المحتوى الرئيسى

«يوم حلو».... حلم أسرة مصرية

05/15 11:10

لم يحل الصيف بعد، وعلى رغم ذلك تعلن الشمس عن نفسها بقوة بالغة تتسرب من بين شقوق عروق الخشب الذى يسند حوائط الحجرة متناهية الضيق، لم ينتصف النهار إلا أن جميعهم يشعر بطول اليوم وثقله، هكذا يأتى ويذهب دون جديد، الكل هنا فى انتظار ما لا يأتى!

الزمان: وسط نهار، يوم حار جدًا من شهر مايو

الأبطال: عائلة «رمضان» الأب، الأم، الأبناء، الجدة مثل ملايين من الاسر المصرية تعيش «تحت الصفر»، كل فرد فى عائلة رمضان يمثل حكاية «صبر ع المر»، و«رضا مع الحرمان» وأمل فى بكره لأن الأحلام لا ترحل مع غروب الشمس بل تولد فى ضوء القمر.

أنا راجل البيت وتلاقينى ضهرى مكسور، كل اللى عليا بعمله، أروح شغلى كل يوم بدرى ولو عيان أخبى لأنى لو تعبت يوم اللى ورايا ياكلوا منين؟

هذا هو السؤال الذى يسأله «رمضان» يومياً، لنفسه ولا يبوح به لمن حوله ولو أنهم به يعلمون.

بقالى 50 سنة شغال فى المدابغ والحال بقى غير الحال، وما فيش شغل زى الأول والحال واقف، وإحنا باليومية وبيقولوا هينقلونا الروبيكى عند مدينة «بدر» يعنى سفر، طيب نجيب منين المواصلات وإحنا بقالنا سنين عايشين هنا فى «ولاد مسعود» يعنى خطوتين، أنا فى رقبتى بنات على وش جواز وشاب مريض وأمى ست كبيرة و«بنشيل ونحط فيها» وربنا عالم بيها.

هنا كانت الزوجة قد انتهت من إعداد «لقمة» يسد بها «أبوالعيال» جوعه، كان يمد يده فى الطبق ويتناول لقيمات صغيرة بصعوبة شديدة، قائلًا «والله مافيش نفس للأكل، لكن علشان العلاج، يعنى المسئولية كبيرة والحمل تقيل وعايشين بالعافية لكن الحمد لله، المفروض يشوفوا الناس الأرزقية اللى زينا يعنى انا لو اشتغلت فى المدبغة بـ100 ولا 150 جنيه فى الأسبوع أعيش إزاى أنا واللى فى رقبتى، إحنا عايشين فى جحور كانت أصلها عشش، يعنى مش مكلفين الدولة حاجة ولا بنسأل على شقق، ولا غيره بس يرحمونا من الخراب وقطع العيش اللى مهددنا، تسقط «اللقمة» من يده فيترك طعامه ويمدد جسده المتعب على الأرض.

ورثنا من أهلنا الفقر والمرض وعيالنا ورثوه مننا

ما بين سرير الجدة فى مدخل ممر ضيق وزاوية أكثر ضيقًا على يساره تغدو الأم، وتروح حاملة بعض الطعام للحماة العجوز تطعمها فى فمها وتربت برفق على ظهرها فتنام فى هدوء ووداعة طفلة.

الحمد لله أخدت الدوا لو مش موجود تفضل تصرخ من الألم ما حدش عارف عندها إيه، كتر خير الدنيا دى معدية التمانين لكن غلبانة أغير لها زى ما تكون بنتى أو أمى ولما تفوق تدعيلى، ما لهاش حد إلا إحنا وحمايا كان عامل أرزقى زى عياله لما مات مافيش معاش ولا غيره ومصاريفها كلها ولادها بيتحملوها وكلهم عمال باليومية، وعلى باب الله.. وأنا مطلوب منى أمشى البيت أكل وشرب وكسوة وجهاز للبنت بالتقسيط، بنزل السوق أدوخ أبومصطفى بيدينى 20 جنيه- ده لو ربنا كرمه وكتير ييجى يقولى مافيش يا أم «مصطفي» أقوله ولا يهمك مستورة- أشترى شوية بطاطس، ونسلقها لكن الطبيخ غالى علينا وهنطبخ على مية كل حاجة مولعة ونفسنا متقبلش غير اللحمة البلدى، والله لما ربنا يرزق فى العيد الكبير أهل الخير بيدبحوا يجيبوا لنا.

تسند الأم رأسها على حائط غاب لونه، بعد أن غطته طبقات من دهون رديئة، فيما كانت تبعد عن حجرة ابنتها حشرات تزاحم أهل البيت في مأواهم، وقالت بصوت بائس: نفسى نعيش فى بيوت زى الناس وشقق نضيفة، إحنا عايشين فى جحور كانت أكشاك خشب وعملناها بالطوب، مرات كتيرة الحكومة تعشمنا بشقق واتعاقدنا ودفعنا من سنين كتير فلوس- بحثت الزوجة فى كومة أوراق وأخرجت إيصالًا حكومياً، يؤكد كلامها- وكل مرة يسيبونا وينسونا ولادنا بتنام على حصيرة فى الأرض فى الصيف وفى الشتاء ننزل مرتبة قديمة علشان الرطوبة.

سمعنا عن الشقق بتاعة الحكومة لكن منين نجيب 5 آلاف جنيه مقدم أو ندفع أقساط وإحنا بنلاقى اللقمة بطلوع الروح، لو معانا المبالغ دى نسكن فى شقق برة والناس هنا غلابة وأصحاب عيال وأرزقية مش موظفين ولا غيره. .. تبكى الأم ولا تستطيع مداراة دموعها، قائلة «كان نفسى ابنى يتعلم ويبقى حاجة كبيرة، لكن لا صحة ولا تعليم من الفقر وأرسلت نظرة شديدة الحزن إلى شاب متكوم بجوار والده فى استسلام لمرض أو يأس.

فى نفس المكان الحزين تشع ابتسامة بنات شربات، جمال الملامح يطغى على تواضع المكان، ومن وسط الأشواك تنبت الأزهار، «شريهان» شابة فى الثامنة عشرة من عمرها لا تفارق وجهها الابتسامة، لكن الواقع يغرس أنيابه فى أحلام الفتاة ينهشها ينتزع منها الانطلاق، فيرديها جسد صامت تحركه ظروف الزمان والمكان، تسأل الفتاة عن أمنياتها فترد: مافيش.

نفسك فى إيه: أى حاجة

ثم تشير بهدوء إلى «سبت قديم فوق الدولاب الذى طرد ما بداخله ليلقيه على الأرض المتسخة، ده جهازى شوية فوط وملايات أمى جايباهم بالتقسيط.

ما كملتيش فى المدرسة ليه؟

طلعت من تانية إعدادى وأبويا على قده

«أهم ما يميز الفتاة صوتها، بالكاد تسمعه، فهل هو الخجل أم الانكسار- تساءلت للحظة- شغلتنى عن محاولات أمها محاولة تجميل المكان الأشبه بالقبو المكتوم، حيث تتزاحم أنفاس الجميع تحت سقف لا يحمى من يحتمون به- وفجأة علا صوتها: نفسى فى جهاز حلو وغالى وفستان عروسة ما حدش لبسه قبلى، نفسى فى أوضة جديدة وحلوة زى كل البنات مش من سوق الجمعة.

أنا شاب لكن عمرى ولا ألف عام

شايل الهم من بدرى وعلشان ما ظلمش أبويا، اخترت أسيب المدرسة بنفسى وأشتغل وأساعده، لكن لا قدرت أساعده ولا أساعد نفسى، اسمى «مصطفي» عديت العشرين لكن قلبى «تعبان» عامل زى الراجل العجوز، وأحسن حاجة طلعت بيها من التعليم عملولى العملية فى التأمين وكنت فى تانية إعدادي.

لم يستسلم «مصطفي» لمرضه بل يسعى دائمًا للعمل والبحث عن لقمة عيش يساعد بها أسرته، وربما يستطيع أن يصنع لنفسه حياة وبيتا وأسرة، لكن وكما قال «الشغل ضعيف وكل لما أروح ورشة ألاقى الحال مش ولابد، ومافيش وظائف لأصحاب الشهادات الجامعية يبقى أنا هشتغل إزاى؟ ومافيش صاحب مصنع أو ورشة هيعملى تأمين علشان العلاج يعنى الشاب المريض اللى زيى يموت أحسن».

قالها الشاب وألحقها بجملة «أستغفر الله العظيم أنا أملى فى ربنا كبير».

كان «محمد» ذو التسعة أعوام يلعب خارج العشة التى تطورت قبل أن ينمو وعيه لتصبح أشبه بـ«بيوت الناس» التى يراها فى أماكن أخرى، لكن امتداد الحجرات من داخل بعضها بشكل غير معلوم الاتجاه خلق نوعا من الاختناق فى نفس الطفل الذى لا تسع الممرات الضيقة فى المكان للعب الكرة التى يعشقها وينتظر يوم الإجازة «من الشغل» كى يستمتع بمبارياتها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل