المحتوى الرئيسى

إرهاصات سايكس-بيكو الثانية

05/12 13:43

راج بالمنطقة مؤخرا حديث عن نهاية سايكس-بيكو التي وضعت ملامح الحدود السياسية لغالبية دول المنطقة قبل قرابة مائة عام خلت، والشروع في التأسيس لسايكس-بيكو جديدة، تبتغي تأسيس نظام إقليمي جديد بمنطقة الشرق الأوسط من قبل القوى العظمى في زماننا عبر تقسيم دول عربية محورية على أسس عرقية ودينية وطائفية.

فعلاوة على اعتبار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أن ما يفعله بسوريا والعراق إنما هو إزالة لحدود سايكس-بيكو الأولى، ثم إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن المنطقة تشهد هذه الأيام نهاية اتفاقية سايكس-بيكو للعام 1916، لاحت في أفق المنطقة حزمة من المؤشرات التي يستند عليها أصحاب هذا الطرح، من أبرزها:

بعد تموضعه في سوريا وتوغله في محافظات سنية عراقية وهيمنته على بترول سوريا بانتزاعها السيطرة على حقل الجفرة ومن بعده العمر، أكبر حقول النفط السورية، ليصل إجمالي الحقول النفطية التي سيطر عليها 22 حقلا، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" الخلافة الإسلامية في الفضاء الذي سبق أن قسمته سايكس-بيكو الأولى قبل قرابة مائة عام.

كما كشف موقع "يني شفق" التركي أن التنظيم أصدر مطلع هذا الشهر جواز سفر رسميا في الموصل، ليوزعه على 11 ألف شخص داخل المدن والنقاط الحدودية بين العراق وسوريا التي أحكم السيطرة عليها، طبع بأعلاه عبارة "دولة الخلافة الإسلامية"، وبجانبها علم "داعش"، وهو ما تزامن مع البدء في عملية استخراج بطاقات الهوية الخاصة بمواطني الدولة الجديدة.

وفي طياتها حملت سايكس-بيكو الأولى، مشروعا عربيا للخلافة الإسلامية تبناه الشريف حسين على أجنحة الثورة العربية الكبرى التي قادها ضد الدولة العثمانية عام 1916، وهو المشروع الذي كان مدعوما من الدول الاستعمارية الكبرى وقتذاك كفرنسا وبريطانيا اللتين كانتا ترميان لاستمالة الرجل والحصول على دعمه ومن سار في ركابه من العرب التواقين للاستقلال بغية تفكيك الدولة العثمانية والإجهاز على الرجل المريض الذي ناصب الحلفاء العداء بانضمامه إلى معسكر المحور أثناء الحرب العالمية الأولى.

واليوم، يطل علينا مشروع خلافة إسلامية جديد يبشر به تنظيم "داعش" بعدما أعلن أميره أبو بكر البغدادي من الموصل قيام الخلافة وتنصيب نفسه خليفة للمسلمين لإقامة الخلافة الراشدة السادسة، وهي الخطوة التي لم يستبعد مراقبون من أمثال المحلل السياسي السوري طالب إبراهيم، والمستشرق الروسي فيتشيسلاف ماتوزوف، أن تكون مدعومة من قبل واشنطن وقوى إقليمية أخرى ترى في تلك الخلافة عصا موسى التي تبتلع تحديات عديدة بالمنطقة.

وتوقع هؤلاء أن تكون وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قد جندت الرجل لحسابها إبان سنوات اعتقاله في سجن معسكر بوكا في الفترة (2004-2009).

ومثلما تبددت أحلام الشريف حسين في الخلافة قبل زهاء قرن مضى بعد تخلي الدول الاستعمارية عنه، لا يتوقع أن يبقى من تجربة البغدادي هذه المرة، التي تتنافى ومقومات الخلافة في الإسلام، سوى كونها إرهاصا أو غطاء لسايكس-بيكو جديدة تعيد تقسيم المنطقة على أسس عرقية ومذهبية برعاية قوى دولية وتواطؤ أطراف إقليمية.

مثلما أسفرت سايكس-بيكو الأولى عن ظهور كيانات جديدة في المنطقة كإمارة شرق الأردن، تلوح في الأفق اليوم علامات تأسيس دولة جديدة في المنطقة هي كردستان العراق.

فبينما كان العالم ينتفض هلعا جراء الآثار السلبية الخطيرة المرتقبة على خلفية تغلغل تنظيم "داعش" في العراق، عكفت حكومة إقليم كردستان على تحري كل السبل الممكنة لتعظيم استفادتها من هذا الحدث الجلل، فكانت مساعيها الحثيثة لتغيير الأوضاع على الأرض بما يعزز استقلالية الإقليم التامة عن بغداد، خصوصا أن كردستان العراقية تتمتع بالعديد من خصائص وركائز الدولة المستقلة كالحكم الذاتي منذ ما يربو على عشرين عاما، فضلا عن البرنامج الخاص لمنح تأشيرات الدخول.

وبناء عليه، استغل الأكراد حالة الفوضى الناجمة عن هجوم "داعش"، فبسطت قوات البشمركة سيطرتها على مناطق متنازع عليها مع بغداد، متجاهلة المادة 140 من الدستور العراقي، مدعية أن تلك المناطق جزء تاريخي من كردستان العراق.

وكان من أهم تلك المناطق إقليم كركوك الغني بالنفط الذي شهد حفر أول بئر نفطية في البلاد عام 1927 وتطوي أراضيه رابع أكبر حقل نفطي في العراق، ويسهم حاليا وحده بنحو نصف إنتاج البلاد من النفط، والأدهى من ذلك أن حكومة كردستان حولت أنابيب النفط الخاصة بكركوك عبر ربطها بخطوط النفط الخاضعة لسيطرة الإقليم الكردي.

وفي مطلع يوليو/تموز الجاري، أعلن رئيس الإقليم مسعود البارزاني أنه لن يتراجع عن بسط السيطرة على المناطق المتنازع عليها بما فيها كركوك، كما اقترح في خطابه الأخير بالبرلمان المحلي للإقليم المصادقة على قانون تشكيل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لإقليم كردستان توطئة لإجراء استفتاء حول حق تقرير المصير.

بعد انقسام السودان إلى شمال وجنوب في العام 2011، وبالتزامن مع حالة "البلقنة" التي تخيم على ليبيا منذرة بتقسيمها إلى ثلاث دويلات، ومثلما كان تفكيك سوريا الكبرى سببا في وضع نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى بالكامل أو ما بعد الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط، الذي يسمى أيضا نظام "سايكس-بيكو"، ربما تكون مقدمات تقسيم البلدين مجددا هذه الأيام على خلفية الصراع الداخلي والإقليمي عليهما، إرهاصة لسايكس-بيكو جديدة.

ففي ظل وضع عسكري معقد في سوريا يستعصي على أي من أطراف النزاع حسمه لصالحه مع استمرار دعم القوى الإقليمية والدولية لكل فصيل حسب أجنداتها، يتربص بسوريا شبح التقسيم بين دولة علوية يسيطر عليها بحكم الأمر الواقع حزب الله اللبناني وقوات النظام الأسدي تمتد بين بعلبك وحمص على جانبي الحدود اللبنانية السورية، وأخرى سنية تتوزع بين المعارضة و"داعش".

مثلما أفضت سايكس بيكو الأولى إلى إصدار وعد بلفور الذي أتاح لليهود تأسيس وطن قومي في فلسطين عام 1917، كانت الدولة الإسرائيلية حاضرة في ترتيبات سايكس-بيكو الجديدة، إذ تبدي حكومة نتنياهو اليوم، وعلى خلاف الموقف الأميركي المعلن بهذا الخصوص، ترحيبها بإعلان استقلال كردستان العراق، حيث دعا نتنياهو لإضفاء الطابع الرسمي على السيادة الكردية، ووصف مسؤولان إسرائيليان بارزان في اجتماعات مع الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري وجود دولة كردية في شمال العراق بأنه "أمر واقع محل ترحيب".

ولا يعدو هذا الموقف الإسرائيلي أن يكون محاولة للبناء على علاقات عسكرية واستخبارية واقتصادية سرية مع الأكراد ترجع لستينيات القرن الماضي في إطار الإستراتيجية الإسرائيلية الرامية إلى كسر العزلة من خلال التقارب مع الدوائر غير العربية في المنطقة، فضلا عن تعزيز فرص تل أبيب في نيل حصة معقولة من نفط وغاز كردستان.

هذا إضافة إلى تكريس إستراتيجية تفتيت الدول العربية القوية عبر تأجيج التناقضات السلالية والدينية بداخلها، والمستوحاة من الفكرة التي نشرها الدبلوماسي الإسرائيلي عوديد ينون في مجلة الحركة الصهيونية العالمية "كفونيم"، في فبراير/شباط ١٩٨2، التي تعرضت للتنقيح والتطوير من جانب مراكز الفكر السياسي الإسرائيلي، قبل أن تتولى الحكومات الإسرائيلية وأجهزتها تحويلها إلى خطة عمل، تجاوبت معها إدارة بوش الابن، التي سيطر عليها المحافظون الجدد بميولهم الاستعمارية وتطرفهم في تأييد الأطماع الإسرائيلية باحتلال العراق وتفكيك جيشه وفتح الطريق أمام نزعة الانفصال الكردية وتمهيد السبيل لسيطرة شيعية جائرة ومتحالفة مع إيران على أهل السنة في العراق انطلاقا من تصور مفاده أن التطرف الشيعي أقل خطرا على أمن ومصالح واشنطن وتل أبيب من نظيره السني.

وفي مسعى منها لاستغلال الموقف المتأزم حاليا، تروج إسرائيل أن الجيش الإسرائيلي هو الوحيد في المنطقة القادر على التصدي لخطر "داعش" وضمان أمن الأردن والضفة الغربية، ففيما أعلن قائد سلاح الجو الإسرائيلي استعداده للتدخل في العراق لضرب "داعش"، ناشد نتنياهو دول المنطقة والمجتمع الدولي الموافقة على استمرار وجود الجيش الإسرائيلي وحصونه الممتدة على طول شاطئ نهر الأردن في الضفة الغربية، بما يتيح لتل أبيب السيطرة على سهل البقاع وشاطئ نهر الأردن في إطار أي تسوية سياسية للقضية الفلسطينية لاحقا.

لطالما كانت خطوط التقسيم بالمنطقة تضعها أطراف خارجية كالدولة العثمانية من خلال النظام "الملي"، ثم عبر القوى الاستعمارية الغربية، ومع ذلك كانت الدول العربية تتقبل هذه الخطوط وتلتزم بها وتبقى عليها وتتخذ منها مرجعية في تسوية خلافاتها الحدودية.

وقد يتأخر الإعلان عن سايكس-بيكو الجديدة عدة سنوات، كما جرى مع الأولى التي أبرمت سرا بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، وتم تبادل وثائق التفاهم بين وزارات الخارجية في كل من باريس ولندن وموسكو، ولم يكشف عن الاتفاقية إلا عندما وصل الشيوعيون إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917، فيما لم تتضح معالم المؤامرة التي تنتظر العرب إلا بالتوقيع على اتفاق سان ريمو عام 1920.

وإثر ذلك، استولت فرنسا على سوريا ولبنان والموصل في العراق، وبريطانيا على جزء من جنوب بلاد الشام والعراق والمنطقة الواقعة بين الخليج العربي والواقعة تحت النفوذ الفرنسي، بينما ظلت فلسطين تحت الوصاية الدولية حتى منحت لليهود إثر صدور وعد بلفور عام 1917.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل