المحتوى الرئيسى

مبادرة فرنسية لم تولد

05/11 10:21

تنشغل وسائل الإعلام المختلفة بما يعرف بالمبادرة الفرنسية الخاصة بحل الصراع العربي الصهيوني المتقلص إلى صراع فلسطيني صهيوني، وتتعدد الآراء حول احتمال نجاحها، وتتأرجح المبادرة نفسها بين رافض لها ومتردد في قبولها.

يبدو أن فرنسا لا ترى فرصا أمام الجهود الأميركية لحل الصراع الدائر حول فلسطين، وسئمت من الجمود الذي يحيط بمجريات التحادث حول مستقبل هذا الصراع، فقررت أن تأخذ على عاتقها مبادرة عساها تجد قبولا لدى مختلف الأطراف المعنية؛ لكن المبادرة سرعان ما اصطدمت بجدار إسرائيلي متعنت كالعادة وتم رفضها إسرائيليا. أما الجانب الفلسطيني فترنح في البحث عن رد على المبادرة، لكنه لا يملك في النهاية سوى الموافقة على خوض غمارها على أمل أن تتمخض عن حل يرضي بعض الفلسطينيين.

لم ينشر الفرنسيون مبادرتهم وأبقوها ضمن الأروقة الديبلوماسية لتتناقلها الأوساط الرسمية وتتجادل حولها، وما علمناه من المبادرة يأتي من وسائل الإعلام التي استندت إلى تسريبات من هنا وهناك حول فحوى المبادرة.

يتعلق جوهر المبادرة بإعادة الصراع الدائر إلى المحافل الدولية والذي يعني وفق المبادرة مؤتمرا دوليا تحضره دول معنية بإيجاد حل في أسرع وقت ممكن للصراع. وتتحدث المبادرة حول قضايا جوهرية أخرى مثل القدس واللاجئين وأمن الصهاينة والاستيطان.

بخصوص القدس تقول المبادرة باعتبار القدس عاصمة لدولتين إحداهما وهي الفلسطينية منزوعة السلاح، تحتفظ إسرائيل بالسيادة على الأحياء اليهودية، وتكون الأحياء العربية ضمن الدولة الفلسطينية التي لا يبدو أن لها سيادة. أما الأماكن المقدسة الإسلامية فتكون ضمن السيادة الفلسطينية.

وبخصوص اللاجئين، لا تنص المبادرة على عودة اللاجئين الفلسطينيين وإنما تترك المسألة للتفاوض بين الأطراف لتقرير مصير اللاجئين الفلسطينيين مع عدم اعتبار قرارات الأمم المتحدة مرجعية في حل هذه المسألة. تركز المبادرة على الأمن الإسرائيلي ولا تأتي على ذكر الأمن الفلسطيني، وتقبل حل الدولتين وتدعو للضغط من أجل إنفاذه. وتعطي المبادرة للمتفاوضين عامين للتوصل إلى حل نهائي وإغلاق ملف الصراع.

لم يكن من المتوقع أن تحظى المبادرة الفرنسية بقبول من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل حتى لو تظاهرت الولايات المتحدة بالليونة والاستعداد للبحث في المقترحات الفرنسية وذلك بسبب اتفاق تاريخي بين إسرائيل والولايات المتحدة على إخراج القضية الفلسطينية من المحافل الدولية وعدم السماح بإنفاذ أي حل إلا بعد موافقة الدولتين.

اعتبرت إسرائيل وأميركا بعد حرب العام 1973 نفسيهما بوابة حل الصراع وتعهدتا بعدم السماح لأي جهة أخرى حتى لو كانت الأمم المتحدة بالبحث عن حل، ومنذ ذلك الحين تحتكر أميركا وإسرائيل مختلف النشاطات الخاصة بالبحث عن حل، وإن سمحتا لدول أخرى لعب دور فذلك لن يكون سوى دور هامشي.

منعت أميركا الاتحاد الأوروبي من لعب دور رئيسي في البحث عن حل، وأبقته على هامش الملعب، على الرغم من أنه يلعب دورا أساسيا في دفع فواتير التدمير الإسرائيلي للمناطق العربية. ومنعت أميركا روسيا من التدخل المباشر في القضية الفلسطينية، والتي كانت قد تعبت من بلادة العرب والفلسطينيين في دعم أنفسهم في مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمر.

فرنسا خرقت الاتفاق الأميركي الإسرائيلي بشأن احتكار الحل بصورة مزدوجة: من ناحية، هي تريد أن تتدخل جوهريا وليس هامشيا في البحث عن حل، ومن ناحية أخرى، تريد إعادة الصراع إلى المحافل الدولية. من كلا الناحيتين، كان من المتوقع أن ترفض إسرائيل المبادرة حتى لو ألحقت ظلما بالفلسطينيين، ومن المتوقع ألا تدعم أميركا المبادرة بالقوة الكافية لإنجاحها، ولم يكن من المتوقع أيضا أن ترفض إسرائيل المبادرة قبل التشاور مع الأميركيين.

ارتكب الفلسطينيون خطأ -أو بالأصح خطيئة- إستراتيجية عظيمة عندما قرروا البحث عن حل لقضيتهم خارج المحافل الدولية ومن خلال الأميركيين. لم يقرأ الفلسطينيون الولايات المتحدة جيدا، أو أن مستشاريهم تعمدوا عدم القراءة الجيدة، فوقعوا في وهم احتمال قيام أميركا بالضغط على الصهاينة لتليين المواقف والاستجابة لبعض المطالب الفلسطينية. وعلى مدى سني المحادثات الفلسطينية الصهيونية مارست أميركا الضغوط على الفلسطينيين دون الإسرائيليين، وتركز همها على الأمن الإسرائيلي مع إغفال تام للأمن الفلسطيني.

لم تكن الأمم المتحدة نزيهة، وكانت حجر الأساس في تقسيم الوطن الفلسطيني وضياعه وتشريد الشعب، لكن لولا الضغوط الأميركية التي مورست على دول العالم عام 1947 لما اتخذت الأمم المتحدة قرارها بتغييب الشعب والوطن الفلسطينيين. على الأقل هناك في الأمم المتحدة من يرغب في قول الحق لصالح الفلسطينيين، أما في الولايات المتحدة فالحق غائب، وكل القوى الأميركية موجهة نحو خدمة الصهاينة والكيان الصهيوني.

ولهذا لم يكن من الحكمة أن يتجاوز الفلسطينيون الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية لصالح الهيمنة الأميركية، لم يجلب لنا الأميركيون سوى الدمار والخراب، وما زالوا يمعنون في ظلمهم وجبروتهم ضد شعب فلسطين.

سبق للرئيس الفرنسي جاك شيراك أن زار قطاع غزة وأعلن أنه مع قيام دولة فلسطينية، لكن ماذا عملت فرنسا بعد ذلك لتحقيق هذا الهدف؟ حتى الآن لا شيء. صحيح أن الرئيس الفرنسي قسا على نتنياهو عندما زار الإليزيه، لكن هذه القسوة لم تترجم إلى إجراءات عملية ضد إسرائيل. بقيت فرنسا تتحدث إعلاميا عن العدالة في المنطقة العربية الإسلامية، لكنها لم تصنع شيئا لتصحيح جرائمها التاريخية ضد الفلسطينيين والعرب، ولم تصنع شيئا لإرغام إسرائيل على تليين مواقفها بخصوص الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

زعماء فرنسا ما زالوا يخشون الصهاينة، ومن شدة خشيتهم سنوا قوانين تطال مواطنيهم الذين يمكن أن ينتقدوا الصهيونية وإسرائيل، وما زال الرئيس الفرنسي حبيس التطلعات الصهيونية العالمية، ولا يجرؤ على تحدي إسرائيل والولايات المتحدة. وقد رأينا كيف انساقت فرنسا بسهولة للأهواء الإسرائيلية والأميركية في عدد من الأقطار العربية، وساهمت في تدمير بلدان عربية وسفك دماء العرب.

وإذا كانت فرنسا لا تملك الجرأة والشجاعة للدفاع عن مواقفها فإنها يمكن أن تتنازل بسهولة عن رؤيتها للحل في المنطقة العربية الإسلامية. فرنسا ضعيفة أمام إسرائيل وأميركا، فضلا عن كونها أقل شأنا على المستوى العالمي من الناحيتين العسكرية والاقتصادية، ولا تستطيع مجاراة دول عظيمة مثل روسيا والصين.

قدرات فرنسا تراجعت نسبة لقدرات دول أخرى، ولم تعد صاحبة قرار على المستوى الدولي على الرغم من وجود تأثير محدود لها، ولهذا لا تستطيع أن تروج لمبادرتها جيدا أو أن تدفع بها إلى صدارة الحراك الديبلوماسي العالمي، وستضطر للتنازل عنها، أو إغلاق ملفها وتصديرها إلى السبات.

سجل فرنسا حيال القضية الفلسطينية مشؤوم وبائس، فقد تآمرت مع بريطانيا على تقسيم أرض الشام، وأفرزت الدولتان فلسطين الانتدابية لتخصيصها للصهاينة اليهود، وهي التي دعمت قيام دولة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، وهي التي زودت إسرائيل بمختلف أنواع الأسلحة، وخاضت إسرائيل حرب 1967 في الغالب بأسلحة فرنسية، وهي التي زودت إسرائيل بالمفاعل النووي الذي أنتج القنابل الذرية بعد ذلك. فرنسا صاحبة آثام كبيرة، وعليها أن تكفر عما صنعته بالشعب الفلسطيني قبل أن تطرح مبادرات.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل