المحتوى الرئيسى

"مسافرون في دمي".. سيدنا الخضر "يلقى" امرأة في حارة "مشبوهة"!

05/13 15:43

كمثل التاجر "الشاطر" المتقن لعمله، لا اللص، كما تشير معاجم اللغة إلى كلمة الشاطر، في قصة طويلة لضياع دلالات بعض الكلمات عبر العصور حتى وصلت إلينا، كمثل التاجر الذي إن جاءه الإفلاس بحث في دفاتره القديمة وأراني هذه الأيام.

أحب قول الشاعر الأموي "جرير": "لا أكتم الله واضحة"، وهو يقصد أن الأمر طالما اتضح في نفسه، فلن يكتمه عن الناس، أو هو المعنى الذي "فهمته" بصراحة، مصداقاً لقول معلم البشرية صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاق في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" رواه الإمام مسلم، عن النواس بن سمعان، رضي الله عنه.

تلك رحلة قاسية مع جرير الشاعر؛ لكي يكون ما بداخل النفس أمراً جلياً واضحاً لا يخجل الإنسان منه بينه وبين نفسه، أو مع الآخرين، بخاصة حيال أناس لقيتهم، أو لم ألقَهم، لا تفرق، لكنهم سافروا ومعهم عمري، مقابل آخرين أقاموا في العالم واضطررتُ للسفر بنفسي عنهم!

لا أكتم الله واضحة، فإنني كلما مللتُ هذا العالم، بنزقه وطيشه، بتخبطه واندفاعه، بجبروته وظلمه، بأخباره وسياساته، وكلما تجددت خيبة أملي في أغلب قادته أو الذين حاولوا أو يحاولون الحصول على أقصى قدر من مصالحهم الشخصية "المزيفة" بحجة إصلاح العالم، ويا لها من حجة تفنى البشرية من أجلها؟! وكل رئيس يجدد الحروب والدمار، كما يجدد الأكاذيب والأراجيف حول العالم، كما يتناول طعامه، ويقول لك "إصلاح"، كل رئيس حي في دولة متأخرة متخلفة يغير من موضع القمامة به -أعزكم الله- ثم يقول أنجزتُ والقمامة لا تزال تملأ الشوارع!

ويستمر الجياع، كما يستمر المرضى والسكارى بالألم، كما يستمر أصحاب الأرصدة يقتاتون من آلام الملايين، وواحدهم، من أولئك الذين يُلقون بالطعام للأسماك لكيلا يرخص ثمنه فيخسر مالياً، ويأكل الجياع، فيما هو يخسر إنسانيته أولاً وأخيراً، ولا يضمن أن يدخل إلى جوفه نفسه الخارج، ويتسبب في شقاء بشر مثله خلقهم وخلقه الله، مهما كانت ديانتهما أو حتى لو كان الظالم ملحداً.. أوليست لك لحظة ضعف في "مرحاض" أو نوم أو عثرة تذكرك بسيئ فعالك مع ضعيف مثلك؟

حينما تمعن البشرية في التيّه أمام عينيّ ولا أملك إلا هذه الكلمات، وأراني من تلك، من هذه البشرية المشاركة في الإثم لمجرد الحياة في هذا الكون في هذا الآن أو الوقت، ومحاولة للبحث عن طريقة لإطفاء حرائق الكون هذا، ولما "تشتعل" الجراح برؤية رجال أو طرف منهم كانوا مهيأين للتغيير على المدى البعيد، والتقليل من جراح البشرية، وهم مخلصون، لكن الوهن دب إلى عقولهم عبر منظومة "الغباء" التي إن واجهت "الخيانة" أثبتت أنها أكثر "سخافة"، هؤلاء الذين أسلموا بلدي وبلاد العُرب، بل الوطن الإسلامي، بسوء وجهنمي فعالهم إلى المجهول، وفي المقابل هؤلاء هناك "الأغبياء" الذين لم يستطيعوا التصدي لهم، بل كشفوا عن مقدراتهم، تماماً كما فعل "أحمد عرابي" أمام قصر الخديو "توفيق" في 1882م، فسمح للأخير بسحقه وسحق قواته.

حينما أرى مسيرة التيّه التي بدأناها، كمحاولة عصرية لإبراز أطهار وأنقياء في عالم اليوم، لكن لله تعالى في خلقه سنن وقواعد وقوانين تقضى بغربلة المصلحين وتمحيصهم وفتنتهم، ومن ذلك "التيّه"، ومن دلائل استمراره أن ترى طرفاً من الخونة في قلب المخلصين المطرودين المنفيين يقتاتون على الجراح، أولئك "المنافقون" شر أهل الأرض، وأسوأ الفريقين، يسكرون بالآلام، ويمارسون طقوس اللذة والشعوذة فوق أشلاء "إخوان" لهم في البشرية أخطأوا في مواجهة العدو مرة، وأخطأوا أخرى بالسماح لهم بالوجود بينهم مرات.

حينما أتطلع إلى الذين يتعمدون الإفساد أكثر مما يصلحون، إن كان لديهم صلاح، وهؤلاء في صف الباطل أمر عادي مقبول، لكن أن يكونوا مندسين بعناية يرتكبون الكبائر وسط الطرف الذي يريد الوصول إلى الشرف الكافي لحكم الجانب المشمس من العالم فتلك المصيبة الأكبر.

في اللحظة التي يتأكد فيها لدي استمرار التيه.. ألجأ إلى دفاتري القديمة.. برأي المثل المصري، ومع فارق التشبيه:

"التاجر الشاطر لما يفلس يبحث في دفاتره القديمة".

قال طرف من السادة العلماء إن سيدنا الخضر ليس نبياً وإنما هو رجل صالح يسيح في أرض الله ناشراً الخير والصلاح إلى اليوم، وما لقاء سيدنا موسى به إلا بعض من إسراره وألطافه، وإن هذه الأسرار والألطاف مستمرة إلى قيام الساعة، ومن ذلك القصة التالية التي أحببتُها فكانت ملاذي في السباحة ضد تيار هذا العالم وما ومَن فيه:

في حارة من حارات القاهرة المرخصة في بدايات القرن الماضي كان الخضر يسير "متعمداً" في كل جمعة أن ينزل مدينة جديدة من عواصم أو مدن الوطن الإسلامي، يصلي الجمعة في مسجد مختلف، ولأنه كان دور القاهرة من تقديره، فقد دخل حارة عشوائية وصار يبحث عن المسجد.

ثيابه بيضاء ناصعة، وجهه وقور، حركته متزنة، ذقنه بيضاء متناغمة مع ثيابه ووقاره، يتحرك في هدوء.. لكن كل هذا لم يشفع له لدى نسوة وقفن في قلب الحارة:

- تعالَ يا عم الشيخ..

- لو دخلت لأعادتك الصبية التي تحدثك صبياً في العشرين.. لأ "عشرين ده إيه؟!" .. هخليك "ابن تلاتاشر" ولا أنت "بلغت" بدري.

- ده "ودَّع يا شابة" ما يقدرش يخطي "العتبة"!

ذُهل الرجل من اختبار اليوم البالغ القسوة، جاب المحيطات والأنهار والبحار، واقتضت حكمة الله أن يزهق أرواحاً أحياناً في سبيل صلاح أرواح أخرى، وتحدى الطبيعة والجهل بحكمة ما يفعل، بل وقف أمام الطوفان، لكنه ليعرف أن النفس البشرية هي أشد قسوة من كل ما في هذا الوجود، وأنها إن استسلمت للشهوات والرغبات الحقيرة ضاعت وغرقت بلا قرار أو نهاية، ولكنه لينتظر بدايات رحمة ربه الآن ليعمل في منظومة الصلاح التي أحبها ويعيش لها:

- تُهت يا مولانا ولا إيه؟

- أمال إيه اللي جابك هنا يا "حبة عيني"؟!

قال الرجل ببطء وحكمة الذي يعالج أمراً بالغ الصعوبة:

- جئت أبحث عن المسجد.. صلاة الجمعة.. أولسنا في مصر.. بلد الألف مئذنة.. أولستن مسلمات؟!

- "مسجد مين" يا "حبة" قلبي؟!

- مولانا "خرّف" يا بنات..

- جامعنا "جوَّه" يا مولانا تيجي تشوف بنفسك؟!

استغفر الله وغض طرفه عنهن.. وما هي إلا ثوانٍ إلا وكانت رحمة ربه أمامه متجسدة في بشر أمامه!

- ما الذي أتى بسيرة الجامع على هذه الألسنة والشفاه العطنة العفنة؟

ثم التفت إلى الخضر في أدب بالغ:

- هل تهت يا "سيدي" الشيخ؟

- حتى وجدتك يا ابنتي؟!

بالغة النحافة، جمالها لمّا تراه لا تشك في كونه مستمداً من ذكاء وذهن متوقد أكثر من قسمات وملامح وجه.. قالت للنساء من حولها:

- أما زِلتنَّ هنا.. هيا إلى "عشش الدجاج" الخاص بكن.. أريد محادثة الشيخ في أمر مهم عنكن.. مع السلامة.. وإلا والله!

رآهن "الخضر" يمضين ولا يزدن عن التمتمة لا يستطعن إتمام كلمة أمامها، وبثاقب رؤيته التي وهبها الله له رأى الحي منذ بدايته، الحي المصغر، حارة بالغة الفقر، ثم ترخيص الإنجليز لها كحارة لممارسة الدعارة، ثم مجىء هذه "الغرة" أو "الهبلة" بلغتهن، كانت لها ظروف ربما، لكنها استسلمت فجاءت، ومن يومها الأول وهي تتشاجر معهن مجتمعات، قرابة العشرين، معارك طاحنة كادت تموت بين أيديهن مرات، لولا أن تدخلت "الأسطى" أو "القوادة" وزجرتهن:

- الإنجليز هيسحبوا التراخيص وندخلوا السجن جمعاً فيها.. سيبوها لما تطفش من نفسها.

- قلت إنك كنت تائهاً حتى وجدتني وإنني ابنتك؟!

- على ما أنا فيه؟!

ـ إذن أنت "راجل طيب" لا تعرفني؟!

- إنني رجل "طيب" نعم، لكنك "رضية بنت أحمد المُستتر التاجر الذي مات منذ سنوات في البحر، وأمك تسكن الآن في المغربلين وتبحث..

- رسول من ربك لأعيدك إليه.. وأصالحك عليه.

- لستِ الذي يحدد يا رضية . بل "هو" سبحانه.. وذاك شأنه.. وما نحن إلا عبيده.

بكت وانتحبت وتبللت ثيابها.. وجلست القرفصاء من فرط التأثر قائلة:

- يا ويلي من ذنبي، ومن رسول من عند ربي يُقيمُ "الحُجة" عليّ، إن تركته ما بقي من عمري.

- أبوك كان أزهرياً يا "رضية".

- والله ما ارتحتُ هنا ثانية، وألقيت كل مليم جاء إلي من الحرام!

- "ابنتك ثانية" يا سيدنا "الصالح".. أنت تُحسنُ الظن بي؟!

- نعم، اللهم في يومك هذا وفي ساعة أرجو أن تكون ساعة إجابة إن كانت لي دعوة مستجابة إليك رُد "رضية" إلى رحابك مرد الذين تحبهم سبحانك!

أوقفتْ له "حوذي"، سائق عربة يجرها حصان، ورفض أن تدفع له.. لكنه قبل أن يمضي قال لها:

- المسجد عند ناصية الشارع على اليمين.. سأنتظرك حتى صلاة المغرب لأعيدك إلى أمك وأصالحك عليها فقد كاد نور بصرها يولي حزناً عليك.. لا تتأخري!

قبل صلاة العصر، لا المغرب، أتت بأغراضها كلها، وأشعلت النيران فيها في قلب الحارة، ثم انتقت أفضل ملابسها وأسترها ومضت نحو الله!

وفي الأسبوع المقبل بكت غير واحدة من نساء الحارة لما ناداهن الخضر بأسمائهن قائلاً:

ـ رضية كانت صاحبة "نفس خضراء" تتشوق إلى العودة إلى الله.. فماذا عنكن؟!

أصل ونواة هذه القصة حدث "حقيقة" في القاهرة، وليسامحني الله أني نسبتها للخضر -عليه السلام- لكن لعله كان بطلها.

ماذا عن رجال ونساء منغمسين في الخطايا اليوم ويدعون الصلاح؟

إذا كانت "تلك" عادت في ساعة؟

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل