم العراقي" و"عتبة الأمل "

05/19 19:04

في إحدى القرى الشمالية الهادئة باليونان، وجنوب بلغاريا أيضاً، يحتفل الناس بالمشي والرقص حفاةً فوق الجمر المتقد، ضمن مهرجان سنوي، يقصده آلاف السياح، ويطلق عليه اسم "عيد سانت قسطنطين" أو "سانت هلينا"، ويستمر هذا العيد لثماني ليال يقضيها اليونانيون والبلغاريون في الرقص على الجمر المتوهج ولا تلسعهم النار!!.. أو تلسعهم، فلا يشكون من شيء، ولا يظهرون الألم!

لقد احتار العلماء في هؤلاء الناس، ما الذي يجعلهم لا يشعرون بالألم؟! وما سر حصانتهم ضد تأثير الحروق والجمر والنار؟!

قيل في علم النفس: إن الحساسية للآلام تقاس بقدرة الفرد على تحمل الألم الشديد وتقاس بما يسمى بـ(عتبة الألم Pain Threshold): وهي النقطة التي يبدأ فيها الشعور أول مرة بالألم عند أي إنسان، وكل واحد منا لديه عتبة للألم، أو نقطة بدء الإحساس به، ثم لديه "درجة ما" من درجات التحمل تختلف من شخص لآخر ومن شعب لآخر.

عتبة الألم هذه تفند الفكرة القديمة القائلة: (إن حاسة الألم مقدار ثابت)؛ حيث تبين أنها تتغير نتيجة العمليات الجينية، التي تغير التعبير الجيني كيميائياً.. وهذا ما اكتشفه علماء الكلية الملكية بلندن؛ حيث يقول الباحث تيم سبيكتور: "نحن نعرف أن الحوادث الحياتية تؤثر في الجينات، ولكن في السابق لم نعتقد أنها تمس الجينات المسؤولة عن الإحساس بالألم!".

وهنا يكون السؤال: هل هناك شعب من الشعوب بات لا يشعر بالألم من شدة الوجع الذي أصابه؟ وبات قابضاً على الجمر دون أن يتجرأ على الصراخ؟! وهل تحولت جيناتنا إلى جينات "اللاشعوريين بالآلام"؟!

قال لي مرةً صديقٌ مقربٌ لي من بغداد، عانى ما عاناه من قهر الأيام وغدر الزمان وعذابات الوطن: ذهبت إلى طبيب الأسنان، وشرع الطبيب بعمله لحشو الضرس المتضرر، وبعد وقت وتعمق في التعامل مع عصب الضرس، سألني الطبيب: هل تشعر بالألم؟ فأجبته بالنفي، استغرب الطبيب وأردف قائلا: عجيب!.. تعمقت كثيراً ووصلت بأدواتي الجارحة إلى العصب! ثم استمر بالقول: "إن ألم الأسنان مسألةٌ فرديةٌ للغاية.. ولا يشعر بالألم سوى الأشخاص ذوي (عتبة ألم عالية) ويمكن ألا يشعروا بألم الأسنان، حتى عندما تكون أسنانهم في حالة متقدمة من الضرر العصبي".. فكان جواب الصديق: معلومة جميلة يا دكتور، لكني أفهمها بغير فهمك العلمي.. إنه "وجع الحياة" أنساني الشعور بألم الضرس!

نعم، إن هناك من أبناء وطني من لا يعرف معنى كلمة "ألم"، لما تعرضوا ويتعرضون له من مصائب ومخاطر وكوارث لا تنتهي... وما أصابهم ويصيبهم من ويلات لا تتعدى كونها شيئاً من الروتين اليومي.. فلا يتألمون!

فالعذابات في غمرة مواضيع السياسة والأمن والاقتصاد والإرهاب العابر للحدود والقارات، والقتل اليومي، والقتل النفسي، ونزوح الأهالي خارج وداخل الوطن، جعلت الألم مصطلحاً خجولاً أمام حالة لا توصف بكلمة أو تعبير أو اصطلاح!

هذا الألم، وبسبب علو وارتفاع عتبته، الذي بتنا لا نشعر به، هو تطورٌ ونتاجٌ للواقع الاجتماعي المحزن، المأساوي، الذي يعيشه الفرد العراقي ويعاني منه... ففي حياتنا، عدد كبير من البائسين والمحتاجين والمعوزين والمرضى والمظلومين، الذين يئنون من وطأة ضغط سياسي وأمني واجتماعي فرض عليهم، ما أحالهم إلى حالة التصلب الوجداني والعصبي واللاشعوري .. فمن هذا الحال والواقع ينطلق ويتحول "ألم الإنسان العراقي" من حالته المجردة إلى حالة محزنة من عدم الشعور بما يؤلم!

أما بالنسبة لألم المشاعر والتعاطف تجاه الآخرين، فإن العراقيين باتوا يتألمون فقط إزاء واقعهم في الوقت الراهن، لشدة الظلم الذي أحاطهم سابقاً وحالياً.. ومن المؤسف أنهم، وفيما مضى، كانوا يتألمون إزاء مشاكل الآخرين في كل أنحاء العالم، لكن العالم أوصلهم إلى ما هم عليه الآن من الشعور باللاشعور، وهو احتجاج صامت صارخ لفقدان العدالة الدولية وسبقتها المحلية.

هذه العدالة التي وعدتنا بعراق جديد حر مثالي، لكنه الآن العراق الجريح القتيل المدمر المنهوب المسروق، الذي تجري أنهار من دماء أبنائه يومياً، ومآس مروعة لا تنسى عاشها ويعيشها المواطن العراقي سابقاً وحالياً، فما بين وحش الظلم والفقر والمستقبل المجهول والموت الذي يفتك بهم، ومتاهة البحث عن الأمل والطمأنينة والسلام، وانتهاءً بالوضع السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي المتردي، يجد العراقي نفسه في رحلة عذابات لا تنتهي.. ولا بواكي لشعب لم تنصفه حتى المنظمات الاممية ودول العالم!

إنهم العراقيون، الذين تألموا كثيراً وعميقاً، حتى مات الألم في حضرة وجعهم، وهم يشاهدون مأساة الإنسان العراقي وهو يعاني الاستغلال والغطرسة وظلم المتكبرين المخادعين باضطهادهم له وهم يحرمونه من معنى وجوده المعيشي والمادي والاجتماعي والمعنوي.

إننا لا نتألم الآن؛ لأن الإنسان عندنا فقد بوصلة هويته وأضاع غايته وخلاياه الحسية؛ لأنهم أجبروه على أن تضيع روحه وإنسانيته؛ لتهرب إلى مجهول داخله المعذب، ولهذا بتنا لا نتألم، هذا الألم الذي ينحني أمام شعب يصعب قتله، لكنه مات بعد أن نزف وطناً، وننتظر ونكافح بصبر لكي يحيا وينهض من جديد.

عندما يكون الحديث عن وطني، تأتي الحروف مثقلة بالنزف، وعندما يلتئم الجرح، ويبدأ الشفاء، نبقى قلقين مرتابين من الشفاء المهدد دوماً بالنزف المتجدد، وكل يوم نقول: إن الجرح لم يعد يحتمل مزيداً من التلوث والقيح النازف منه، لكن النزف مستمرٌ والقيح مستمرٌ، ونحن مستمرون معهما، دون أن نشعر بوجع الجرح وألمه.

في وطني، نأكل لنعيش، ونعيش لنبحث بألم عن الأكل فقط، فقط من أجل رغيف الخبز، و"ليس برغيف الخبز وحده يحيا الإنسان"، وليس بالشعب المنهك المتألم الصابر على الوجع تحيا الأوطان، هذا الوطن، الذي نعشقه، والذي ما زال يؤلمنا في رحلة بحثنا عن (وطن).

حزني كبيرٌ على وطني وشعبي، وحزني على أجساد كثيرة وأرواح كثيرة ما زالت تتألم وتنزف فوق تراب وطني وتحت التراب، بعد أن حملوا هم وطن، وحملوا دماءهم لوطن، كانوا وما زالوا ينتظرون "تحت التراب وفوقه" فجراً جميلاً لغد مشرق طال انتظاره.

وعزائي الوحيد أن أقول: إن الألم العراقي و"عتبة ألمه العليا" الفريدة الغريبة العجيبة بالإمكان أن تتحول يوماً ما إلى "عتبة أمل عليا" و"ألم إيجابي" يرفعنا من درجات إنسانيتنا التي فقدت ظلماً وقسراً؛ ليصل بنا إلى أرقى مراتب روحانياتنا..

فلا يتألم على المقهورين المظلومين إلا العظماء، ولا ينسى الألم وينسى الشعور بمرارته إلا العظماء.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل